طهران ـ شاعر وقاص وصحفي، لو جمعنا هذا الثالوث، لخرج “عدنان غريفي” على هيئة لوحة تشكيلية متكاملة، فقد احتوى غريفي -الذي رحل عن عالمنا في الرابع من مايو/أيار الجاري في هولندا- الإنسان والحب والوطن معتقدا أن هذه العناصر هي قضية واحدة لا يمكن تفكيكها.
تأثر غريفي -الذي دفن قبل أيام في منفاه- بأكثر من ثقافة وتاريخ، كما كان ملما بلغته وثقافته العربية ومتجذرا بالتصوف والأساطير العربية. فهو من أصل عربي ولد في مدينة “المحمّرة” كما يسميها ذويها بجنوب غربي إيران، أو “خرّمشهر” وفق اسمها الرسمي في البلاد.
مترجم الأدب العربي للفارسية
من جهة، أبحر عدنان بالفارسية وآدابها، حتى إن كل أعماله باللغة الفارسية. ومن جهة أخرى، تعمق في الأدب الغربي الكلاسيكي منه والحديث، فهو كاتب طليعي ورائد ومبادر جاد في الحداثة في الأدب الإيراني. ثم على طريقة المناضلين الشباب في ستينيات القرن الـ20 أصبح عدنان يساريا.
ولد عدنان غريفي في الثاني من يونيو/حزيران 1944 في المحمرة، وبدأ نشاطه الأدبي في ستينيات القرن الماضي بإصدار مجلة “الفن والأدب الجنوبي” (بالفارسية: هنر و ادبيات جنوب)، بصفته كاتبا ومترجما عن العربية والإنجليزية إلى الفارسية ونشر الكثير من أعماله في هذه المجلة. ويعد عدنان غريفي أول من ترجم أعمال أبرز الكتّاب الأوروبيين والأميركيين ومن بينهم “دي جي سالينغر” و”إيتالو كالوينو” و”جايلس كوبر” و”بوهميل هرابال” و”خوسيه ترايانا” إلى الفارسية.
كما أنه من أوائل مترجمي الأدب العربي المعاصر إلى الفارسية، حيث ترجم أول مرة قصيدة “قبر من أجل نيويورك” للشاعر أدونيس و”أشعار المنفى” للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي. ونقل عدنان غريفي روايات عربية إلى اللغة الفارسية ومنها روايتا “رجال في الشمس” و”أم سعد” للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني.
تعرض للاعتقال إلى جانب عدد من الكتّاب الإيرانيين الجنوبيين، من قبل جهاز الأمن الإيراني آنذاك “السافاك” وقضى عامين ونصف في سجن “كارون” في مدينة الأهواز جنوب غربي إيران.
20 عاما مع عدنان غريفي
في رحلة البحث عن عدنان غريفي، التقينا في الأهواز المخرجَ السينمائي والقاص حبيب باوي ساجد، الذي رافق عدنان في سنواته الـ20 الأخيرة، وصوّره لينتج وثائقيا عنه بعنوان “20 عاما مع عدنان”، كما أصدر حبيب كتابا يضم حوارا طويلا مع عدنان غريفي.
يقول حبيب باوي ساجد للجزيرة نت “ساعد إتقان اللغة الإنجليزية عدنان على قراءة النقد الأدبي الإنجليزي ونظرياته فضلا عن الأدب الإنجليزي. ومن وحي هذه القراءات خلق عدنان زوايا عديدة في القصة والشعر والنقد والنظريات الأدبية. وكان عدنان أحد أقرب الأصدقاء للشاعر الإيراني المعاصر أحمد شاملو الذي كان يترأس مجلة “خوشه” الأدبية، وترجم قصصا عديدة من أدب أميركا اللاتينية نشرت في تلك المجلة”.
ويضيف “لقد استولى الجهاز الأمني لمحمد رضا شاه “السافاك” على كتب عديدة كان عدنان قد ألّف بعضها وترجم بعضها الآخر، مثل كتب في نقد أعمال ويليام فاكنر وأنطون تشيخوف وفيودور داستايوفسكي، ودواوين شعرية له مثل “من معسكر العاصفة” (بالفارسية: از اردوگاه توفان) و”قيامة كارون” (بالفارسية: رستاخيز كارون) و”حمامة السلام” (بالفارسية: كبوتر صلح)، وترجمة مجموعة “كلمات لا تموت” لعبد الوهاب البياتي”.
وعن نشاطه الآخر، يقول ساجد “بعد انتهاء سنوات السجن، التحق عدنان بالإذاعة الوطنية بدعوة من المترجم رضا سيد حسيني، وعمل في الإذاعة رئيسَ تحرير وكاتبا ومترجما ومحررا ومذيعا ومنقحا وخبيرا، حيث أنتج العديد من البرامج الأدبية مثل “الكوميديا وكوميديو العالم” و”لقد قرأنا لكم” و”القصة القصيرة في العالم”.
ويضيف “نشط عدنان في السينما أيضا لفترة من الزمن في سبعينيات القرن الماضي، حيث كتب وحرر سيناريوهات عدة أفلام وثائقية وروائية من إخراج المخرج الجنوبي حسن بني هاشمي، ومع سقوط نظام الشاه، تم استبعاد عدنان غريفي مثل كثير من زملائه من الإذاعة والتلفزيون، وعمل مترجما وصحفيا لعدة سنوات، حتى بداية الثمانينيات، عندما أصبحت حياة المثقفين والكتّاب اليساريين في إيران صعبة، مما جعله يهاجر إلى إيطاليا ثم هولندا”.
السجن والواقعية
يقول حبيب باوي ساجد إن عدنان عاش مراحل انتقالية في حياته ومن أهمها سنوات السجن، مما حول فكره إلى “الواقعية”، بينما كان قبل تلك الفترة يميل إلى “السريالية”.
يتحدث عدنان غريفي في كتاب “حوار طويل مع عدنان غريفي” (تأليف حبيب باوي ساجد، دار نشر أفراز، عام 2010) عن هذه النقطة، حيث يقول “سأخبرك بما رأيته في السجن وما جعلني أميل إلى الواقعية. أتذكر جيدا، في اليوم الأول عندما دخلنا السجن وكانوا قد حلقوا رؤوسنا وكانوا يخصصون أماكننا، شاهدت شابا وسيما واقفا يمشط شعره أمام المرآة؛ كُتب على ذراعه: سوف أُعدم في تاريخ كذا وكذا”.
ويضيف غريفي “كانت قد مرت 5 أو 6 سنوات منذ ذلك التاريخ. ارتعبت عندما رأيت صراع الحياة وما ينتظره. يا صديقي.. هذا الشاب كان ينتظر إعدامه، بهذه البساطة! قبل 26 أكتوبر/تشرين الأول (ذكرى ميلاد محمد رضا شاه) يحدث شيئان: العفو (أو تخفيض مدة السجن)، أو إعدام من حكم عليهم بالإعدام. لقد شاهدت هذا الرعب مرتين. وكتبته قصة وبالطبع لم أنشرها”.
ويردف “لقد رأيت هذه الحقيقة؛ أن أحد المحكوم عليهم بالإعدام يمشط شعره. أو شخص آخر فتح ثقبا في زاوية من زوايا السجن حتى يتمكن من الهروب منه. تعجبت عندما رأيت الأمل إلى أين يقود الإنسان. تخيلوا أنه حطم الطوب والإسمنت وكل هذه الأشياء بشيء بسيط، لأشهر وأشهر وللمرة الرابعة تم القبض عليه ونقلوه إلى الزنزانة الانفرادية. وبعد انتهاء مدة الحبس المنفرد، كان يأتي إلينا ويقول إنني سأواصل عملي وأهرب في النهاية”.
ويتابع “كان هناك سجين عربي يردد شعارات مثل “دان كيشوت”! مثلا، عندما كنا ننام في الليل، كنا نسمع هذا الشخص يتحدث ويتجادل في فناء السجن، وكان صوته يأتي من جميع أركان السجن (لأنهم كانوا يجبرونا أن ننام في المحيط الخارجي لمبنى السجن). أستطيع أن أخبركم بالعديد من التفاصيل عن السجن، التفاصيل التي دفعتني لأن أصبح واقعيا مرة أخرى، وكان أول عمل واقعي لي هو “النخلة الأم” (بالفارسية: مادر نخل) الذي نال إعجاب أصدقائي ومن بينهم الكاتب الإيراني الأهوازي أحمد محمود”.
وعن “النخلة الأم” التي تحدث عنها عدنان، يقول حبيب باوي ساجد “إنها قصة تدمير الأصول الثقافية والاقتصادية للمنطقة العربية، والتي تبدأ مع تدمير مزارع النخيل الضخمة لعائلة الراوي والتحول التدريجي لعائلته من شبه إقطاعية إلى الفقر المدقع، وتروي انحطاط مجد الأصول العربية على ضفاف الشط والخليج.
ولقيت “النخلة الأم”، التي كان من المفترض أن تتحول إلى فيلم روائي طويل في السبعينيات، احتفاء أدبيا، وتمت طباعتها ونشرها عدة مرات خلال العقود الخمسة الماضية، وفق ساجد.
سنوات المنفى ثم العودة
في المنفى، أصدر عدنان غريفي مجلتي “فاخته” و”برستو”، في الأدب والثقافة بالفارسية. كما نشر مجموعتين من القصص بعنوان “حمامة الحب” (بالفارسية: مرغ عشق) و”أربع بنايات في طهران فارس” (بالفارسية: چهار آبارتمان در تهرانبارس)، وطهران فارس هي اسم منطقة في طهران، كما نشر 4 مجموعات شعرية بعنوان “واحدة من الكوميديا” (بالفارسية: يكي از كمدي ها)، و”أجمع التواقيع للمحمرة” (بالفارسية: براي خرمشهر امضا جمع مي كنم)، و”موعد الانطلاقة: اليوم في هذا المكان” (بالفارسية: برنامه حركت: امروز، اين جا)، و”قصف الملائكة” (بالفارسية: به موشك بستن فرشتگان)، ورواية “القروش” (بالفارسية: سكه ها) وديوان “النخلة المشتعلة” (بالفارسية: نخل مشتعل).
يرى حبيب باوي ساجد أن غريفي توجه في قصصه وقصائده المنشورة في أوروبا، بطريقة ما، إلى الواقعية الصريحة، على عكس القصائد والقصص المكتوبة في إيران، وتجنب تماما الرمزية والاستعارات.
وفي عام 2004، في إطار برنامج “تقييم قدرات أدب الجنوب”، أقيم حفل تكريم عدنان غريفي. لكن لم يكن مسموحا له أن يعود إلى أرض الوطن، وبعد تواصل منظمي الحفل مع وزارة الداخلية الإيرانية سُمح له بالدخول ورحب به أهل الثقافة والفن لدى وصوله. وأجريت معه مقابلات من قبل العديد من المجلات في الأهواز وفي جميع أنحاء إيران، وأصبح عدنان غريفي مرة أخرى عنوانا لأخبار الأدب والفن.