تعبق أعماله الروائية بمساحات الفن التي تتكون دائما كخلفية، إن لم تكن جزءا لا يتجزأ من العمل الروائي في حد ذاته. حيث عودنا في عدد من أعماله الروائية على اللوحات الفنية والموسيقى والرقص، يرتحل عبر الأمكنة مجاورا أحداث رواياته، خريج مدرسة فرنسية خلفها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، لكن العربية لم تكن مجرد لغة ثانوية، بل هاجسه منذ الطفولة، وقد مثلت له لغة الالتزام وتعبيرا عن الهوية، ولغة أعماله الغزيرة.
ضيف هذا الحوار الروائي الجزائري الدكتور واسيني الأعرج، الذي يقول للجزيرة نت إن “رحلاته تواصلت عبر مدن العالم خلال عام 2022م، وذلك بهدف الاطلاع على الأمكنة المتصلة بأعماله الروائية”، وعن علاقته بالأمكنة التي يتناولها في بعض من رواياته، يؤكد أنها “أخذت جل وقته وتنقل بين عدد من الأمكنة للاطلاع على مزيد من الأحداث المتصلة بشخصيات رواياته”.
ويلفت صاحب “شرفات بحر الشمال” (2015)، و”أنثى السراب” (2009)، و”عازفة البيكاديلي” (2022). إلى أنه يستمتع بتنقلاته بين الأمكنة لإنجاز أعماله الروائية ولكنها منهكة جدا، -حسب تعبيره- ويذكر “أنا كبرت في مجتمع نسوي.. والمرأة جزء من الهاجس المركزي في رواياتي”.
ويضيف “أرفض أن أكتب فقط من المتخيل”، وعلاقتي بالمدينة علاقة واهية.. والقرية عالمي الأول”، ويؤكد أن”علاقاته باليوميات الريفية قوية جدا”.
وعن دمشق، قال الأعرج “تعلمت هناك الكثير، ربما لو كنت في مكان آخر لكان لي مسار مختلف”. وحول تأثير الحياة الاجتماعية على واسيني الأعرج، قال إنها صنعت تجربتي الروائية المتفردة، فإلى الحوار:
-
ما سر الحضور اللافت للشخصية النسوية في روايتك؟ هل المرأة ملهمة لواسيني؟
طبعا حضور المرأة واضح يبدأ من العنوان، أغلب العناوين هي عناوين تحيل إلى نسوية محددة بالمعنى الإيجابي طبعا، “سيدة المقام”، “عازفة البيكاديلي” التي هي آخر رواية صدرت لي عام 2022، ورواية “أنثى السراب”، “الليلة السابعة بعد الألف” تحيل إلى الليلة التي هي مؤنثة، إلى غير ذلك، لدي 10 روايات تحمل العنوان النسوي أو التسمية النسوية.
وهذا في الحقيقة له مرجع قديم، أولا أنا كبرت شخصيا في مجتمع نسوي. إضافة لذلك فأنا كبرت داخل عائلة النسبة النسوية فيها كبيرة ونسبة الذكور قليلة، حيث كبرت في هذا الوسط وفي الوسط العائلي الضيق، والدتي وخالاتي وعماتي تقريبا كلهن بنات، وكتبت بعض النصوص عن شقيقتي زليخة التي توفيت وهي شابة، وأنا أعدها شخصيا شهيدة.
فهذه الأمور ليست بسيطة، ولكنها تؤكد أن هذا المجتمع الأنثوي لم يكن مجتمعا هكذا بلا معنى على العكس كل النساء، كلهن يشتغلن ويعملن في الصوف، في الخياطة، يعملن في الحقول وفي الفخار لكي يتمكن من العيش. فأنا كبرت قريبا منهن فأنا أحببت واحدة من العائلة، بنت خالتي. طبعا الأمور سارت على غير ما أطمح إليه، وهذا طبيعي لأنني كنت صغيرا ولم أستطع تقدير الأمور بدقة.
وأقصد أن كل هذا الأمر الأنثوي له تأثيراته على الجانب الأدبي ويشكل اليوم جزءا من ذاكرتي، لأنني أعد أن المرأة تملك من القوة ما لا يملكه الرجل، الرجل يظن بأنه يملك القوة والذكاء والسلطة، ولكن كل سلطاته المختلفة المحرك الأساسي من ورائها النساء، سواء في حالة البغضاء والشر أو في حالة الحب والرحمة والإصغاء والاستماع إلى الآخر. إذن، فالمرأة حاضرة ليس بالمعنى المثالي دائما ولكن حاضرة بقوة وحاضرة أيضا كقوة فعالة في المجتمع، وليس قوة ثانوية.
المرأة جزء من الهاجس المركزي في رواياتي
المجتمع النسوي له حضور وعلينا أن نصغي إليه، لأنه يملك نفس طاقات الذكر، وربما أكثر في بعض الحالات، لهذا أنا كتبت عن المجتمع الذي كبرت فيه واستمر معي وإلى اليوم صداقاتي صداقات نسوية أكثر منها ذكورية، لا أدري ربما قد يكون للجانب التاريخي الفردي دور أساسي، ولكن حتى في التأثيرات الأدبية والثقافية وجود المرأة حاسم، مثلا في رواية “نساء كازانوفا” (2016)، رجل بين 4 نساء زوجات وخادمة يعني 5 نساء يحاسبن عما فعله فيهن.
وفي رواية “أنثى السراب” في صراعها مع زوج طاغية مافيا كيف تنشئ حياتها الهامشية كي تستمر في الحياة. وفي رواية “سيدة المقام” (2006م)، امرأة تقاوم التطرف الديني لأنها راقصة باليه وتحرم من رقص الباليه ولكنها ترد على ذلك لدرجة الموت، وفي رواية “عازفة البيكادلي” (2022م)، هذه المرأة التي تعزف من أجل الحياة وليس من أجل شيء آخر. من هنا أرى أن القدرات النسائية كبيرة ومهمة ومنظمة وموجهة بدقة. وعادة البطولة تكون نسائية في رواياتي أو مشتركة مع الرجل، فأنا لا أفصل بين الرجل والمرأة سوى أن هناك مسارا حياتيا أنا نشأت وكبرت فيه وأثر في وهو إلى اليوم موجود وهو جزء من الهاجس المركزي في رواياتي.
أرتحل نحو الأمكنة التي أكتب عنها
-
في رواية “الأمير” تتخيل الأمير عبد القادر الجزائري، وزواره وأفعاله وكذلك محاورته، هل بالضرورة زيارة مكان موضوع الرواية عند كتابة رواية تاريخية؟
أنا ذهبت في مسار خاص وهو مسار كتابي أكثر منه تاريخي، بمعنى أنا أرتحل نحو الأمكنة التي أريد أن أكتب عنها أو أدير فيها قصصي أو رواياتي التاريخية، مثلا أنت ذكرت الأمير والأمير شخصية تاريخية معروفة وكبيرة وثقيلة، والكتابة عنها تحتاج إلى معرفة كل التفاصيل، إلى أن التفاصيل الخاصة بالأمير عبد القادر متناقضة جدا، وإن كان مسارها الطبيعي هو مسار المقاومة ورفض المستعمر، ولكن مع ذلك نسمع هنا وهناك من يقول عكس ذلك، بأنه سلم نفسه للفرنسيين وكان بإمكانه المقاومة، هكذا يقولون.
أنا أضع كل هذه الأمور جانبا وأدخل في غمار التجربة، أي أنني أزور الأمكنة بعد قراءة التاريخ طبعا والحصول على الكتب والمجلدات التي تحدثت عن الشخصية في مختلف اللغات في الفرنسية، العربية، الإسبانية، الإنجليزية تحديدا، وتعرفت على الشخصية كثيرا معنى ذلك أنا أصبحت سيد المعرفة بالنسبة لهذه الشخصية التي أريد أن أكتب عنها.
ويعتقد كثير من الناس أنني مختص في تاريخ الأمير، حيث يتم توجيه الدعوة لي لحضور ندوات تاريخية، ونشر الكتاب بالعربية ثم بلغات متعددة ومنها الفرنسية. فأقول لهم أنا لست مختصا بالأمير، أنا محب للأمير لهذه الشخصية العظيمة متابع لتاريخها، ويهمني ما قام به هذا الرجل الذي نفي عن الجزائر لمدة 17 سنة من دون توقف، كان يدخل في اتفاقيات يناضل ويقاتل.. وغيرها، الأمير كان قائدا ورجل ميدان أيضا، ولم يدر الأمور من وراء المكاتب وربما هذا أعظم ما فيه. طبعا أنا لكي أكتب عن الأمير إضافة للمعرفة الخاصة به تاريخيا وثائقيا، أسافر للأمكنة المختلفة، هذه أصبحت ظاهرة خاصة بي، وأصبح يسير في مسلكها بعض الأصدقاء الذين يكتبون في الرواية التاريخية.
وبالنسبة للأمير عبد القادر الجزائري، ذهبت إلى أمكنة معاركه وذهبت إلى المكان الذي هزم فيه بحي وهران، كما ذهبت إلى الأمكنة التي انتصر فيها وكذلك الأمكنة التي سجن فيها في فرنسا لمدة 5 سنوات. سواء في قصر هنري الرابع في مدينة بو (جنوب غرب فرنسا)، أو سجن في تولون (جنوب شرق) ثم في قصر شاتو دامبواز من 1848م حتى إطلاق سراحه في عام 1852م، ولا تزال الجالية تحتفل بالأمير عبد القادر إلى اليوم، ولا تزال قبور الموتى من مرافقي الأمير الذين دفنوا في هضبة قصر دامبواز داخل القصر، تلك الأماكن تعطيك إحساسا بأنك أصبحت قريبا من شخصية الأمير، فعندما زرت القصر ذهبت بالضبط إلى المكان الذي كان فيه الأمير، ويحكي عنه بعض المؤرخين كيف كان باردا وجوانبه خضراء بسبب الرطوبة لدرجة أن بعض أفراد العائلة ماتوا بسبب البرد والإهمال، كما أنني شعرت بالبرد، وأنا أتجول في المكان، طبعا القصر اليوم قصر ومتحف، ولا يوجد به أي شيء من هذا القبيل.
عندما ترى الزوايا والأمكنة ترى الصالة الكبيرة التي قسمت اليوم إلى صالات متعددة، تشعر بأن الحالة كانت سيئة وذات صعوبة بالنسبة للأمير وهو يكتشف عالما لا عهد له به.
وكان الأمير (1808-1883م) قد كشف يومها الخيانة، فالفرنسيون وعدوه إن أوقف الحرب سيرسل إلى المكان الذي يريد، وحقنا للدماء قبل بالمفاوضات وبنتائجها، وكان ينتظر أن يرسل إلى دمشق أو إلى عكا أو الإسكندرية، أو حتى إلى تركيا أرض الإسلام، ولكن منع من ذلك، وأدخل إلى السجن.
“أرفض أن أكتب فقط من المتخيل”
هذه الأماكن يجب أن يعرفها الكاتب ويحس بها، قد تعتمد على التخييل طبعا لا يوجد مشكلة، لكن هناك تضاريس للمكان وطبيعة القصر والأمكنة عندما تتحدث عنها أنت تتحدث من موقع العارف بالتفاصيل، وليس من موقع الذي يفترض.
وزرت مؤخرا -وأنا أهيئ للجزء الثاني من كتاب “الأمير”- المكان الذي سافر منه الأمير لآخر مرة في مدينة الغزوات وهي قريبة من مسكني الريفي عند الأهل، زرت المكان وشاهدت البيت الذي كان فيه وقضى فيه ليلته الأخيرة، ورأيت للأسف إهمالا كبيرا للبيت، وحز ذلك في نفسي، بينما هذا البيت جزء من تاريخ تلك الشخصية.
هذه الأمور كلها أنت تلعب فيها دورا اجتماعيا كمثال له علاقة بهذه الأمكنة، وإذا أمكن ترميم تلك الأمكنة إذا كانت مهملة وخصوصا بالنسبة للجزائر، لأن ذلك يمثل جزءا من تاريخها الخاص، وتاريخ الأمير في فرنسا لمدة 5 سنوات هو تاريخ طارئ وفي الجزائر حياته بكاملها وبداية صوفيته وحجه للمرة الأولى.
وكذلك معاركه، حيث يحتاج الجزائريون أن يتعرفوا إليها أيضا. وبالتالي، فإن زيارة الأماكن وفهم الأماكن وملامسة الأماكن وشم الروائح واستعادة الأماكن كلها جزء من الكتابة الروائية هذا باعتقادي. والشيء نفسه قمت به عندما كتبت عن مي زيادة ذهبت إلى فلسطين مسقط رأسها، وذهبت للقاهرة مكان عملها والمقبرة التي دفنت بها، وذهبت إلى ضيعة شحتول في بيروت حتى إقامة أهلها من آل زيادة، وكذلك ذهبت إلى الأماكن المسيحية التي درست فيها، كما أنني ذهبت إلى كل الأماكن التي تتعلق بشخصيتها، هي أمور جدا مهمة وليست أشياء إضافية.
أنا شخصيا أرفض أن أكتب فقط من المتخيل، المتخيل مهم جدا، لكن معرفة الأماكن أهم بكثير، طبعا أنت لن تبقى حبيسا للأماكن بعد ذلك يأتي التخييل قوة أدبية عظيمة ترتقي بالنص من التاريخ نحو التخييل، لكن قبل التخييل يجب أن نعرف الأمكنة معرفة جيدة، بحيث إن من يتحكم بمساحة الكتابة يجب معرفة الأماكن معنى ذلك أنت سيد الأمكنة أنت سيد هذا الفضاء تحركه كما تشاء ولا تبقى عبدا للتاريخ نفسه، بعد ذلك أكيد تدخل عملية التخييل عن معرفة سابقة للأمكنة.
الفنون الشعبية هي الروح العميقة للشعوب
-
قارئ رواياتك يرى حضورا طاغيا للبحر؟ ثم إن كثيرا من أبطال رواياتك فنانون، في رواية “شرفات بحر الشمال” بطلها نحات جزائري هاجر إلى هولندا، وفي رواية “سوناتا لأشباح القدس” بطلة الرواية تشكيلية فلسطينية، وفي رواية “سيدة المقام” البطلة راقصة باليه جزائرية. هل يعد اهتمامك بالفنون ظاهرة خاصة بواسيني الأعرج؟
طبعا المتأمل العادي والمتابع لأعمالي الروائية سيكتشف أن موضوعة الفنون مسيطرة جدا على أغلب الروايات، بدءا من الروايات الأولى مثلا “وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر” (1983)، نجد فيها مثلا ظهور الفنون الشعبية من الأغاني والعادات والتقاليد، ولكن كلها ذات طابع موسيقي وطابع فني، أو بالرسومات على المواقع على الجدران على الزرابي على الأغطية.
هذا كله جزء من ثقافتي الشعبية، كان هذا في الروايات الأولى. ورواية أخرى “ما تبقى من سيرة لخضر حمروش” (1981)، كلها سارت وفق هذا النمط الفني، وذلك بالنسبة لي الفنون الشعبية هي الروح العميقة للشعوب هي تقاليدها وتاريخها وهي تاريخها الرمزي، لأن الشعوب لا تروي تاريخها بالكلام فقط، ولكنها تروي أيضا بالرموز، توجد مثلا الأشكال القديمة، مثلا المربعات المثلثات، والمثلثات الملتصقة مع بعض، الدوائر والخطوط المتوازية، نجدها في الزرابي، ولكن كلها تعبيرات حتى عما هو ممنوع، حتى بعض الأنثروبولوجيين يشرحون هذه القضايا بالمعنى السياسي والمعنى الجنسي وحتى بالمعنى الديني، الثقافي وخصوصا بالنسبة إلى الإبادات القديمة.
هذه الروح لا يمكن أن تتجلى فقط في رمز واحد، وأنا اعتمدت فعلا من هذا الموقع بحثا عن الروح العميقة الموجودة عند الشعوب، وأنا تحدثت عن الشعب الجزائري، ولكن هذا الشعب له امتدادات في الوطن العربي، كما أن الرموز الأمازيغية دخلت كثيرا في أعمالي الأدبية، هذه واحدة من الروايات الأولى، لأن العوالم كانت عوالم شعبية، عوالم محدودة كعالم القرية بنظامها وثقافتها بحدودها بناسها بحيواناتها بطبيعتها أيضا، كان هذا عالمي الأول، لأني كنت ما أزال منغمسا في هذا العالم، وهذا في الحقيقية يشكل البنية التحتية الفكرية، فأنا أستطيع أن أحب أي فنان شعبي، وأحب أيضا الموسيقي الفرنسي هيكتور بيرليوز (1803-1869م)، والمؤلف الموسيقي الإيطالي جوزيبي فيردي (1813-1901م)، وبورودين (1833-1887م)، أو الموسيقي النمساوي فولفغانغ أماديوس موزارت (1756-1791م)، إذن ليس لدي خطوط داخلية، ولكنها غير مرئية، فأنا في الموسيقى طبعا يكفي أن يوجد مناخ معين حتى أجد نفسي داخل تلك الموسيقى وداخل تلك الرقصات، سواء كانت شعبية أو كلاسيكية أو غيرها، والشيء نفسه أيضا بالنسبة للفنون السماعية.
علاقتي بالمدينة علاقة واهية.. والقرية عالمي الأول
جاءت أعمالي الأولى مرتبطة تماما بالريف والقرية، والأعمال التي جاءت فيما بعد، وهذا مرتبط بنسق حياتي فأنا بقيت في القرية حتى السن الـ11، تقريبا علاقتي بالمدينة علاقة واهية، ولكن علاقتي باليوميات الريفية قوية جدا، وأنا ابن هذا الريف، ثم بدأت هذه العلاقة تتمدد لا أقول تتطور، لأن السابق متخلف، بالتأكيد لا، فأنا الذكريات السابقة خزنتها، فعندما ذهبت إلى بلدة تلمسان انفتحت على الثقافات الإنسانية الجديدة والحديثة أيضا والموسيقى الكلاسيكية، وعلى السينما على كل ماله علاقة بالحداثة، وبدأت أشتغل في هذا السياق، فعندما بدأت أكتب، إذن هذا الجزء الثاني من مكوناتي الداخلية الفنية استيقظ أيضا، ويستيقظ عندما أنجز نصا من النصوص، طبعا بعدها تطورت الحالة بشكل عميق مثلا مع الباليه مع السمفونية.
وأصبح الفن هو الوسيلة في ظل الوسائط القمعية والبحث عن حرية الفرد، بالتالي أصبحت الموسيقى هي الحائط الأساسي الذي نقف من ورائه، لأن الفن له طابع الخلود، الفن لا ينتهي لا يموت إلى اليوم لا نزال نستمع إلى الفنانين الكبار والموسيقيين العالميين، ومر على وفاتهم قرنان أو 3 قرون، ولا نشعر نهائيا بالغياب، بالعكس نشعر وكأنهم موجودون معنا، والكتابة هاجسها هو هاجس الخلود عبر الكلمات عبر المفردات عبر الوقائع عبر الأحداث.
اليوم نقرأ للروائي الفرنسي أونوريه دي بلزاك (1799-1850م) ولا نشعر بأن بلزاك ابن القرن الـ19، أقرأ دون كيشوت لميغيل دي سرفانتيس (1547-1616م)، ولا أرى أن هذا الرجل ينتمي إلى القرن الـ16، مطلقا لا يزال هذا الرجل بيننا يضحكنا ويمتعنا. إذن هذه الصفات الأساسية في الفن أعتقد هي الدافع القوي للكتابة في اللاشعور، وهذا الدافع الخلودي لا تريد لهذه الأشياء أن تنتهي الوحيد الذي يحافظ عليها هو الفن.
الفن جزء من كياني الداخلي
عندما يواجه الإنسان آلة الموت الساحقة، بواسطة الفن نستطيع أن نهزمها ولو مؤقتا، مثلا الحرب التي خضناها ضد التطرف الديني في تسعينيات القرن الماضي في الجزائر، عبر 10 سنوات من الموت والتقتيل (1992-2022)، كان يجب أن أقول مهما قتلتم الأفراد والجماعات مهما ذبحتم الناس فلن تفلحوا، فالصيرورة موجودة والحياة موجودة وهي التي ستنتصر، فمثلا في “سيدة المقام” (2015)، هذا هو الإشكال الأساسي كيف تجعل بطلة الرواية، أولا امرأة.
ولأن المرأة نعرف شرطها الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية للأسف، ليس شرطا جيدا، وكيف تجعل منها كيانا حيا مقاوما متنورا مدافعا عن الحق، وفي رواياتي جعلت منها حقيقة امرأة نموذجية تدافع فقط عن الحق في أن ترقص الباليه، بمعنى أن ترقص الباليه ترقص موسيقى معناه أن تعطي لأبطالها خصوصا مع الموسيقي الروسي نيكولاي ريمسكي كورساكوف (1844-1908)، الذي أنجز “رائعة شهرزاد”، فهي تؤدي رقصة “رائعة شهرزاد” موسيقى ورقص، فكيف يتم تحويل الموسيقى إلى كلمات ومفردات هذا كان الرهان الكبير لهذه الرواية، وأعتقد أن القراء أحبوا كثيرا هذه الرواية، إذ مثلت قفزة نوعية في كتاباتي.
إذن، فالفن ليس ميزة أريد أن أتميز بها، ولكنه جزء من كياني الداخلي في البحث عن جدوى الأشياء لإعطاء حياة لأشياء بدأت تموت، ولكن لا نقبل بهذا الموت السريري القاتل للمكان، وهذا المكان لا حياة فيه طبعا، إذن فهناك حاجة طبيعية داخلية في الإنسان، وفي الكاتب بالتحديد لكي يجعل من مادته مادة يستقبلها القراء، ولكن أيضا مادة لها طابع الديمومة، ولا يوجد إلا الفن الذي يعطيها طابع الديمومة.
-
عشت جزءا كبيرا من حياتك في دمشق، كما حضرت دمشق في أدب واسيني الأعرج من خلال “طوق الياسمين” ماذا عن دمشق اليوم في ذاكرتك؟
الذاكرة الدمشقية هي ذاكرة جميلة، ومؤثثة بشكل رائع على مر زمن طويل أكثر من 30 سنة، ولا تزال الأشياء في عز بهائها وروحها الجميلة، حتى اللهجة السورية لم تذهب مني، لم أنسها عندما ألتقي صديقا سوريا تستيقظ كل هذه التعابير اليومية. إضافة لذلك فإن العشر سنوات من العمر التي قضيتها في دمشق، الماجستير والدكتوراه، وإن لي ابنا وابنة ولدا هناك هما باسم وريما وهما ابناي الوحيدان، كل هذا يجعل الالتصاق بالمدينة التصاقا ليس روحيا فقط، إنما جسديا عميقا وهناك تماهي مع هذه المدينة.
ناهيك عن المدينة بطبيعتها وتاريخها وتنوعها وجمالها، إضافة إلى ذلك ناسها طبعا، كل ذلك بعيدا عن السياسة، الإنسان السوري إنسان رائع وحضاري، يمكن أن نختلف في التوصيف، لكن هذا الإنسان الذي عرفته عن قرب في السبعينيات والثمانينات، هو هذا الإنسان الذي أعجبت به واستفدت منه، ثم إن تكويني الثقافي باللغة العربية جزئيا إلى حد كبير تم في ذلك المكان، وبالتالي دمشق بالنسبة لي تعني لي الكثير؛ ولهذا عندما كتبت رواية “طوق الياسمين” (2013)، هي نص حنيني في الحقيقة بين أمرين بين أمر مدينة كنت وما زلت أحبها وخائفا عليها طبعا من التحلل والانكسار والموت البطيء كما يحدث اليوم لبغداد، وأنا مؤمن بأن المدن العظيمة التي لها تاريخ عظيم لا يمكن أن تموت. حدث لروما، أن أحرقت ثم قامت من رمادها، حدث لأثينا أن أبيدت ثم نهضت من رمادها، حدث للندن في الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، أصبحت على الأرض تماما بسبب القصف الجوي النازي وعادت إلى الحياة.
أجزم أن الخامة الشعبية والروحية الكبيرة الموجودة عند الشعب السوري ستعيد هذه المدينة إلى الواجهة حتما، ولا يمكن أن تموت في هذه العناصر الإيجابية الأساسية، إضافة إلى ذلك فأنا تعلمت الكثير في تلك المدينة (دمشق)، حيث تعرفت على كثير من المثقفين السوريين بعضهم توفي وبعضهم ما زال حيا، كل هذه العناصر طبعا جعلت من سورية ودمشق بلدا حاضرا، ومن دمشق مدينة حاضرة دائما، وحاضرة بصورة إيجابية وليست سلبية، وأستطيع أن أقول إن سورية منحتني الكثير؛ ولهذا أنا مدين لها، مدين لها بكل ما هو جميل في حياتي، مدين لها بجانبي العربي الكبير، صحيح أنني ذهبت إلى دمشق ولدي درجة عليا من الوعي القومي والثقافي والمبدئي وحتى اليساري أيضا، ولكن مع ذلك تعلمت هناك الكثير، وكتاباتي الأولى ربما لو كنت في مكان آخر لكان لي مسار آخر.
دمشق هي التي استقبلت أعمالي الأولى وهي التي استقبلت الرواية الأولى التي أعدها الرواية المؤسسة لمساري الكتابي التي هي “وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر” التي نشرت في عام 1981م عن طريق وزارة الثقافة والإرشاد القومي السورية، ويومها نالت إعجاب أنطون مقدسي (1914-2005)، وقد استقبلني يومها وأشاد بتلك الرواية وبمستواي الثقافي، وكان شخصية أساسية في وزارة الثقافة، وكان للروائي حنا مينه (1924-2018)، دور كبير في نشر أعمالي الأولى، وكذلك محمد كامل الخطيب وآخرون.
طبعا لا أستطيع أن أذكر الأسماء التي لعبت دورا كبيرا في تكويني الأدبي تحديدا الإبداعي، الدكتور حسام الخطيب أستاذ الأدب المقارن المشرف على رسالتي للدكتوراه، وهو من بين الشخصيات العظيمة التي أثرت في كثيرا. والدكتور عبد الكريم الأشتر والدكتور إبراهيم الكيلاني، رحمهم الله جميعا، وكان أستاذي أيضا باللغة الفرنسية في النقد الأدبي وكان هناك قرابة معه كان هذا الشخص لطيفا جدا، كل هذه الشخصيات وغيرهم لعبوا دورا في ذاكرتي من حين لآخر يستيقظون أحيانا، وأكتب عن بعضهم. إذن، فمن الصعب أن أنفصل عن دمشق.
اكتشاف العالم العربي
-
كان يعقد في منزلك الدمشقي كل يوم خميس ملتقى يضم مجموعة من المثقفين، ماذا عن هذا الملتقى الثقافي؟
كان لدي بيت في دمشق فيه صالة كبيرة نوعا ما، وكل يوم خميس أستضيف مثقفا عربيا نتحاور معه، كان هناك الشاعر العراقي سعدي يوسف، وأحمد يوسف داوود وهو روائي سوري كان يحضر معنا تلك الجلسات مع مثقفين سوريين آخرين، وكذلك استضفنا الروائي الكبير حنا مينه، والذي كان صديقا مدمنا على هذه اللقاءات.
كنا نجلس ونتناقش ونستمتع بهذه اللحظات بشكل جميل كانت الجلسة تبدأ من الثامنة مساء وتنتهي في الثانية أو الثالثة فجرا، وكان الأصدقاء المغاربيون يتعاونون خصوصا من المغرب والجزائر وننظم أكلات مغربية، الكسكسي، وطاجين باللحم وغيرها، كانت فعلا هناك لحظات ثقافية جميلة نتحدث عن الثقافة ونتحدث عن النصوص الجديدة المنشورة، كما نتحدث عن المعضلات الثقافية التي كانت موجودة في سوريا والعالم العربي، كل هذا أنا أعتقد أن وجود دمشق مدينة (كوزموبوليت)، مختلطة كان فيها عراقيون كثر الذين هربوا من العراق أيام حكم الرئيس الراحل صدام حسين في ذلك الوقت واستقروا في سورية، وكان هناك مثقفون لبنانيون وعراقيون ويمنيون ومغربيون وجزائريون وتونسيون، هؤلاء كانوا موجودين وغيرهم طبعا، هذا كان يمنح فرصة للقاءات للتنوع والتعدد، حيث يتم اكتشاف العالم العربي من خلال هؤلاء، وكنت سعيدا جدا بذلك.
دمشق.. استقبلت أعمالي الأولى المؤسسة لمساري الكتابي
-
وهل لحالة الاغتراب التي عاشها واسيني الأعرج في دمشق تأثير على نتاجه الروائي؟
خرجت من دمشق وأنا مشبع بالمعنى الثقافي، ولهذا فإن إنتاجي الأدبي صحيح بدأ في سورية ولكنه أخذ مداه عندما غادرت سورية، وقتها أصبحت زاوية النظر أجمل وأصبحت أتذكر الأشياء وخزنت كل المعلومات وأصبحت أكتب من الجزائر، ولكن أيضا من روح قومية عربية التي هي سورية وليس سورية فقط إنما عربية بشكل عام، وأكتب أيضا من منظور لغوي عالمي التي كانت هي اللغة الفرنسية.
هذا ربما الذي أعطى لاحقا نوعا من الخصوصية لما كنت أكتبه، ولما أكتبه في الحقيقية حتى اليوم، أريد أن أقول سورية أعطتني الكثير ولا يمكن أن أجرح هذه المدينة بأي شكل من الأشكال أبدا.