“الكتابة هي المشكلة وهي الحل” هكذا تكلمت الشاعرة والناقدة والصحفية الكويتية سعيدة مفرح، معتبرة أن المتلقي أو القارئ المحترف لا يهمه الوصول للإجابات وهو يقرأ نصا ما بقدر ما تهمه المتعة أثناء الرحلة ووجود ما يجعله يستمر في المشي بين السطور.

اختارتها جريدة الغارديان البريطانية ممثلة للكويت بخريطة الشعر العالمي، كما اختارتها حركة شعراء العالم كسفيرة للشعر العربي بالكويت ولها منهجها الأدبي الخاص الذي يمزج الشعر والصحافة، وبدأت مع كتابها الأول “آخر الحالمين كان”، الذي كان عبارة عن مجموعة شعرية صغيرة صدرت عام 1990.

في هذا الحوار الثقافي والمعرفي مع الأديبة والإعلامية الكويتية سعدية مفرح، وجدنا أنفسنا في 3 مسارات، كان أولها عن تجربتها الذاتية وامتداد هذه التجربة إبداعيا في مساحات متعددة وأطوار متنوعة، أما المسار الثاني فكان حول غزة وطوفان الأقصى وماذا يقول المثقف بعد مرور عام عليه، أما المسار الثالث فناقش مع الكاتبة أحوال التنمية الثقافية في الوطن العربي وواقعها والتحديات التي تعيشها.

في رصيد سعدية مفرح 3 عقود من العمل الصحفي، ودواوين شعرية، ومؤلفات تُرجمت إلى لغات مختلفة، ومشاركات ثقافية مهمة في مؤتمرات في دول متعددة، أثرت تجربتها وانعكست في كتاباتها ورؤاها المعرفية والثقافية، فإلى الحوار:

  • تقولين إن “الكتابة هي المشكلة وهي الحل، وهي الحضور وهي الغياب”، كيف تتجاوزين هذه المشكلة؟ وهل تجدين في الحلول إجابات إبداعية مقنعة لدى القارئ؟

لا أعتبر ذلك مشكلة، بقدر ما أعتبره سؤال الحياة، أو ربما أحد أسئلة الحياة المهمة.

لماذا نكتب؟ لطالما سألت نفسي هذا السؤال منذ أن أدركت أن الكتابة هي قدري الجميل، وهي هوايتي الأثيرة، وأيضا عملي وشغفي واستراحتي أيضا، إجابات كثيرة توصلت إليها على هذا الصعيد، وهي إجابات متغيرة وفق الظروف المتغيرة والاحتياجات المتغيرة والشغف المتغير أيضا. المهم أن أبقى على قيد الكتابة دائما، بحثا عن إجابات لأسئلة مستحيلة تنبثق من عالم الكلمات. ولا أهتم كثيرا إن كانت تلك الإجابات إجابات مقنعة أم لا، فالمهم دائما أن أمضي بها لأستمر، ولتكون وقودي لكتابات جديدة.

في دورات في الكتابة وفي الصحافة التي أقدمها، بل وفي كل دورة أجدني متغيرة أمام المتدربين وإجاباتي أيضا متغيرة في شكلها أمام أسئلتهم. ولذلك أفرح بتلك الأسئلة وأحتفي بكل جديد ومثير منها، أشجعهم على إنتاج المزيد من الأسئلة الصعبة حول ما يتعلق بعالم الكتابة. هل أعتبر الكتابة سرا؟ لعلها كذلك ونحن الكُتاب الباحثون عن الأسرار الخفية وراء الكلمات لا نصل، المهم دائما أن تستمر رحلة البحث، بالنسبة للكاتب وللقارئ أيضا.

ولذلك أنا أرى أن المتلقي أو القارئ المحترف لا يهمه الوصول للإجابات وهو يقرأ نصا ما بقدر ما تهمه المتعة أثناء الرحلة ووجود ما يجعله يستمر في المشي بين السطور.

 

  • ما العوامل التي تؤثر في تطور شخصية الكاتب؟ وهل يستطيع أن “يحرق المراحل” نحو ما يطمح إلى تحقيقه؟

لكل كاتب عوامله الخاصة منذ طفولته التي تتضافر في تطور شخصيتها لا شكلها، لكنني أرى أن القراءات المبكرة هي واحد من أهم هذه العوامل بالإضافة إلى التربية والتعليم، القراءة تعيد تشكيل أفكارنا ومبادئنا وتدلنا على طرق متشابكة أمامنا لكنها لا تختار لنا. تعطينا مفاتيح كثيرة وعلينا أن نجربها كلها أو بعضها حتى نصل إلى المفتاح الذي يفتح أمامنا بوابة الحياة الكبرى.

وبالتأكيد يستطيع الكاتب أو المرء عموما أن يحرق المراحل نحو ما يطمح إلى تحقيقه، لكن لماذا يفعل ذلك؟ المتعة في الرحلة، وليس في الوصول، وفي سبيل تحقيق الأهداف نجد أنفسنا وقد انشغلنا بالكثير من اللذائذ المعنوية والمادية التي تصادفنا في الطريق، قليلون هم الذين يصلون إلى النهاية، ولعلهم تساءلوا عندما وصلوا إن كانت النهاية تستحق الرحلة أم لا.

في بداياتي كنت من أولئك الذين يجتهدون ليلا ونهارا على صعيد حرق المراحل، أريد أن أقفز لأصل إلى السماء السابعة بما أكتب قبل أن أكتشف الكثير من الجمال الكامن بين حشائش الطريق.

  • حرصت الشاعرة سعدية مفرح على أن تمتد تجربتها عربيا في جغرافيا متسعة، وعبر لغات متعددة، هل لبى هذا طموحك الثقافي وشغفك الإبداعي؟ وكيف تجددين حضورك؟

الحكاية كلها بدأت ككل الحكايات الصغيرة في بدايات العمر، ككل الأحلام وكل الجنون الذي نفكر فيه باعتباره العقل الكامل، ثم نصل إلى مرحلة الانغماس الكلي فيه. الكتابة بالنسبة لي ليست مجرد تدوين أفكاري وأحلامي وطموحاتي وليست تفريغ عاطفي كما يظن كثيرون، بل هي أنا. حتى أنني عندما أريد أن أتذكر متى بدأت الكتابة، تضيع الذكريات، ولا أعرف.

لا أتذكرني بلا فكرة تصلح للكتابة، ولا أتخيلني بعيدة عن الأقلام والأوراق ثم لاحقا عن لوحة المفاتيح. أحيانا أكتب كلمات مبهمة وجملا غير مفهومة، وأعتبر ذلك نوعا من الممارسة اليومية والتدريب المستمر حتى أقنن الأمر وأبرر لنفسي ضياع وقتي في كتابات لا يقرأها أحد، ولكن الحقيقة وراء كل تلك الكتابات العشوائية غير ذلك، إنها نوع من التنفس الذي لا أستطيع الحياة من دونه.

كانت الكتابة ملاذي الجميل وعزلتي المحببة، ولم أكن أعلم أنني سأصل بها، وستصل بي إلى جغرافيات بعيدة جدا لم أكن أعرفها. وعندما بدأت مرحلة نشر ما أكتب في الصحف المحلية في الكويت سرعان ما وجدت نصوصي تحلق بعيدا عني، وتسافر إلى تلك الجغرافيات البعيدة بلغتي العربية وبلغات أخرى حتى قبل أن أتمكن من السفر.

ليس لدي طموح ثقافي محدد، لكي أعرف إذا كانت تجربتي في الكتابة والنشر والترجمة قد لبت طموحي أم لا لكنني وبعد عقود من الزمن في الكتابة والشعر والتأليف والصحافة والنشر وبعد عدد كبير من الكتب التي صدرت لي، أشعر أنني لم أغادر بعد خطوتي الأولى، وأن كلمتي التي أود كتابتها فعلا ما زالت معلقة بانتظار الفتحة والضمة والكسرة والسكون، وأنني ما زلت أتهيب الرحلة رغم الشوق الكبير الذي يعتريني كلما جلست على طاولة الكتابة.

أما الحضور فلا يهم كثيرا لدى الآخر ما دام قد تحقق لدي. نعم، أنا حاضرة أمام ذاتي كشاعرة وككاتبة وكباحثة أبدية عن حقيقة الكلمة، وأنا أيضا في خضم الشك بهذا كله أعيش وأستمر. ولا أريد الوصول النهائي إلى يقين الكتابة، حتى لا تنتهي الرحلة الممتعة. نهايتها بالموت وهذا الموت الجسدي هو اليقين الكبير في حياتنا جميعا.

كانت الكتابة ملاذي الجميل وعزلتي المحببة، ولم أكن أعلم أنني سأصل بها، وستصل بي إلى جغرافيات بعيدة جدا لم أكن أعرفها. وعندما بدأت مرحلة نشر ما أكتب في الصحف المحلية في الكويت سرعان ما وجدت نصوصي تحلق بعيدا عني، وتسافر إلى تلك الجغرافيات البعيدة بلغتي العربية وبلغات أخرى حتى قبل أن أتمكن من السفر، وأنا ممتنة جدا للصحافة

  • هل كنت تقصدين أن تتنوع تجربتك في الكتابة بين الأدب والصحافة؟ هل ساعد الإعلام الأديبة سعدية مفرح؟ أم أعاقها عن تنفيذ مشاريع ثقافية؟

لا أتذكر، أعني لا أتذكر إن كنت فعلا قصدت أن تتنوع تجربتي في الكتابة بين الأدب والصحافة، لكنني وجدتني هكذا منذ أن بدأت النشر. أذكر أنني في المدرسة كنت أقرأ وأكتب كثيرا وأنتمي لكل ما يمكن أن يجعلني جزءا من الكتابة. أنتمي لجماعة الصحافة ولفريق المسرح وأصدقاء المكتبة ومسابقات الشعر والقرآن الكريم، وهذا يعني أنني كنت دائما أنتمي للكلمة بغض النظر عن صورتها النهائية وكيف تصل إلى الآخر وبأي وسيلة تصل إليه.

ورغم أن كثيرا من الأدباء الذين عملوا بالصحافة اشتكوا منها باعتبارها التهمت الكثير من الوقت المخصص للكتابة وأنها ألهتهم عن تتمة مشروعاتهم الإبداعية وأنها طغت على صورتهم الشعرية أو القصصية أو الروائية، وأنها أخذت مواهبهم في الكتابة أكثر مما أعطتهم، فإنني على العكس منهم.

أنا ممتنة جدا للصحافة. أعتبرها إحدى أجمل المهن التي يمكن أن يعمل بها المرء على الإطلاق. سعيت كثيرا للعمل فيها منذ أن كنت طالبة على مقاعد الدراسة الجامعية، وكنت دائما عندما أذهب إلى عملي كأنني ذاهبة إلى أجمل مواعيدي، ورغم مرور أكثر من 3 عقود من الزمن وأنا أعمل في هذه المهنة فإن الشغف بها لم ينته ولم يتزحزح.

ما زلت أذهب إليها بكامل شوقي وبكثير من الفضول الذي يميز العمل الصحفي، الصحافة أهدتني أجمل أيامي وأرفع مقاماتي وأنبل علاقاتي في الحياة، كما أنها وفرت لي فرصا في النشر وفي التواصل مع المثقفين والأدباء وحضور الفعاليات الثقافية وقراءة الكتب التي أحب دائما، وهو ما لم أكن أتصور أنه يتاح لفتاة من بيئة محافظة جدا في ذلك الوقت.

كنت أحلق بجناحين في وقت واحد، جناح الشعر وجناح الصحافة وأذكر أنني بدأت العمل الصحفي بالتوازي مع بدء نشر قصائدي في الصحف، وهو ما جعل عمري الشعري يتوازى مع عمري الصحفي، ولذلك يسعدني دائما القول إنني مدينة للصحافة بالكثير من وجودي الإبداعي والثقافي أيضا.

لقد كانت دائما حنونة علي وعلى تجاربي في الكتابة والنشر، صحيح أنها تلتهم الوقت بسرعة قياسية ولا تكاد تترك لحياتي خارج الكتابة إلا القليل جدا من ساعات اليوم، إلا أن حياتي هي أصلا جلها كتابة، وبالمقابل تعلمت من الصحافة السرعة في اتخاذ قراراتي فالخبر لا ينتظر طويلا، وتعلمت أيضا قبول الرأي المختلف واحترامه والعمل على نشره أيضا، وهو ما ساهم في تكوين شخصيتي العملية جدا ورسم ملامحها بقوة تكاد أحيانا تقترب من القسوة. على أن الشعر يحتاج أحيانا إلى أن يكون منفردا بمساحته الحميمة ووقته الخاص، وهنا كانت الصعوبة أحيانا.

نعم، لنعترف أن القصيدة الحقيقية هي القصيدة التي تمارس غرورها على شاعرها وتطالبه بأن يكون لها وحدها حتى لا تنفر منه.

واقعنا الثقافي العربي يعاني من صنمية الأفكار وصنمية الرموز معا، وهنا تكون الخطورة مضاعفة بالتأكيد. تقديس الفكرة لا يُسمح بنقدها ولا بتغييرها ولا بتطويرها، بل لا يسمح بإنتاج المزيد من الأفكار المشابهة أو المختلفة عنها. وهو ما يسبب شللا للتفكير

  • تحدثت عن رفضك “للصنمية في الأفكار”، هل هناك صنمية للأفكار أم للرموز أم لهما معا؟ وما أسباب هذا التوصيف؟

واقعنا الثقافي العربي يعاني من صنمية الأفكار وصنمية الرموز معا، وهنا تكون الخطورة مضاعفة بالتأكيد. تقديس الفكرة لا يُسمح بنقدها ولا بتغييرها ولا بتطويرها، بل لا يسمح بإنتاج المزيد من الأفكار المشابهة أو المختلفة عنها. وهو ما يسبب شللا للتفكير وللحالة الثقافية في أي مجتمع من المجتمعات وبالتالي يجعله في ذيل القائمة دائما.

ولكن كثيرين يا للأسف ما زالوا أسرى لصنمية الأفكار بالإضافة إلى صنمية الأشخاص الذين يتحولون إلى رموز مقدسة أو شبه مقدسة كلما زادت الحالة الصنمية. وهو ما يورث التعصب بكل صوره وأشكاله، ويهدد الهوية الثقافية ويجعل من فكرة الانتماء لهوية ثقافية معينة نوعا من التعصب الأعمى غير قابل للتحليل ولا النقاش ولا الانخراط في حوارات مشتركة مع الآخرين المختلفين.

 

  • أين تأثرت سعدية مفرح شعريا؟ في أي عصر أدبي؟ وبأي الشعراء؟

الإجابة التقليدية، تأثرت بكل من قرأت له، بالوعي أو باللاوعي. نحن بالتأكيد صنيعة قراءاتنا وخصوصا في المراحل المبكرة. وفي بداياتي كنت أقرأ كل ما تقع عليه عيناي تقريبا وخصوصا كتب التراث. لكنني لاحقا حاولت تنظيم قراءاتي. لا أدعي أنني نجحت في الأمر لكنني على الأقل حاولت، وحاولت أيضا أن أبقى باحثة عن صوتي الخاص في القصيدة.

لا أريد أن أشبه أحدا ولا أن يلاحظ المتلقي شبها بيني وبين أي شاعر آخر حتى أنني كنت أشعر بالضيق عندما يشبهني أحد النقاد بشاعر كبير على سبيل المدح، لأنني كنت دائما أنتمي لذاتي واستمد شعريتي الخاصة منها وحسب.

الأحرار وحدهم هم القادرون على نصرة غزة وعلى نصرة أي قضية عادلة أخرى

  • تثبتين منشورا لك تقولين فيه لغزة: “نحن مقصرون جدا، ليس في واجبنا نحوك وحسب، بل في حقنا نحو أنفسنا بالانتصار لك أيضا”، في الذكرى الأولى للطوفان، كيف سينصر المثقف غزة؟

بأن ينتصر لنفسه أولا كإنسان حر. الأحرار وحدهم هم القادرون على نصرة غزة وعلى نصرة أي قضية عادلة أخرى. أعرف أن كثيرين من مثقفي الوطن العربي تؤرقهم قضية فلسطين عموما وغزة خصوصا، ولكنهم غير قادرين على أن يكونوا بحجم مسؤولياتهم كمثقفين في الوقت الراهن. كلنا كذلك، ولا نملك الآن سوى القليل من الكلام والكتابة وبعض الممارسات الأخيرة وفق ما تسمح به ظروفنا بكل بلداننا العربية.

هذا لا يكفي بالتأكيد كدور حقيقي وكفعل أمام ما تقوم به المقاومة وما يقوم به أهل غزة على الأرض، ولكنه على الأقل أفضل من الصمت القاتل ومن السكوت الذي يهين بكثير من هؤلاء المثقفين حقيقتهم وتعريفهم لأنفسهم. أما الحال الأسوأ فهي طائفة ممن يدعون الثقافة للمساهمة في تثبيط همم أهل غزة والتآمر على مشاعرهم وأحوالهم في مقاومة الاحتلال ومقاومة اليأس ومقاومة الخذلان.

هذه الطائفة لم تكتف بالصمت لأنها عاجزة على سبيل المثال، وهو أمر مفهوم، ولكنها بادرت لحرب أهل غزة بمحاولة خلق حالة جديدة في وعي الأجيال الجديدة تؤدي في النهاية إلى القبول بالأمر الواقع وصولا إلى الاعتراف بوجود الكيان الصهيوني كحقيقة لا بد من قبولها في سبيل ما يسمونه بالسلام.

كثير من هؤلاء انقلبوا على أنفسهم وعلى مبادئهم المعلنة في السابق ليكونوا في خدمة الجدول الصهيوني ومساراته في احتلال كل فلسطين.

كلنا خذلنا غزة بغض النظر عن مواقعنا وتوصيفاتنا وأعمالنا. على صعيد الكتابة أشعر بضآلة شديدة تجاه ما يحدث في غزة، وفي كل نص شعري بدأت كتابته عن غزة شعرت بالعجز واللا جدوى مقارنة بما يحدث على الأرض. أعرف أن للكلمة دورا كبيرا جديدا في تشكيل الوعي ولهذا ينبغي أن نستمر في كتابتها وفي قولها وفي تشكيلها على صعيد التضامن مع غزة بكل الأشكال الممكنة، ولكن مهما كان هذا الدور لا يمكن أن يرتقي لمستوى الدم البريء الذي ما زال يسيل

  • هل خذل المثقف العربُ غزة؟ وكيف يمكن أن يشكل المبدع من نصه حالة إنقاذ؟

كلنا خذلنا غزة بغض النظر عن مواقعنا وتوصيفاتنا وأعمالنا. على صعيد الكتابة أشعر بضآلة شديدة تجاه ما يحدث في غزة، وفي كل نص شعري بدأت كتابته عن غزة شعرت بالعجز واللا جدوى مقارنة بما يحدث على الأرض. أعرف أن للكلمة دورا كبيرا جديدا في تشكيل الوعي ولهذا ينبغي أن نستمر في كتابتها وفي قولها وفي تشكيلها على صعيد التضامن مع غزة بكل الأشكال الممكنة، ولكن مهما كان هذا الدور لا يمكن أن يرتقي لمستوى الدم البريء الذي ما زال يسيل، نعم خذلنا غزة ومن حق غزة ألا تنسى هذا وألا تسامحنا أبدا.

ولكن لأننا نعيش معركة وعي في سياق حالة كبرى من الزيف يراد لها أن تكون عنوان المرحلة كلها، لا بد لنا أن نبقى على قيد الأمل، ولو بالكتابة، والكلام، والدعاء، وحسب. هناك وعي يتشكل في العالم كله، لدى الصغار والشباب والكبار، وهذا الوعي يجب أن يجد بيئة حقيقة حاضنة، بمستوى القصة منذ بدايتها وليس منذ السابع من أكتوبر كما يريدون للعالم أن يعرف.

شعرت أنني وريثة ناجي، وينبغي أن أكون حارسة ليس على المكتب ومحتوياته وحسب، ولكن أيضا على القيم التي آمن بها ناجي ورسمها واستشهد من أجلها في النهاية

  • في جريدة القبس حيث تعملين، كان لك قصة مع مكتب رسام الكاريكاتير الراحل ناجي العلي، حدثينا عنها، وكيف تجدين أثرها في نفسك؟

أول مكتب خُصص لي عندما بدأت العمل في جريدة القبس كان مكتب الشهيد ناجي العلي الذي تركه بطاولته وألوانه وأوراقه وأقلامه وبعض رسوماته، وهاجر من الكويت يومها مضطرا. ولأن الجميع كان يظن أن ناجي العلي رحمه الله سيعود يوما ما إلى مكتبه الأثير في الصحيفة فقد بقي المكتب على ما هو عليه مغلقا على تلك الذكريات حتى استشهد ناجي، ومرت سنوات قليلة على المكتب وهو مغلق حيث كان الجميع يتهيب فتحه.

في الغرفة مكتبان أحدهما كان لناجي والآخر للشاعر أحمد مطر الذي كان صديق ناجي ورفيقه في الهجرة أيضا، أما أنا فلم أعرف أنهما مكتباهما، فعندما أتيت القبس أواخر سنة 1993، لم يعجبني أن أعمل مع الجميع في صالة التحرير الواسعة، فطلبت منهم أن يخصصوا لي غرفة مهما كان حجمها، وهكذا كان.

أشاروا إلى الغرفة الصغيرة المهجورة وكانت تقع في آخر الممر لكي أفتحها وأستخدمها غرفة لي، فرحت بها حتى نبهني عامل القهوة لمن كان يجلس قبلي على هذا المكتب، كان شعوري غريبا جدا لحظتها، مزيج من الخوف والرهبة والفرح الخفي أيضا. شعرت أنني وريثة ناجي، وينبغي أن أكون حارسة ليس على المكتب ومحتوياته وحسب، ولكن أيضا على القيم التي آمن بها ناجي ورسمها واستشهد من أجلها في النهاية.

التنمية الثقافية في الدول العربية تواجه عددا من التحديات الخطيرة التي تُعيق تقدمها منها نقص التمويل كأحد أكبر العقبات، حيث تعتمد الكثير من المؤسسات الثقافية على الدعم الحكومي، الذي غالبا ما يكون محدودا

  • ما معايير التنمية الثقافية الجادة في أوطاننا؟ وكيف يمكن أن نصل إلى معايير فاعلة تطور العمل الثقافي؟

التنمية الثقافية الجادة في الدول العربية عملية معقدة تتطلب النظر في مجموعة من المعايير الأساسية التي تسهم في تعزيزها، ومن أهم هذه المعايير هو التنوع الثقافي، حيث يجب أن تعكس السياسات الثقافية جميع الفئات والمناطق والاختلافات التي ينبغي النظر إليها باعتبارها مصدرا للثراء الثقافي والمجتمعي، كما أن الاستثمار في التعليم والثقافة يمثل معيارا حيويا مهما، حيث ينبغي أن تركز الحكومات على تعزيز التعليم الفني والثقافي في المدارس والجامعات، مما يسهم في تخريج جيل واع ثقافيا، وقادر على الإبداع والنقاش والنقد. على أن تكون هناك آليات واضحة لدعم المشاريع الثقافية والمبادرات الفنية الفردية والجماعية.

ولا نغفل التفاعل مع الجمهور باعتباره واحدا من المعايير المهمة أيضا، حيث ينبغي أن تتبنى المؤسسات الثقافية العربية إستراتيجيات تفاعلية تشجع على المشاركة المجتمعية، والنقاشات الحرة المستمرة، بالقول والكتابة والنشر، وبكل الوسائل الممكنة.

ولا ننسى أن التنمية الثقافية في الدول العربية تواجه عددا من التحديات الخطيرة التي تُعيق تقدمها منها نقص التمويل كأحد أكبر العقبات، حيث تعتمد الكثير من المؤسسات الثقافية على الدعم الحكومي، الذي غالبا ما يكون محدودا، مما يؤثر على قدرتها على تنفيذ مشاريع ثقافية مستدامة وحرة بعيدا عن الاشتراطات الحكومية، إذ تعاني بعض الدول من قيود كبيرة جدا على حرية التعبير، مما يُعيق المثقفين والكتاب والفنانين عن التعبير عن أفكارهم بحرية تليق بتلك الأفكار.

وهذه القيود تؤدي دائما إلى تراجع الإبداع وتجميد الأفكار، بالإضافة إلى أن غياب الإستراتيجيات الثقافية الشاملة يُعد من التحديات، حيث تفتقر العديد من الدول إلى خطط واضحة تهدف إلى تعزيز الثقافة والفنون، مما يؤدي إلى تشتت الجهود وعدم وجود رؤية موحدة.

ويمكن أيضا اعتبار التغييرات السريعة في التكنولوجيا تحديا من نوع آخر، حيث تتطلب وسائل الإعلام الرقمية والتكنولوجيا الحديثة من المؤسسات الثقافية التكيف السريع مع هذه التغيرات، وهو ما قد يكون صعبا بالنسبة للكثيرين.

لا يمكن اعتبار المثقف الفرد بديلا كاملا عن المؤسسات الثقافية

  • كيف تقيمين أداء المؤسسات الثقافية في الوطن العربي؟ وهل يستطيع “الأديب الفرد المؤثر” أن يكون بديلا عنها في زمن الإعلام الرقمي؟

تقييم أداء المؤسسات الثقافية في الوطن العربي يتطلب النظر إلى مجموعة من العوامل المهمة على هذا الصعيد، وهي عوامل مختلفة من بلد إلى أخرى ومن تجربة إلى أخرى. هذه المؤسسات يفترض أنها تلعب دورا مهما في تعزيز الهوية الثقافية والتنوع الفني، لكنها تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالتمويل والحرية. فالكثير منها يعتمد على الدعم الحكومي، مما قد يؤثر على استقلاليتها وعلاقتها بالسياسات الحكومية.

بالإضافة إلى ذلك، تفتقر بعض المؤسسات إلى التفاعل الفعال مع الجمهور، مما يجعلها بعيدة عن المشهد الثقافي الحي. ورغم برامجها الكثيرة في بعض الدول فإنها غالبا برامج إعلانية وإعلامية وليست ثقافية بالمعنى الحقيقي للثقافة.

أما المثقف الفرد المؤثر فصحيح أنه أصبح يملك القدرة على الوصول إلى جمهور واسع من خلال وسائل الإعلام الرقمية المختلفة، حيث يمكنه طرح أفكاره وتجربته بشكل مباشر ومن دون قيود إلا أن القيود غالبا ما تفرض عليه هو نفسه. ولذلك يمكن اعتبار الحرية التي توفرها له هذه الوسائل الرقمية حرية مزيفة ما دام غير قادر على مواجهة تبعات استخدامه لها.

وعموما لا يمكن اعتبار المثقف الفرد بديلا كاملا عن المؤسسات الثقافية، فهذا ليس دوره أساسا، ولا ينبغي أن ينشغل به عن إنتاجه الثقافي، ولكنه يمكن أن يتعاون معها في تعزيز الثقافة والإبداع شرط أن يتوفر له هامش معقول من الحرية.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version