الرباط – يعلو الحماس وجوه سائحات أميركيات وهن يأخذن أماكنهن في ورشة لصناعة الزليج بالمدينة القديمة للرباط.
تسألهن الشابة المغربية مريم بدي عن معلوماتهن عن الزليج ثم تشرع في عرض تقديمي تشرح فيه تقنيات هذه الحرفة ومراحل العمل كما هو شائع لدى الحرفيين في فاس موطن الزليج بالمغرب.
في فضاء تساروت بفندق بن عائشة التاريخي في شارع القناصل، تعيش السائحات أجواء العمل اليدوي بينما تصدح موسيقى الطرب الأندلسي في المكان لتضفي عليه سحرا وجمالا.
أمام كل مشاركة في الورشة، قطع زليج صغيرة متعددة الألوان والأشكال والجبس والماء ولوح خشبي، هذه هي وسائل العمل كما تشرح لهن مريم.
تأخذ المشاركات وقتهن في اختيار قطع الزليج الصغيرة، تضعنها بشكل مقلوب على لوح مربع بحيث تكون الجهة الملونة في الأسفل.
بعد إنهاء تركيب القطع، يقمن برشها بمزيج من الجبس والماء لتثبيت بعضها ببعض بمساعدة منظمتا الورشة مريم بدي ووفاء الدهبي، تعلو ضحكات الانتصار حين تنجح إحدى المشاركات في إنهاء عملها بشكل صحيح.
بالنسبة لمريم فإن تعليم الزليج للمغاربة والأجانب هو جزء من التعريف بالثقافة والهوية المغربية.
تقول للجزيرة نت إنها كانت مع زميلتها وفاء في فعالية ولاحظتا أن بعض المغاربة ليس لديهم معرفة بالصناعات التقليدية والمهارات التي تستخدم فيها، فقررتا تنظيم ورشات للتعريف بها وإشراك الناس في صناعة المنتجات بأيديهم.
تخرجت مريم في أكاديمية الفنون التقليدية بالدار البيضاء في تخصص الجبس، وتجد في مشاركة معرفتها مع المغاربة والأجانب واجبا وفرصة لإبراز تنوع التراث المغربي.
أما وفاء الدهبي التي تخرجت في الأكاديمية نفسها في تخصص الصباغة على الخشب، فتقول للجزيرة نت إنها كانت منذ طفولتها تحلم بإنشاء مشروع خاص تعلم فيه الفن، وقد تحقق حلمها من خلال الورشات التي تؤطرها في فندق بن عائشة، وتشمل الزليج والنقش على الجبس والخط العربي والصباغة على الخشب والنسيج التقليدي والتطريز اليدوي.
بالنسبة لمريم، فإن تنظيم هذه الورشات في فضاء تساروت في فندق تاريخي وقديم مثل بن عائشة أعطى حياة وروحا فريدة لها.
وتساروت هو فضاء ثقافي وفني يسعى مؤسسوه إلى التعريف بالثقافة والفنون اليدوية التقليدية المغربية.
وإلى جانب هذا الفضاء، يجمع الفندق حرفيين في الجلد والنحاس والخشب والفضة والخزف وغيرها من الحرف، حيث يتكاملون فيما بينهم ويعزفون معا سيمفونية إبداعية مميزة تبهر الزوار وعشاق التراث والصناعة التقليدية.
تراث عالمي
وبني فندق بن عائشة في بداية القرن الـ18 على يد عبد الله بن عائشة، وهو دبلوماسي وسفير مغربي وأمير بحر شهير.
كان غداة بنائه خانا للقوافل، حيث جعله قربه من ميناء سلا مقصدا للتجار الباحثين عن مكان يبيتون فيه ويضعون فيه بضائعهم وبهائمهم خلال مقامهم في الرباط، وظل لقرنين يؤدي دورا مهما في الاقتصاد المحلي للمنطقة، إلى أن تحول خلال فترة الحماية في عام 1912 إلى مركز تسوق، ثم استقر فيه في خمسينيات القرن الماضي حرفيو الصناعة الجلدية.
وخضع الفندق للترميم تحت إشراف منظمة اليونسكو التي أدرجته ضمن قائمتها للتراث.
توضح ثريا الأريكي رئيسة جمعية فندق بن عائشة أن ترميم الفندق استمر 3 سنوات قبل افتتاحه بشكله الجديد.
وتأسست جمعية فندق بن عائشة عام 2023 وهدفها إدارته والحفاظ على رونقه وتحسين ظروف عمل الحرفيين داخله.
تقول ثريا للجزيرة نت “نحاول الحفاظ على الإرث الذي تركه آباؤنا”، فقد كان والد ثريا من الحرفيين المهرة في صناعة الجلد في الفندق، تتذكره بفخر وتحكي كيف كان يتفنن في إنجاز عمله، ويعتبر كل قطعة جزءا منه فكان يعطيها كل وقته وجهده لإنهائها بإتقان.
وحظي الفندق بزيارة الأميرة المغربية للا حسناء وملكة هولندا، ولا يخلو من زيارة السياح المغاربة والأجانب محبي التراث وروح المدن القديمة الساحرة.
تؤكد قائلة “مهمة جيلنا اليوم هي الحفاظ على هذا الإرث لذلك نحن نعمل في هذا المكان مثل عائلة كبيرة”.
بن عائشة الدبلوماسي والبحار
ويعد عبد الله بن عائشة من الشخصيات التي تدين بشهرتها أساسا للدور الذي لعبه في علاقات المغرب بأوروبا أميرا للبحر وسفيرا للمولى إسماعيل لدى لويس الـ14، وفق ما جاء في كتاب معلمة تاريخ المغرب.
وكان عبد الله بن عائشة قائدا لسفينة جهادية بمرسى سلا، وكان لأخيه عبد الرحمن وابنه محمد سفينة بالمرسى نفسه، وكانت بذلك عائلة ابن عائشة تملك نصف الأسطول السلاوي، أي 3 سفن من أصل 6 سفن كانت مرتبطة بمرسى سلا، وكان الثلاثة يخرجون أحيانا في مهمات جهادية مشتركة لاعتراض سفن الدول التي لم تسالم المغرب.
استطاع بن عائشة بفضل كفاءته وجرأته أن ينال ثقة المولى إسماعيل سلطان المغرب آنذاك، فعينه قائدا للأسطول البحري، وظل إلى جانب هذه المهمة محتفظا بملكية سفينته الخاصة التي كانت تعتبر أحسن سفينة، سواء من حيث تجهيزها أو من حيث نوعية البحارة الذين كانوا يعملون على ظهرها.
واختاره المولى إسماعيل سفيرا له لدى لويس الـ14 ملك فرنسا بغية التوصل إلى معاهدة سلم مع هذه الأخيرة وإيجاد حل لمسألة الأسرى المغاربة الموجودين في فرنسا والأسرى الفرنسيين الموجودين في المغرب، وهي السفارة التي دامت 8 أشهر ما بين نوفمبر/تشرين الثاني 1698 ومايو/أيار 1699.
مكنه نشاطه البحري من كسب غنائم كثيرة وجمع ثروة هامة، لهذا وصفه القنصل الفرنسي في سلا بكونه “أحد أهم الرجال الأثرياء بهذه البلاد”.
كان مقيما في الرباط حيث احتفظ عدد من معالمها باسمه، منها برج بن عائشة بصقالة على شاطئ المحيط من جهة نهر أبي رقراق، ويوجد بالبرج نفق يتصل بمسكنه في زنقة سيدي مأمون قرب الزاوية المختارية، كما أن في الرباط سقاية بن عائشة المعروفة إلى اليوم نسبة إليه، وفندق بن عائشة الموجود حاليا بشارع القناصل.