معز ماجد شاعر تونسي (1973)، يؤمن بضرورة امتلاك الشاعر لثقافة فنية وسينمائية، يهمه الكتابة عما وراء التفاصيل والشعر يحقق له كل ذلك. كتب دواوينه الأولى باللغة الفرنسية، ربما تأثرا بعدد من الشعراء الفرنسيين الذين كان قارئا لهم، وربما الهروب من سطوة الأب الشاعر.

في هذا الحوار تحدث الشاعر معز ماجد عن علاقته بالشعر، والترجمة وديوانه الجديد باللغة العربية “مدائن الماء”.

  • اليوم وبعد هذه التجربة الطويلة في الكتابة باللغة الفرنسية، صدر لك هذا العام ديوانك الأول باللغة العربية “مدائن الماء” ما السر وراء هذا الاتجاه؟

هذه مسألة حساسة كثيرا، مما حيرتني وما زالت تحرجني حين أفكر في تجربتي الشعرية ومكانتها من هذه الجغرافيا المتجاورة ومن الجسور الممتدة بين اللغات والثقافات.

أنا ولدت في عائلة لها علاقة وطيدة بالأدب وبالشعر تحديدا، إذ إن والدي المرحوم جعفر ماجد كان أبرز شعراء تونس إبان الاستقلال. وهذا شكل بالنسبة لي إشكالا معقدا إذ إنني عند خطواتي الأولى في تجربة الكتابة وجدت نفسي مصطدما بحضور الأب، فلذلك كان من شبه المستحيل بالنسبة لي أن أتمكن من تكوين شخصية شعرية خاصة بذاتي.

فكان لي خياران، إما أن أهجر الكتابة الشعرية أو أن أجد لنفسي حيزا ينأى بي عن ظل الأب. وأعتقد أن اللغة الفرنسية وفّرت لي هذا الحيز من خلال الكتابة في لغة أخرى بعيدا عن وطأة حضور الأب.

وفي الواقع، لم يكن اختيار اللغة الفرنسية كلغة كتابة اختيارا نابعا عن تفكير إستراتيجي، أو تمحيص وتموقع إزاء والدي ومواقفه. ففي سنوات المراهقة، لم أكن متمكنا من كل هذه الجوانب والأبعاد التي يمكن أن يأخذها اختيار اللغة التي سوف تكتب فيها.

كل ما في الأمر هو أنني كنت قارئا نهما لبودلير، ورامبو، وفيرلين، ونيرفال، وغيرهم من الشعراء الفرنسيين في القرن الـ19، فاتجهت كتاباتي الأولى بشكل شبه طبيعي إلى هذه اللغة، رغم أنني قرأت في الفترة نفسها عيون الأدب العربي المتعلق بعصر النهضة (ميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، وبشارة الخوري، وغيرهم).

في الوقت نفسه، أنا لم أشعر للحظة واحدة في حياتي بأنني يمكن أن أكون شاعرا فرنسيا، ولم أسع قط إلى ذلك.

ولكن هنالك سؤالا محوريا: هل نحن محكومون بأن تكون لنا هوية لغوية موحدة؟ ألا يجوز لمبدع عربي أن ينقض على لغات أخرى وثقافات مستجلبة ليطور ذاته وهويته؟ لماذا حين يكتب سيوران بالفرنسية في حين أنه روماني والكل يجد ذلك طبيعيا؟ وماذا عن صمويل بيكيت الأيرلندي الذي يكتب بالفرنسية؟ وعن ميلان كونديرا؟

وجبران خليل جبران؟ ألم يكن من رواد الحركة الأدبية العربية في حين أنه يكتب بالإنجليزية؟

على العموم، أنا سلكت مشوارا لا بأس به في الكتابة باللغة الفرنسية مما مكنني من تكوين شخصية شعرية خاصة بي، وذلك بفضل تمكني من الثقافتين العربية والفرنسية، وأعتقد أن نجاح مشواري شاعرا في اللغة الفرنسية سهّل عودتي لكتابة الشعر في اللغة العربية من دون أن أكون تحت وطأة ما كتب قبلي في الأدب العربي.

لعل هذا ما يجعل ديواني “مدائن الماء” الذي صدر مؤخرا عن سلسلة “ش” له طابعه الخاص ومذاقه المختلف.

  • أنت تقف بين هويتين العربية (أي التونسية) والفرنسية. كيف استطاع نصك الشعري أن يمزج التنشئة الاجتماعية، وأحوال البلاد، والأصدقاء، والمعرفة، والتاريخ وكل الحياة التونسية في نص يقدم للقارئ الفرنسي؟

يقول الشاعر والفيلسوف الكاريبي إدوارد غليسان Edouard Glissant: “أنا أكتب في حضرة كل لغات العالم”.

هذه الجملة، التي تبدو كأنها صيحة حرب، هي في الواقع طريق للنجاة، إذ إنها تفتح باب الكونية أمام جيل كامل من الكتاب الذين يكتبون بالفرنسية. وهذه اللغة كانت في الأصل لغة شعب مهيمن مستعمر باطش، لكن وقع الاستحواذ عليها من طرف جيل من الأدباء أتوا إليها من خارج مجموعتها الأصلية وظفوها ليقولوا كينونتهم.

هذه الجملة ترن وكأنها صدى لأحد أجمل أبيات الشاعر الهندي العظيم طاغور:

“نحن أجلاف الشرق العراة، سوف نظفر يوما بحرية نهبها إلى الإنسانية جمعاء”

في الحقيقة، أجد نفسي في تناغم مع هذا الطرق لمفهوم اللغة، إذ إنني أنتمي إلى جيل له علاقة مختلفة باللغة الفرنسية مقارنة بالأجيال السابقة من الأدباء التونسيين ومن بينهم والدي. فأنا مثلا لست قاصرا باللغة العربية عكس عدد من الأدباء المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية. كما أنني مولود في سنة 1973، وهذا يعني أنني لم أعرف الاستعمار لذلك فإن علاقتي باللغة الفرنسية وثقافتها هي ليست علاقة المضطهد الذي يتشبه بجلاده. وعلاقتي بهذه اللغة وهذه الثقافة هي علاقة متوازنة وندية إلى حد ما.

علاقتي بهذه اللغة وهذه الثقافة هي علاقة متوازنة وندية إلى حد ما، ومن يتجرأ اليوم على القول إن الثقافة الفرنسية مهيمنة خارج حدود بلادها؟ إنها هي نفسها تعاني من هيمنة اللغة الإنجليزية

من يتجرأ اليوم على القول إن الثقافة الفرنسية مهيمنة خارج حدود بلادها؟ إنها هي نفسها تعاني من هيمنة اللغة الإنجليزية التي أمتلكها بدوري وأقرأ فيها “والت وايتمان” و”تس إيليوت” و”إدغار بو” دون حاجة للترجمة. لكن لغة الكتابة لها تأثير مباشر على محتوى ما نكتبه. فنحن لا نكتب الشيء نفسه في لغة أو في أخرى. لأن اللغة تحمل في طياتها منظومة ثقافية، تاريخية، مجتمعية وجمالية. هي تؤثر مباشرة في نظرتنا إلى العالم.

فهي تحتوي على موسيقى خاصة بها، ومفرداتها لها جذور إيتيمولوجية لا يمكن تجاهلها، كما أنها تحتوي على وعي ولاوعي جماعيين يؤثران في الفكر وفي الخيال وفي طريقة التعبير عنهم.

وهنالك مثال بسيط عادة ما أستعمله لتوضيح هذه الفكرة: عندما نشرع في كتابة نص ما، في أغلب الأحيان تكون لنا فكرة ضبابية عما نعتزم كتابته ونترك النص يتطور تحت تأثير ما سوف يأتي به السياق. ومن بين العوامل المؤثرة في النص نذكر موسيقى الكلمات مثلا وإيحاءاتها الثقافية. وطبعا يتغير هذان العاملان من لغة لأخرى.

فلنفترض أن الكتابة حملتك للحديث عن مفهوم “الخبز” و”الخمر” على سبيل المثال.

فإن كنت تكتب باللغة الفرنسية، فهذه الكلمات سوف تحيلك وجوبا على رموز دينية متصلة بصورة اليسوع. ولعلها أيضا تحملك إلى طبيعة الجنوب الفرنسي وقراه الساحرة مع خبازيها المبدعين وكذلك إلى حقول العنب بجهة “بوردو” مثلا.. وهنا نصك سوف يذهب في اتجاه معين تحت تأثير كل هذه الصور والمناخات.

فلنفترض الآن أن نفس الفكرة الأولية تأتي إلى نفس الكاتب وأن هذا الأخير يختار كتابة نصه بالعربية.

فإن الإيحاءات الأولى التي قد تخطر بباله سوف تكون لها علاقة بالمحرمات وبالسكر وأبيات أبي نواس وقد يذهب أيضا إلى مفاهيم صوفية فيستحضر أبيات الحلاج أو ابن الفارض.

وبناء على ذلك سوف يكون نصه مختلفا تماما عما كان ليكتبه إن هو كان اختار اللغة الفرنسية للتعبير عما يخالجه. لذلك فإننا لا يمكن أن نكتب الشيء نفسه في لغة أو في أخرى.

عندما أقدمت دار “فاتا مورغانا” (Fata Morgana) الفرنسية على نشر ديواني أناشيد الضفة الأخرى، قال لي صاحب الدار، الناشر الأيقوني برونو روا (Bruno Roy) حين نشر لي أول مرة:

“ما يجعلني أقدم على نشر نصك هذا هو مفارقة غريبة إذ إنني ذهلت بنقاوة لغتك الفرنسية التي تختلف عن لغة الأدباء المغاربة عموما. فهم حين يكتبون يمكن لناشر متمرس مثلي أن يرى أن لغتهم ليست لغة كاتب فرنسي.. هنالك دائما نكهة مغاربية في لغتهم وهذا ليس سيئا في حد ذاته. لكن لغتك، لو أنني أعطيتها لقارئ فرنسي من دون أن أقول إن صاحبها تونسي، فسوف يعتقد بلا شك أن صاحبها من قلب الحي اللاتيني بباريس.

مقابل ذلك، عندما نغوص في أعماق النص وصوره وإيحاءاته، فإننا نخرج بإيمان راسخ أن صاحب هذا النص لا يمكن أن يكون فرنسيا. فلا يمكن أن يكتب شاعر فرنسي مثل هذا النص إذ إنه من الصعب أن يستحضر مثل هذه العوالم”.

في آخر المطاف وبعد كل هذه المعارك لتجديد الشعر العربي في مباهاة للحركات التجديدية في الأدب الغربي، ماذا لو تكون هذه المثاقفة اللغوية للأدباء العرب الذين يكتبون في اللغات الأخرى هي التي سوف تأتي بتجديد جذري للأدب العربي المعاصر؟ ألم يكن جبران -الذي كان يكتب بالإنجليزية- رائد التجديد الشعري العربي في عشرينيات القرن الماضي؟ ماذا لو تأتي القطيعة والتجديد من كتاب عرب يكتبون في لغات أخرى مثل اللبناني أمين معلوف أو الليبي هشام مطر أو غيرهم.

وأملي أن كتابتي باللغة الفرنسية لا تكون عاملا يبعدني عن هويتي وثقافتي بل مصدر ثراء للأدب العربي الذي قد يجد في كتابتي عوالم غير مألوفة لديه جراء هذا التلاقح اللغوي. وتكون تجربتي فاشلة بلا شك لو أنني صرت كاتبا فرنسيا يكتب أدبا مألوفا في الثقافة الفرنسية.

  • كيف ترى قصيدة النثر العربية التي تكتب اليوم؟

أنا أعتقد أنه حان الوقت لتجاوز هذا الصراع بين الشعر الموزون والشعر بالنثر. وهو على فكرة صراع يختص به الشعر العربي دون غيره. وكلنا نحب الشعر القديم ونعتز بتراثنا الشعري كما أننا نحفظ منه الكثير، وأنا أعتقد أنه من الظلم اتهام شعراء قصيدة النثر بأنهم معادون للتراث أو أنهم غير قادرين على النظم.

كل ما في الأمر أن المشكلة في الانحياز إلى القصيدة التقليدية والشعر الموزون، هو أنه في عديد من الحالات يختصر الشعر في بعده الإيقاعي، مما يسهم في حصره داخل الظاهرة الصوتية وهذه كارثة وجريمة في حقه.

إن الموارد التي تنهل منها حداثة الشعر اليوم غنية ومتعددة، منها طبعا الفلسفة وعلوم الفيزياء وعلوم الأحياء والعلوم الفلكية وعلم النفس والفنون الجميلة والسينما وغيرها. لذلك أرى أن لقصيدة النثر دورا يمكن لها أن تلعبه أكثر من غيرها في إفراز خطاب جمالي تقدمي يجدد من خلاله الشعر العربي لأنها الأقدر على استيعاب هذه المعارف وتوظيفها جماليا.

وأعتقد أن في تجارب قصيدة النثر العربية ما يعد بآفاق جمالية ملهمة شريطة ألا يقع شعراء قصيدة النثر العربية في فخ الحفر داخل اللغة والانحسار فيها. ومن الضروري أن يجدد الشاعر أفقه الجمالي بالانفتاح على الفكر والتاريخ والفلسفة والفنون الجميلة والموسيقى والسينما. وهذا يتطلب من الشاعر جهدا جبارا لحوز هذه المعارف. وأعتقد أن أكبر خطر يهدد قصيدة النثر العربية هو ضعف ثقافة عدد ليس بالهين من شعرائها.

  • في كتاباتك هناك سيرة للإنسان الذي مر من هنا، للبيت، للشارع، للمدن، سيرة لكل شيء التقطته عين الشاعر. نصوصك تستند على المهمش من الأشياء، كيف تلعب هذه التفاصيل الصغيرة دورا في نصك الشعري؟

إن تجربتي في الكتابة الشعرية تعتمد أساسا على نسيج محبوك من تفاصيل أحداث عشتها (سواء مهمّة كانت أو حتى أكثرها بساطة) من جهة، وكذلك على مواقف وأفكار خزّنتها في ذاتي من خلال تجاربي الحياتية من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك أنا ألجأ إلى مفاهيم وصور هي من إنتاج مخيّلتي كوّنتها أثناء تصوري لكائنات مادية ومجازية فكرت فيها وتمثلتها عندما درست بصفة معمقة علوم الأحياء والفيزياء والرياضيات.

وهذا يجعل عالمي الشعري مزيجا من هذه الكائنات اللغوية والفكرية والمزاجية. لذلك أنا لا أتحدث عن تفاصيل الأماكن والأحداث البسيطة لالتقاطها في بعدها المادي البحت، لكنني أعالجها انطلاقا من فكر تمثل للمعارف حتى أحولها لكائنات شعرية تتعدى بعدها المادي وتتجاوز حدود الحادثة في ذاتها. هكذا أشتغل على التفاصيل وهكذا أوظفها.

  • نعيش اليوم رهينة كل ما هو مرئي، ما الذي ستفعله القصيدة في مواجهة الصورة؟

أنا لا أرى الشعر في مواجهة الصورة. بل بالعكس، أنا أرى اليوم الصورة من أعمدة الكتابة الشعرية، وأنها أصبحت في تمثلها المادي أحد منابع القصيدة بامتياز. إن الصورة في حضرة الشعر لا تبقى ترديدا للواقع بل إنها تصبح تمثلا لتحولاته، فهي تصبح شعورا ورغبة انطلاقا من حالة مادية واقعية. فعند امتزاجها بالشعر، تصبح الصورة مكانا مختلفا عن حيز الوجود. في الشعر وفي الفنون بصفة عامة، تتخلى الصورة عن دورها البديهي في احتواء ما هو مرئي لترتفع به إلى حالة تجلي تجعله أكثر رقيا وأكثر نبلا.

وفي اعتقادي، هذا ما يعطي للشعر مكانته التي تجعل الإنسان يرتقي بذاته نحو حالة من الخلق (البعض يقول إبداع)، لكنها في الواقع خلق بما أنها تنتج عالما آخر مختلفا وبذلك هي تقرب الإنسان من الذات الإلهية.

ومن هنا يمكن القول إن الصورة هي توق من يملك الكلمة والقدرة على تطويعها حتى يخلق من خلالها ما يشتهيه.

اليوم في عالمنا هذا، أصبحت فنون مثل التصوير الشمسي والسينما مرتعا رحبا للخيال الشعري وأنا أرى في ذلك منبعا لتجديد النص والخطاب الجمالي التقليدي. لذلك أنا في الواقع لا أنتظر الكثير من شاعر ليست له ثقافة فنية وسينمائية. فالسينما اليوم تغذي الخطاب الشعري كما أن الشعر يلهم السينما وخير دليل على ذلك ما يسمى اليوم بالسينما الشعرية.

  • ما الأحاسيس التي تنتابك وأنت تقرأ نصك الشعري في الأمسيات، وهل تلعب الأمكنة دورا ما في اختيارك للنصوص؟

عندما أشارك في أمسية شعرية، أنا لا أعرف مسبقا ماذا سأقرأ. غالبا، أقرّر ذلك في آخر لحظة بعدما ألمس مهجة القاعة والجمهور والتقديم وغيرها من حيثيات القراءة. كثيرا ما يكون ذلك وليد اللحظة ويتغير من قراءة إلى أخرى.

(يحكى أن تيمورلنك/ بكى/ وهو يطالع اتساع إمبراطوريته؟ إذ لم يبق له أراض ليغزوها)

(في طبق العدس هذا، وقد أعده لي سوري/ في مطعم بإسطنبول/ ربما يوجد شيء من قلب هيكتور المطعون/ وحدقة زرقاء مثل مياه الدردنيل/ لملهمة عثمانية)

(غرام واحد من الزعفران النقي/ يساوي، على ما يبدو/ ثمن ما يكفي لإطعام عائلة دليلي/ لأكثر من أسبوع)

  • في هذه النصوص خصوصية واضحة وهي “سيرة الإنسان” إلى أي مدى يشغلك القارئ؟

عندما أكتب لا أنشغل مطلقا بالقارئ، ولا بما يمكن أن يكون موقفه من النص. إن مكانة الإنسان في كتابتي هي نابعة عن موقف. ببساطة، أنا أنظر للإنسان من خارج ذاته أتناوله كموضوع تأمّل وتفكير في لحظة مواجهته للعالم في مختلف المواقف والحالات. وهذا يتيح لي المفارقات سواء كانت كونية، مجتمعية أو حتى شخصية كما يتيح لي التعبير عن مواقفي منها ومن تداعياتها. وبهذا تكون كتابة الشعر عندي ليست النظر إلى العالم وتفاصيله فحسب بقدر ما هي إثراء له بمعالجته شعريا. ولا يهمني كثيرا أن أنظر إلى العالم، بل إنني أريد الوصول إلى حقيقة الأشياء وراء الأشياء. الشعر يتيح ذلك.

(إنها ساعة الوحدة في كل ألوانها/ الوحدة التي غنمت بعد صراع مرير/ في خضرة غير مرتقبة على أرض عطشى/ تلك التي دفناها مثل حجر كريم غامض/ في جرح لجسد أزلي نازف/ أو وحدة حسبناها قد ضاعت إلى الأبد/ ثم وجدناها فجأة وسط الحشود الصاخبة)

  • ما مفهومك للشعر؟

هذا موضوع متشعب وينطوي على مطبات وأسئلة ضمنية تستدعي أن نفككها وأن نحاول إيجاد أجوبة أو على الأقل سبل للتفكير فيها. وهنا نجابه أولى صعوبات هذا الطرح: هل لهذا الكيان الذي ندعوه “الشعر” تعريف واضح الملامح؟ لقد شغلت هذه الإشكالية عددا من الفلاسفة والنقاد ولم يتوصلوا إلى جواب أو إلى تعريف مقنع.

ربما لأن للشعر ميزة يختص بها عن بقية الفنون وهي أنه لا يعرف إلا بالنفي.

بشكل أوضح، يكفي القول إن الشعر يكمن في حيز ما ـسواء كان إيقاعيا أو لغويا أو جماليا- لكي نجده متجددا وثائرا خارج هذا الحيز. كما تكاد تكون الطريقة الوحيدة لإدراك الشعر هي بكل بساطة إدراك ما لا يمكن أن يكون شعرا.

ويتبين لنا هنا أن الشعر، وفقا للتاريخ والواقع، لطالما كان أداة تعبيرية للحالة النفسية والعاطفية النابعة من داخل الذات البشرية، كما أنه لطالما كان حمالا للأفكار الفلسفية والفكرية التي غيرت الوجود الإنساني ونظرته للعالم. ويكفي أن نتمعن في النصوص السماوية التي تجبل المجتمعات الإنسانية منذ آلاف السنين لندرك أن قدرتها على الصمود منذ آلاف السنين هو ناجم على الضخ الشعري العميق الذي تتضمنه والذي يجعلها تؤثر في الذات البشرية بطاقة انفعالية كبرى. ومن هنا نخلص إلى استنتاج جلي وهو أن انقراض الشعر محكوم بانقراض الإنسان. كيف يمكن لنا أن نفسر إذن وضعية الشعر اليوم مقارنة بأهميته في المجتمعات الإنسانية؟

الشعر، وفقا للتاريخ والواقع، لطالما كان أداة تعبيرية للحالة النفسية والعاطفية النابعة من داخل الذات البشرية، كما أنه لطالما كان حمالا للأفكار الفلسفية والفكرية التي غيرت الوجود الإنساني ونظرته للعالم

في الحقيقة، أنا لا أتفق مع الطرح الذي يرى أن الشعر في وضعية متردية اليوم، وأنه يحتاج إلى أن نفكر في طريقة لنخرج به من مأزقه الحالي. أرى أن الشعر هو كيان مفكر يختار لنفسه الموضع المناسب في المجتمعات الإنسانية إذ إنه يظهر في تجليات مختلفة. وإن نحن حاولنا التخطيط للنهوض به من وضعيته التي نراها على أنها متردية لوجدناه يكمن في نقيض ما خططناه له.

كل محاولة للتحكم فيه أو تأطيره أو تعريفه هي ضرب من العبث. لا يمكن التخلي عنه ومن جهة أخرى قد يبدو لك مهمشا بين الفنون، يعاني من نفور القراء ولا مبالة الإعلام. لكنك إن تمعنت في الأمر، سوف تجده في كل شيء تقريبا. سوف تجده في السينما، في الفنون التشكيلية والديزاين، في ترشفك قهوة الصباح على صوت فيروز، في إرسالية لطيفة لمن تحب، على إنستغرام في تدوينة لأحد أولئك الذين نسميهم اليوم “إنستابوتس”.

ويقول الشاعر الأميركي العظيم جاك هيرشمان إن إحدى كبريات الثورات الشعرية التي عرفناها مؤخرا هي موجة الهيب هوب التي انطلقت من حي البرونكس بنيويورك سنة 1977 فمن تراه كان ينتظر أن يتجدد الشعر في تلك المناخات؟ أما إذا أردنا أن نخرج بخلاصة واقعية تصلح أن تكون جوابا لسؤال الشعر اليوم كما هو مطروح في هذه الندوة، فإنني أستشهد بجملة لامعة للشاعر الكوبي الكبير فيكتور رودريغس نونيس حيث قال:

“إن ما يهمني في الشعر هو أنه الشيء الوحيد تقريبا الذي عجز النظام الرأسمالي عن تحويله إلى بضاعة.. وهو في الآن ذاته الشيء الوحيد أيضا الذي فشل الثوريون، بما في ذلك أكثرهم صدقا، في احتوائه وترويضه”

  • في ديوانك “غير بعيد من هنا” المترجم عن اللغة الفرنسية، و”مدائن الماء”، المكتوب باللغة العربية. المتابع لتجربتك الشعرية سيكتشف أن ديوانك المترجم لم يفقد متعة الدهشة التي يمنحها النص العربي. هذا يعني أن ترجمة الشعر ليس كما يقال تفقد النص متعته. ما رأيك في هذه المسألة؟

أنا لا أتفق مع من يقول إن الترجمة تفقد الشعر متعته. كل ما في الأمر أن الساحة العربية غارقة في الترجمات السيئة. لو كانت ترجمة الشعر مستحيلة لما وصلتنا روائع الشعر العالمي مثل نصوص والت وايتمان أو نيرودا أو ناظم حكمت أو غيرهم.

فالمشكلة تكمن في أن الناشرين يظنون أنه يكفي لشخص أن يكون أستاذا جامعيا متمكنا من اللغة وتقنيات الترجمة حتى يكون قادرا على ترجمة الشعر. وهذا خطأ فادح.

إن ترجمة الشعر مختلفة عن ترجمة الأجناس الأدبية الأخرى مثل الرواية أو النقد أو النصوص الفكرية.

ترجمة المعنى من لغة إلى أخرى لا تكفي أن نترجم نصا شعريا والسبب أنّ المطلوب في هذه الحالة بالتحديد، هو أن يكون النص في لغة الوصول قصيدة. لذلك لا يمكن أن يترجم الشعر إلا الشعراء، فترجمة المعنى لا تكفي لكي تجعل النص النهائي قصيدة.

وأعتقد أن الشعر يترجم بل قد تزيده الترجمة سحرا في بعض الحالات. فكل ما في الأمر أن كل نص هو في انتظار مترجمه الذي قد يأتي في يوم من الأيام أم لا.

ما يمكنني قوله في نهاية الأمر هو أنني أتمنى أن يشفق بعض محترفي الترجمة على النصوص الجميلة وأن يتركوها تنتظر مترجميها في سلام، وأن يمتنعوا عن تشويهها بترجمات تجارية رخيصة.

  • نصوص مجموعتك الشعرية الأخيرة “مدائن الماء” مفتوحة على التأمل، تأمل ينتصر للأماكن مومباي، “فوانتا فاكيرس”، البلدة التي ولد فيها فريديريكو غارسيا لوركا، إسطنبول، ميديين، غرناطة، تونس، المدينة المنورة، سان فرانسيسكو، تورنتو وغيرها. كيف ذهبت إلى الأشياء والتفاصيل من زاوية غير مباشرة؟

هذا بالضبط ما قلته لك سابقا. أنا أبحث عن الأشياء تحت الأشياء، أبحث عن الأماكن المخفية في الأماكن، أبحث عن انكسار الإنسان في بطولاته وعن أثر ما قد تلاشى. هذا يفتح لي ممرات نحو عالم مخفي تحت ما هو ظاهر للعيان. إن ما يهمني في الأشياء البسيطة والمواقف اليومية، ليست التفاصيل في حد ذاتها بل تلك الممرات الخفية نحو الحقيقة الأخرى التي تتستر وراء ما نراه.

  • ما طقوسك في الكتابة؟

الطقوس ليست بالضرورة شرطا للكتابة. طبعا هنالك شعراء وكتاب يجعلون منها لحظة مقدسة، لكنني لا أنتمي إلى هؤلاء. لحظة الكتابة هي مرحلة من مراحل الإبداع، تسبقها (في ما يخصني على الأقل) مرحلة طويلة تعيش فيها القصيدة داخلي وفي مخيلتي وتتغذى من ذاتي قبل أن تصل إلى لحظة كتابتها. وحتى بعد الكتابة، فأنا أشتغل طويلا على النص قبل أن يصل إلى صيغته النهائية.

أعتقد أن الشعر حالة نرتقي إليها في لحظات محدودة وسريعا ما تنفلت عنا. هي تلك “الإشراقات” التي يتحدث عنها رامبو. لذلك فإن الشعر لا يخذل، نحن قد نخفق في الارتقاء إليه وبالتالي نحن نخذله أحيانا. أما هو، فحالة مكتفية بذاتها يمكن تشبيهها باستعارة مفهوم فيزيائي هو “الأنتروبيا” في نظرية الديناميكية الحرارية: فهو إذن حالة طاقة مرتفعة يرتقي إليها الشاعر للحظات ويخرج منها فور انتهاء إشراقات الكتابة.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version