غالبا ما تكون المواجهة بين الاحتلال -أي احتلال- وبين المقاومة -أية مقاومة- غير متكافئة من ناحية القوة العسكرية، حيث تتفوق جيوش الاحتلال المنظمة ومعداته العسكرية المتطورة وإستراتيجياته المتقدمة على المقاومة الشعبية الضعيفة التسليح والإعداد مقارنة بالمحتلّ. وعليه لا يكون هدف المقاومة على الأرجح إلحاق الهزيمة بعدوها بالضربة القاضية بقدر ما تهدف إلى إلحاق الضرر به مرة بعد مرة، بشكل يرفع من تكلفة استمرار الاحتلال على المدى الطويل.
بعبارة أوضح، تهدف المقاومة لإشعار الاحتلال بأن بقاءه أكثر تكلفة بكثير من جلائه، وأنه ما من سبيل لإجهاض جذوة التمرد والمقاومة نهائيا والعيش بسلام فوق الأرض المُغتصبة. تستغرق هذه المهمة في الغالب أجيالا لتحقيقها، ويذهب في سبيلها عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من الشهداء. وفي هذا الموقف، تستفيد المقاومة من حقيقة أن قدرتها على تحمل التضحيات والأضرار أكبر بكثير من قدرة المحتل، الذي يَعِد أبناءه برغد العيش، ثم يفشل هو في الوفاء بوعده مرة بعد مرة.
اقرأ أيضا
list of 2 items
“خاوة”.. العالم كما يراه يحيى السنوار
هكذا فعلها الفيتناميون.. كيف نفهم النصر والهزيمة في حرب غزة؟
end of list
تنطبق هذه التقدِمة التأسيسية أكثر ما تنطبق على حالة الصراع بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، حيث لا تهدف المقاومة لتحقيق نصر سريع وحاسم بقدر ما ترغب في إقناع الاحتلال بأن وجوده مهدد دائما وأن تكلفة بقائه على الأرض ترتفع باستمرار. ولا تخرج عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي (2023) عن هذا السياق، ففضلًا عن الأعداد الكبيرة من القتلى والأسرى من دولة الاحتلال، والتداعيات الاقتصادية والسياسية ذات الأثر السلبي الهائل، أحدثت العملية موجات من الاضطرابات في المجتمع الإسرائيلي، أبرز تجلياتها أن آلاف الإسرائيليين أصبحوا مقتنعين بأن إسرائيل لم تعد ذلك الوطن الآمن الذي وعدهم به مؤسسو دولة الاحتلال الأوائل، وأنهم خير لهم أن يحزموا أمتعتهم ويتركوا هذه الأرض عائدين من حيث أتوا.
الفرار بعد الطوفان
في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، كتب خوان كول، أستاذ التاريخ الأميركي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط ورئيس تحرير موقع “إنفورميد كومنت” المعني بالشؤون الخارجية، مقالًا جريئًا علق فيه على المقترح المثير للجدل الذي قدمه اثنان من المشرعين في دولة الاحتلال الإسرائيلي بأن تستقبل كل دولة في العالم 10 آلاف لاجئ فلسطيني من غزة إذا ما رغب الفلسطينيون في غزة في “الهجرة الطوعية”، وهو المصطلح الذي أطلقه النائبان الإسرائيليان على الهجرة الاضطرارية للفلسطينيين تحت وطأة القصف.
قرر خوان أن يقلب الطاولة في مقاله مؤكدا أن سكان إسرائيل هم في الحقيقة الذين يحتاجون مثل تلك المقترحات، حيث تظهر استطلاعات الرأي قبل فترة قليلة من عملية طوفان الأقصى أن ثلث الإسرائيليين كانوا يرغبون بالفعل في الهجرة، كما تظهر أيضا أن نصف الجيل الحالي من أصحاب الجنسية الإسرائيلية الذين يعيشون في الخارج ليس لديهم خطط للعودة إلى دولة الاحتلال مرة أخرى.
لم يفسر خوان رغبة العديد من أصحاب الجنسية الإسرائيلية في الهجرة من دولة الاحتلال بالأسباب الداخلية المتعلقة بتراجع الديمقراطية في البلاد وصعود تيار أقصى اليمين الديني، وإنما فسر تلك الرغبة المتصاعدة مؤخرًا بأنها أيضا “نتاج صدمتهم النفسية نتيجة عقود من محاولة الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وقمعهم، وما ينتج عن هذا القمع من عمليات مقاومة عسكرية مستمرة من الجانب الفلسطيني”، ومن ثم تجرأ خوان ليقترح على العالم الغربي أن يفتح الباب على مصراعيه لهؤلاء الإسرائيليين الراغبين في الهجرة وأن يمنحهم جنسيات بلاده فورًا ويسمح لهم بالبقاء فيها إلى أجل غير مسمى بل ربما يقرر منحهم الحق في إنشاء وطن جديد لهم في الغرب، خاصة أن الغرب نفسه هو الذي ساهم قرونًا في اضطهاد اليهود، وهو الذي أنتج “المشكلة الفلسطينية”. ودعا خوان ألمانيا بشكل خاص إلى أن تكفر عن ذنبها في الماضي، وأن ترفع ما سمّاه “القيود القاسية” عن هجرة اليهود إليها التي تشترط على من يرغبون في الانتقال إليها أن يتقنوا اللغة الألمانية على سبيل المثال.
رجّح مقال خوان كول أن أعداد أصحاب الجنسية الإسرائيلية الراغبين في الفرار من دولة الاحتلال قد ازداد بعد عملية طوفان الأقصى، لكن في وقت كتابة المقال لم تكن الأمور قد اتضحت بعد، حتى بدأت الأرقام تظهر رويدًا رويدًا بعد ذلك، فقبل بداية عام 2024 نشرت مجلة زمان الإسرائيلية بناء على ما قالت إنه معلومات صادرة عن هيئة السكان والهجرة الإسرائيلية أن 470 ألف إسرائيلي هاجروا بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى، وليس معلومًا ما إذا كانوا سيعودون إلى البلاد أم لا، علمًا بأن هذه الأرقام لم تشمل آلاف العمال الأجانب والدبلوماسيين الذين غادروا البلاد منذ اندلاع الحرب. وأظهرت الأرقام المبكرة أيضًا أن عدد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل قد انخفض مع الشهر الأول بعد الطوفان، أكتوبر/تشرين الأول 2023، بنسبة 50% مقارنة ببداية العام، ثم انخفض العدد بنسبة 70% في الشهر الثاني للطوفان، نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إذ هاجر فقط 2000 شخص إلى إسرائيل بين بداية أكتوبر ونهاية نوفمبر.
وبحلول يونيو/حزيران 2024 ذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أن نصف مليون إسرائيلي غادروا بالفعل دولة الاحتلال ولم يعودوا في الأشهر الستة الأولى من الحرب ولا يُعلم ما إذا ما كان ذلك قرارا مؤقتا أم أنه سيتحول إلى هجرة دائمة. وفي يوليو/تموز، أكدت الصحيفة نفسها نقلًا عما أوردته القناة الثانية عشرة الإسرائيلية الإخبارية اعتمادا على بيانات المكتب المركزي للإحصاء، أن عدد أصحاب الجنسية الإسرائيلية الذين غادروا بشكل دائم بعد طوفان الأقصى ارتفع بشكل كبير في الشهر الأول من الحرب ثم انخفضت أعدادهم نسبيا في الأشهر التالية.
وتذكر الصحيفة في هذا السياق أن الإسرائيليين كانوا يهاجرون بالفعل بوتيرة مرتفعة منذ منتصف عام 2023. وبحسب تلك الأرقام الجديدة التي ذكرتها الصحيفة العبرية فقد هاجر حوالي 12300 إسرائيلي في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولم يعد هؤلاء حتى شهر يونيو/حزيران 2024، ثم غادر البلاد 30 ألف إسرائيلي على نحو دائم في الشهرين التاليين، وفي المقابل رُصد انخفاض واضح في عدد الإسرائيليين العائدين من الخارج هذا العام مقارنة بالعام السابق.
يعد تعداد الإسرائيليين الذين هاجروا من دولة الاحتلال خلال الشهر الأول للطوفان مفزعا، حيث تؤكد بيانات هيئة الإحصاء الإسرائيلية أنهم كانوا أكثر بنسبة 285% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022، وقد أكدت القناة الثانية عشرة في تغطيتها أن الأدلة تشير إلى أن جل من فروا من دولة الاحتلال من نوفمبر/تشرين الثاني 2023 حتى مارس/آذار 2024 لا ينوون العودة مرة أخرى، وأنهم بدؤوا بالفعل الانتقال التام بحياتهم إلى خارج البلاد.
في السياق ذاته، أكد تقرير نُشر في يوليو/تموز الماضي عن معهد “سياسة الشعب اليهودي” أن ربع اليهود في دولة الاحتلال و40% من فلسطينيي الداخل أصبحوا يفكرون في الهجرة فور أن تتاح لهم الفرصة بسبب الحرب. وبحسب صحيفة “جيروزاليم بوست” فإن هذا الإحصاء يعكس انخفاض ثقة المواطنين في قيادة جيش الاحتلال. ومما يلفت الانتباه في هذا التقرير أنه أوضح أن أصحاب التوجه اليميني في إسرائيل أصبحت الأغلبية العظمى منهم لا تثق في قيادة جيشها، ولا حكومتها، بل وأوضح أن نسبة معتبرة من اليهود في دولة الاحتلال ممن كانوا يميلون في السابق إلى العدوان العسكري أصبحوا منفتحين نسبيا على الحلول الدبلوماسية.
تخبرنا هذه التقارير مجتمعة عن حقيقة واضحة هي أن هجرة المواطنين اليهود من دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر أصبحت ظاهرة واضحة لا يمكن تجاهلها، رغم أن قصر المدة واختلاف معايير الإحصاءات يصعّبان مهمة الوقوف على حجمها بدقة فضلا عن مآلها النهائي. وفيما يبدو فإن المسؤولين في دولة الاحتلال فطنوا إلى ذلك الأمر، حتى إن وزير المالية المنتمي إلى اليمين المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، أعلن في فبراير/شباط 2024 خطة لمنح مكافآت مالية للمهاجرين الجدد القادمين من الغرب إذا ما عاشوا ضمن ما سمّاه “الحدود الجنوبية أو الشمالية لإسرائيل”، أو في الضفة الغربية.
ومن الواضح أيضًا أن الأشهر الماضية لم تشكل فقط تحديا سياسيا وأمنيا لدولة الاحتلال، وإنما فرضت أسئلة اجتماعية وديموغرافية صعبة، ليس فقط لأن الدولة التي طالما وُصفت بأنها لا تقهر تعرضت لهجوم مباغت مذلّ من جماعة لا تضاهيها بأي حال على المستوى العسكري، ولكن أيضًا لأن قطاعات واسعة من المجتمعات في العالم أصبحت تنظر إليها بوصفها كيانًا محتلًّا، وتعبر بوضوح عن كون استهدافها يعد مقاومة وليس إرهابا ويعبر عن تطلعات وطنية مشروعة بحكم العرف التاريخي والقانون الدولي كليهما.
اتجاه متصاعد
لا تقف الأخبار السيئة بالنسبة إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي عند هذا الحد، حيث تشير صحيفة غلوبس وهي صحيفة اقتصادية في إسرائيل، إلى مسألة مهمة وهي أن الأرقام والإحصاءات الحالية حول الهجرة العكسية من دولة الاحتلال لا تعكس بعد التأثير الكامل للحرب الدائرة حاليا. وأيا ما كانت النتيجة النهائية لهذه “المواجهة العسكرية”، فمن المرجح أن هناك المزيد من التداعيات السلبية القادمة على الاقتصاد والسياسة والمجتمع في إسرائيل. وبمجرد نهاية العمليات العسكرية، سوف تدخل إسرائيل في أتون حرب سياسية ضارية تغذيها بيئة اجتماعية ملتهبة وتحيطها تحديات اقتصادية شاملة أهونها عجز كبير في ميزانية الدولة سيؤدي إلى ارتفاع حتمي في الضرائب وإجراءات تقشف وتقلص في الخدمات العامة؛ مما قد يدفع المزيد من سكان إسرائيل إلى اتخاذ قرار الرحيل.
تشير الصحيفة كذلك إلى أن دولة الاحتلال غالبا ما تفضل غض الطرف عن ظاهرة الهجرة العكسية المتزايدة للخارج، وتؤكد أن تجاهل تلك الظاهرة يضرب بجذوره بعيدًا حيث يتعلم التلاميذ في المدارس مثلا عن الهجرات الكبيرة إلى إسرائيل، لكن لا أحد يخبرهم بشيء حول موجات الهجرة العكسية المتتابعة، وهو ما يجعل هذه الظاهرة تتفاقم في صمت، خصوصا في أجواء ملتهبة مثل أجواء السابع من أكتوبر وما بعده، والتي لا يرغب أحد فيها بإثارة ذعر المجتمع الذي يعيش فيه بالفعل داخل دائرة مغلقة من الخوف.
في خضم هذا التجاهل الرسمي، حاولت صحيفة فوروارد الأميركية اليهودية أن تتبع الظاهرة من خلال تحقيق لها تحدثت فيه مع المخططين للهجرة داخل دولة الاحتلال، وقد عكس التحقيق شيئا من آثار عملية السابع من أكتوبر وما بعدها على قرارات هجرة الإسرائيليين. مثلا، عبرت سارة مان، وهي محررة تبلغ من العمر 55 عامًا وتعيش في تل أبيب عن الأمر بقولها: “لقد انكسر العقد الاجتماعي… نحن نعيش هنا، ندفع الضرائب هنا، نرسل أطفالنا إلى الجيش، نتحمل المشاق والمتاعب، ونتوقع الحماية من الدولة. نتوقع أن نبقى آمنين. لكن من الواضح أن الحكومة فشلت، والجيش فشل، وآلية الأمن فشلت… لماذا لم يكن هناك أمن على حدود غزة؟ لقد خانتنا حكومتنا”، وقالت إسرائيلية أخرى هاجرت حديثا إلى نيويورك: “نحن الأنجلوسكسونيين مبرمجون بشكل مختلف بعض الشيء عندما يتعلق الأمر بصافرات الإنذار والصواريخ. لم ينشأ أي منا على التعامل مع مثل هذه الأنواع من التهديدات، ومن الصعب علينا أن نشعر بالثقة التامة في أن الأمور سوف تسير على ما يرام”.
كشف التحقيق عن حقيقة مهمة أخرى، وهي أنه على الرغم من كون الحرب كانت بمثابة “القشة التي قصمت ظهر البعير” بالنسبة للكثير من المهاجرين والمخططين للهجرة في إسرائيل، فإن الدوافع وراء هجرتهم لم تكن الحرب أو عمليات المقاومة فقط، بل كان منها كذلك شعورهم بأنهم يعيشون في مجتمع يتجه بوتيرة متصاعدة نحو التطرف الديني، إذ عبر بعض من التقاهم معدو التحقيق عن قلقهم البالغ بشأن تراجع حقوق المرأة في إسرائيل، وبشأن الافتقار إلى التسامح والرغبة في التعايش لدى الشارع الإسرائيلي ليس فقط مع العرب وإنما حتى بين العلمانيين والمتدينين في دولة الاحتلال ذاتها، كما عبر بعضهم عن شعوره بأن دولته تفقد شرعيتها على المستوى الدولي، وكان هناك خوف واضح من أن صعود التطرف الديني داخل الدولة يهدد أسلوب الحياة “الليبرالي” للعديد من المواطنين، كذلك عبر بعض آخر عن “اشمئزازه” من تلك الرغبة العارمة في الشارع في مواصلة الحرب وقتل المدنيين في غزة بدلًا من التسويات السياسية.
نأخذ على سبيل المثال حالة أليكس غولدمان وهو مواطن في دولة الاحتلال، ومدير تنفيذي في مجال التكنولوجيا وافقت بولندا مؤخرًا على إعطائه جنسيتها لأن أبويه بولنديا الأصل و”ناجيان من الهولوكوست”. يقول غولدمان صراحةً إن العرب وحتى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ليسوا هم الذين دفعوه إلى الهجرة، وإنما مَن يخيفونه حقا هم اليهود المتدينون المتطرفون من أقصى اليمين المتطرف الذين “استولوا على إسرائيل وجعلونا نسأل متى قد نحتاج إلى الفرار”. وبحسب غولدمان فإن زعماء أقصى اليمين المتطرف “استولوا على الدولة” وأصبحوا يحرضون على النشطاء اليساريين في مناخ خانق لحرية التعبير لدرجة جعلته هو نفسه يحذف منشورات “نقدية” كتبها في السابق على الفيسبوك. وبشكل أعم، تشير إحدى المسؤولات في شركة أوشن غروب المتخصصة في مساعدة من يريدون الهجرة إلى خارج دولة الاحتلال إلى أن دوافع المهاجرين تدور عادة حول مخاوف السلامة الشخصية، والإحباط السياسي، وارتفاع تكلفة المعيشة.
ما قبل الطوفان
لطالما دأبت ثقافة دولة الاحتلال منذ إنشائها وتشريد الفلسطينيين من أراضيهم على وصم أولئك الذين يهاجرون منها ولا يواجهون “تحديات” الاحتلال وتبعاته بشجاعة، ويظهر ذلك في استخدام كلمة “يورديم” التي تعني بالعبرية “الهبوط” لوصف هؤلاء المهاجرين إلى الخارج، في مقابل استخدام الكلمة العبرية “عاليه” التي تعني “الصعود” لوصف هؤلاء الذين يهاجرون إلى دولة الاحتلال، إذ كان يُنظر حتى وقت قريب إلى الإسرائيليين الراغبين في الهجرة خارج “أرض الميعاد” على أنهم يقومون بفعل أقرب إلى الخيانة.
لكن تقارير الصحافة العبرية تلاحظ أن ثقافة وصم المهاجرين هذه قد تلاشت تدريجيا، خاصة مع اتجاه العديد من الإسرائيليين إلى الهجرة إلى الخارج لأسباب اقتصادية. وفي عام 2022 نشرت صحيفة “إسرائيل اليوم” اليومية استطلاعًا للرأي استخلصت من خلاله أن 69% من مواطني دولة الاحتلال يريدون الانتقال إلى خارج البلاد لدواعٍ اقتصادية في مقابل 46% في العام الذي سبقه.
يخبرنا ذلك أن ظاهرة الهجرة العكسية كانت تختمر في إسرائيل منذ سنوات طويلة، وربما أحيانا لأسباب تتجاوز المقاومة الفلسطينية وحدها نحو أسباب أخرى تتعلق بالداخل الإسرائيلي نفسه. وبشكل عام يمكننا أن نلاحظ حتى من قبل طوفان الأقصى فقدان الكثير من الليبراليين واليساريين في إسرائيل الثقة والأمل في دولتهم في السنوات الأخيرة مع صعود اليمين المتطرف وانحسار الديمقراطية، إذ أصبح الكثير منهم يعتقد أن دولتهم “اليهودية الديمقراطية” قد ذهبت في اتجاه معاكس لما كان ينبغي أن تكون عليه.
وفي عام 2023 كان ملاحظًا بشدة تزايد عدد مواطني دولة الاحتلال الذي يصطفون أمام السفارات الأوروبية من أجل الحصول على جوازات سفر أجنبية، وكانت أرقام مكاتب السياحة الغربية تؤكد الاتجاه نفسه، ومنذ تشكيل حكومة نتنياهو الأخيرة قبل الطوفان زادت نسبة الراغبين في الجنسيات البرتغالية والألمانية والبولندية، وأعلن مكتب الاتحاد الأوروبي زيادة عدد الإسرائيليين الراغبين في الحصول على جنسيات أوروبية، بل وصارت الكلمة الأكثر انتشارًا في عمليات البحث على غوغل داخل دولة الاحتلال هي كلمة “الانتقال”.
في مطلع عام 2023، وقبل عشرة أشهر كاملة من طوفان الأقصى، صرح شاي أوبازانيك المدير الأول في منظمة “أوشن ريلوكيشن”، التي تقدم خدمات المساعدة على الهجرة من دولة الاحتلال وإليها لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، بأن الشركة تتلقى أكثر من 100 استفسار يوميًّا من إسرائيليين يتطلعون إلى الهجرة خارج البلاد منذ أن طرح اليمين الإسرائيلي مسألة “إصلاح” النظام القضائي وهي القضية التي أثارت الكثير من الاحتجاجات في شوارع دولة الاحتلال باعتبارها انقلابا على الديمقراطية. وبحسب أوبازانيك فإن هذا العدد من طلبات الاستفسار عن سبل الهجرة لم يسبق له مثيل في تاريخ المنظمة البالغ 80 عاما.
يمكننا القول إذن إن عملية المقاومة النوعية وغير المسبوقة في أكتوبر 2023، جاءت لتغذي ظاهرة كانت تتفاقم بالفعل لأسباب مختلفة، منها المقاومة نفسها المستمرة منذ عقود، التي زرعت اقتناعًا لدى مواطني الاحتلال بأن الفلسطينيين لن يتخلوا عن قضيتهم، ومنها الانقسامات الداخلية وارتداد دولة الاحتلال إلى نموذج بعيد عن دولة الرفاه الديمقراطية التي وعد بها الصهاينة المؤسسون.
وهذه الهجرات إلى الخارج لن تؤثر فقط ديمغرافيًّا في دولة الاحتلال عبر الإخلال بنسبة اليهود فيها، علمًا بأن التأثير الديمغرافي هو أحد أكبر هواجس الاحتلال دائمًا، بل إنها ستدفع أيضًا الليبراليين واليساريين والمتعلمين تعليمًا “راقيًا” بشكل خاص نحو الفرار؛ مما سيجعل إسرائيل بمرور الوقت أكثر تطرفًا وانغلاقًا وعزلة عن العالم، خاصة أن دولة الاحتلال لا تسمح لمواطنيها بأن يصوتوا من الخارج، وهو ما يعني أن من سيتحكم في مستقبل دولة الاحتلال في النهاية هم جوقة من تيارات أقصى اليمين الذين تداعب عقولهم أوهام التوسع والسيطرة، عبر ممارسة المزيد من القمع، والمزيد من إراقة الدماء.