فاز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة، فعكف العالم على استشراف طالعه في السياسة الخارجية، وهو الجمهوري العائد إلى البيت الأبيض مزهوا بفوزه الذي يعتبره تاريخيا.
ورغم تدفق التهنئات على الرئيس العائد يظل القاسم المشترك بين المهنئين العاكفين على قراءة طالعهم هو القلق الذي يمتد ليشمل حتى الحلفاء الأوروبيين الذين يستعدون لمرحلة عاصفة، تبدو أكثر عصفا لغير الحلفاء.
يعزز هذا القلق أن سياسات ترامب لا تستند إلى المعرفة أو المؤسساتية، بقدر ارتكازها على شخصية ترامب نفسه ما يجعلها تبدو عرضا فرديا لرئيس لديه أجندته الخاصة، وعلى حد تعبير صحيفة “الغارديان” البريطانية فإن ترامب “سوف يعمل بشكل مستقل في سياسته الخارجية. لذا، كن مستعدا للمفاجآت”.
وفي زحمة ردود الفعل على فوز ترامب ومحاولات القراءة المبكرة لطبيعة سياسته الخارجية تجاه القضايا والملفات المتفاوتة في سخونتها حول العالم يبدو نصيب أفغانستان في ظل حكم طالبان شحيحا رغم كثافة توقعات المحللين وقراءات المراقبين الذين تزدحم بهم وسائل الإعلام المختلفة.
ترقب وتمنٍ
لم تبد حكومة طالبان مواقف مسبقة خلال الحملة الانتخابية تجاه ترامب أو منافسته الديمقراطية كاملا هاريس في أوج المنافسة المحمومة بينهما رغم أن الملف الأفغاني كان حاضرا في مناظرتهما التي جرت في سبتمبر/أيلول الماضي.
يمكن القول إن هناك نوعا من الارتياح الصامت من قبل طالبان لخسارة هاريس باعتبارها امرأة، خصوصا مع اختزال الإدارة الأميركية الموقف من طالبان في موقف الحركة من تعليم وتوظيف المرأة الأمر الذي تعتبره طالبان أمرا مبالغا فيه.
كما ترى حكومة طالبان أن إدارة الرئيس جو بايدن تذرعت به لفرض عقوبات على الحركة وحرمانها من 7 مليارات دولار من أصول البنك المركزي الأفغاني كانت مودعة في نيويورك، عند انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان.
الارتياح الضمني لخسارة هاريس لم تعبر عنه طالبان رسميا لكنك تلمسه مبكرا في حوارات ليست للنشر مع مسؤولين في حكومة طالبان منذ إعلان هاريس الترشح بعد انسحاب بايدن، وهذا الموقف تجده وفاء لقناعتها بشأن الولاية وأن تكون من نصيب رجل وليس امرأة.
أمل في فصل جديد
أما بعد حسم السباق الرئاسي، فقد جاء رد فعل حكومة طالبان على عودة ترامب رئيسا بعد مضي 4 سنوات على خروجه من البيت الأبيض، ودودا يتصدره إبداء أمل الحركة في “فصل جديد من العلاقات” مع الولايات المتحدة.
وحسب المتحدث باسم وزارة الخارجية في حكومة طالبان عبد القهار بلخي فإن الحركة تأمل في أن “تتبنى الإدارة الأميركية المقبلة نهجا عمليا لضمان التقدم الملموس في العلاقات الثنائية، وهذا يسمح لكلا البلدين بفتح فصل جديد من العلاقات القائمة على المشاركة المتبادلة”.
كما حرص بلخي على التذكير بأن اتفاقية الدوحة الموقعة في 29 فبراير/شباط عام 2020 بين طالبان والولايات المتحدة جاءت خلال ولاية ترامب الأولى “وأدت إلى نهاية الاحتلال الذي دام 20 عاما”.
اتفاق وخناق
وسبق أن أثنى ترامب على الاتفاق واعتبره “خطوة لإنهاء أطول حروب الولايات المتحدة وإعادة القوات الأميركية من أفغانستان” خصوصا أنه أظهر ترامب بمظهر من أوفى بتعهده بإعادة القوات الأميركية إلى الوطن.
لكن موقف ترامب من قرار الانسحاب الذي اتخذه خليفته جو بايدن في أغسطس/آب عام 2021 كان مختلفا واعتبره “عارا” وأحد أعظم الهزائم في التاريخ الأميركي”، مطالبا بايدن بالاستقالة من منصبه، وقال: “لو كنتُ رئيسا الآن، لأدرك العالم أن انسحابنا من أفغانستان مرهون بشروط”.
وكان انسحاب أميركا من أفغانستان عام 2021 أحد المواضيع الساخنة في المناظرة الوحيدة بين ترامب وهاريس في سبتمبر/ أيلول الماضي حيث جدد ترامب وصف هذا الانسحاب بأنه “أسوأ انسحاب عسكري في التاريخ”، واعتبره السبب وراء مهاجمة روسيا لأوكرانيا “لأنهم رأوا مدى عدم كفاءة هاريس ورئيسه (بايدن)”.
فما كان رد هاريس إلا أن قالت مدافعة عن قراربايدن بالانسحاب: “قال 4 رؤساء أميركيين إنهم سينسحبون من أفغانستان، وقد نفذ جو بايدن هذه المسألة”. ونتيجة لذلك، لم يعد دافعو الضرائب الأميركيون يدفعون مبلغ الـ300 مليون دولار يوميا الذي كنا ندفعه مقابل تلك الحرب التي لا نهاية لها”.
وأشاد ترامب في المناظرة بالاتفاق مع طالبان قائلا: “إنه اتفاق جيد للغاية لأنه كان بإمكاننا الخروج بشكل أسرع ولم نكن لنخسر قواتنا ولم نكن لنترك الكثير من الأميركيين وراءنا.. لن نترك وراءنا 85 مليار دولار من المعدات العسكرية الجميلة والجديدة”.
أما بعد
طالبان ترى أن استمرار العقوبات التي وصفتها بغير المشروعة على النظام المالي والمصرفي الأفغاني” انتهاك واضح لحقوق الإنسان” كما ترى في وضع إدارة بايدن قيودا على بعض قياداتها “عقبة أمام تطوير العلاقات بين الجانبين”.
فهل سيتغير موقف ترامب من تلك العقوبات ويعيد النظر فيها؟ مفتاح الإجابة عن هذا السؤال هو شخصية ترامب نفسه وسياسته القائمة على الصفقات، فحين أراد الخروج من أفغانستان طلب مساعدة رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان في التحدث مع طالبان.
وكافأ ترامب عمران خان على ذلك بدعوته لزيارة واشنطن حظي خلالها بإشادة استثنائية من خان. ولكن بمجرد إبرام الصفقة مع طالبان، أدار ترامب ظهره لخان وباكستان.
لكن أفغانستان التي انسحب منها الأميركيون قبل أكثر من 3 أعوام ليست أفغانستان اليوم، فعلى الصعيد الداخلي وفرت حكومة طالبان الأمن الذي حرمت منه البلاد لأكثر من 4 عقود متواصلة، وعلى الصعيد الخارجي التزمت طالبان بتنفيذ بنود اتفاق الدوحة.
وأبرز البنود التي تهم الإدارة الأميركية والتزمت به حكومة طالبان هو اتخاذ إجراءات غير محددة لمنع الجماعات الأخرى بما فيها تنظيم القاعدة من استخدام الأراضي الأفغانية لتهديد الولايات المتحدة.
ونجحت حكومة طالبان في نسج سياسة خارجية تتصدر فيها روسيا والصين (مصدرا القلق الرئيسي لصانع القرار الأميركي) موقعا مميزا يتجسد في الاعتراف واتفاقيات اقتصادية تشمل مجالات واسعة أهمها استخراج المعادن التي تذخر بها أفغانستان خصوصا الليثيوم التي تمتلك أكبر احتياطي منه في العالم وكذلك بعض المعادن النادرة الأخرى.
هذه العلاقات تشكل تحديا للسياسة الخارجية الأميركية حيث تعمل القوى الصاعدة في الخارج على تقليص تفوق أميركا العالمي من خلال الاضطلاع بدور في إعادة صياغة النظام الاقتصادي والإستراتيجي العالمي.
أما فيما يتعلق بالثروات الكامنة في أفغانستان، تلك الأرض البكر؛ فمن المستبعد أن يترك ترامب الصين المنافسة أو روسيا المقلقة تنفرد بها، فالولايات المتحدة ترغب في الحد من النفوذ السياسي والاقتصادي للصين في باكستان، وسيضاف إلى ذلك أفغانستان التي يعد استقرارها مفتاحا للأمن الإقليمي الأوسع بما في ذلك أمن باكستان.
والخبرة السابقة للنهج الذي ينتهجه ترامب تركز دائما على ما يمكن أن تقدمه أي دولة لأميركا قبل أن يفعل أي شيء من أجلها، فهل يتكرر هذا الأمر مع أفغانستان في ظل حكومة طالبان؟ وهل ثمة صفقات مقبلة في الأفق سيقبل عليها ترامب؟
الأرجح أن الأمر وارد في ظل الإشارات البراغماتية الصادرة من الطرفين والتي ستحسمها الأيام المقبلة بعد تسلم ترامب منصبه رسميا.