في إطار من الواقعية السحرية، يأخذنا المخرج خالد منصور في تجربة سينمائية فريدة من نوعها عبر فيلمه “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”. بأسلوب بصري آسر، يقدم المخرج المصري رؤية عميقة لعالم المهمشين أو كما يفضل تسميتهم “البشر العاديين”، في عمل يجمع بين التحدي الفكري والجمال الفني. فالفيلم نال إعجاب النقاد والجمهور، محققا نجاحا ملحوظا في المهرجانات والمحافل العالمية، بالإضافة إلى دور العرض السينمائية في مصر.

وفي حوار خاص مع الجزيرة نت، يكشف المخرج خالد منصور عن كواليس الفيلم، ويشارك رؤيته الفنية التي ألهمته لإخراج هذا العمل، فضلا عن التحديات التي واجهها في تقديم حكاية سينمائية مغايرة. ويتناول فلسفته الإخراجية ونهجه في معالجة قضايا الإنسان المعاصر، مما يجعل الفيلم أكثر من مجرد عمل فني، بل رحلة تأملية في أعماق النفس البشرية.

  • بدأ عرض فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” تجاريا مؤخرا، هل توقعت هذا الاحتفاء، خاصة بعد مشاركته في العديد من المهرجانات العالمية؟

بصراحة، لم أتوقع ردود الفعل بهذا الزخم على الإطلاق، لكن كانت لدي آمال، مثل أي مبدع، بأن ينال العمل إعجاب الجمهور. وتمنيت أن يحقق الفيلم نجاحا عند عرضه، لكنني لم أكن أجرؤ على التنبؤ بشيء محدد، خصوصا أن التجربة جاءت خارج المألوف، سواء في القصة أو أسلوب السرد، أو التصوير، وحتى الأداء التمثيلي.

ويختلف الفيلم تماما عما اعتادت عليه السينما المصرية، وهذا بالنسبة لي كان مصدر فخر لأنه يمثل شيئا جديدا، ولكنه في الوقت نفسه كان مصدر قلق، لأنني لم أكن متأكدا من كيفية استقبال الجمهور له. الحمد لله، ردود الفعل تجاوزت كل توقعاتي.

أما بالنسبة للمهرجانات، فقد حظي الفيلم بفرصة المشاركة في عدد كبير منها. وكانت البداية مع مهرجان فينيسيا السينمائي، ثم مهرجان البحر الأحمر الذي شهد العرض الأول للفيلم في الشرق الأوسط، كما تم عرضه في مهرجان قرطاج. ولا تزال هناك مهرجانات أخرى سنشارك فيها خلال الفترة المقبلة، وهو أمر يبعث على الفخر والسعادة.

  • هل تتفق أن الجمهور أصبح مهتما بنوعية السينما المغايرة، وليس السينما التجارية فقط؟

مع انفتاح الجمهور على الإنتاجات العالمية، لم تعد المشاهدة مقتصرة على الأعمال المحلية، بل توسعت لتشمل أفلاما من دول مثل فنلندا وأميركا وفرنسا. هذا التحول رفع من وعي الجمهور وتوقعاته، مما دفعه للتساؤل: لماذا لا نقدم أعمالا تضاهي المستوى الفني والتقني العالمي؟

للأسف، لا يزال بعض صُناع الأفلام في مصر يخشون المغامرة، معتقدين أن الجمهور غير مستعد لتقدير الأعمال المختلفة، وهو تصور خاطئ. فالجمهور اليوم ذكي، خاصة الشباب، الذين يتابعون كل جديد ويسعون وراء أعمال تحترم ذكاءهم وتقدم تجربة مميزة.

ومع أن هناك محاولات لصناعة سينما مغايرة، فإن التحدي الأكبر يكمن في صعوبة إيجاد الدعم الإنتاجي، وهو تحدٍ عالمي. على سبيل المثال، استغرق فيلم “الوحشي” (The Brutalist) الحاصل على جائزة غولدن غلوب، 7 سنوات لإيجاد منتج متحمس. ورغم هذه الصعوبات، شهد عام 2024 قفزة نوعية في السينما المصرية مع أفلام مثل رحلة 404 والهوى سلطان، التي جمعت بين التميز الفني والجاذبية التجارية.

  • فيلمك أيضا استغرق 7 سنوات من أجل تنفيذه، ما الصعوبات التي واجهتك؟ وهل التصوير في “القاهرة” كمدينة شكل جزءا من هذه الصعوبة؟

استغرق العمل على الفيلم 7 سنوات، وكان التمويل هو السبب الرئيسي وراء هذا التأخير. فالتجارب المغايرة والجديدة يصعب على المنتجين تبنيها بسهولة، وكان علينا البحث عن وسائل تمويل تتيح لنا تنفيذ الفيلم كما نريد، دون أي إملاءات. والفيلم مصري خالص، يعكس حياة الناس العاديين، ومن دعمنا قدم دعمه دون فرض قيود، مما تطلب وقتا لتأمين الدعم والمنح اللازمة.

ولم تكن الصعوبات مرتبطة بكونه فيلمي الروائي الأول، بل تضمنت تحديات مثل التصوير الخارجي في أماكن جديدة وغير معتادة، وهو ما كان مغامرة إنتاجية بحد ذاتها. لكن فريق الإنتاج، بقيادة المنتجة رشا حسني والمنتج الفني محمد جمال الدين، كان متعاونا وشجاعا في مواجهة هذه التحديات.

واجهنا بلا شك صعوبات في التصوير بأماكن جديدة مثل السيطرة على الناس في المنطقة، خاصة أنهم غير معتادين على وجود طاقم تصوير. بالإضافة إلى ذلك، كانت مشاهد الليل في الشوارع تحديا كبيرا، بسبب صعوبة الإضاءة وضيق الوقت.

واخترت منطقة السيدة زينب للتصوير، لأنني أردت الحفاظ على أصالة المشاهد. فق كانت جغرافيا القاهرة عنصرا أساسيا بالنسبة لي، حتى في التفاصيل الصغيرة. فأردت أن تكون الأماكن التي يمر بها البطل، من منزله إلى عمله في الزمالك، دقيقة ومنسجمة مع الواقع. وأعتقد أن هذا الانتباه للتفاصيل هو ما جعل الجمهور يشعر بأنه يشاهد القاهرة الحقيقية، وكل ذلك كان نتيجة جهد وتحضير كبيرين، والحمد لله أن المشاهدين صدقوا هذه التجربة.

  • التعامل مع الحيوانات وتدريبها عبء إضافي في الأفلام من هذه النوعية، كيف تعاملت مع هذا التحدي؟

استغرقت التحضيرات للفيلم 5 أشهر قبل بدء التصوير، وكان جزء كبير من هذه الفترة مخصصا لتدريب الكلب “رامبو”. ورغم صعوبة الأمر، اعتبرته جزءا ممتعا من التجربة. فمنذ البداية، كنت مدركا أن العمل مع الكلب سيمثل تحديا كبيرا، لكنني تعاملت معه كفرصة لاختبار نفسي كمخرج قادر على توجيه الكلب ليؤدي بشكل مقنع. وكان التحدي أشبه بلعبة مع شريك صعب المراس، ورغم المشقة، استمتعت بهذه التجربة لأنها كانت خيارا شخصيا وليست فرضا.

والسر في نجاح التجربة كان في التحضير الدقيق والمذاكرة. أخذت الوقت الكافي لدراسة تصرفات الكلب وسلوكه، وأجرينا العديد من البروفات لفهم الأسلوب الأمثل للتعامل معه خلال التصوير. وكان الهدف هو جعل العملية أكثر سلاسة، وضمان أن أحصل على الأداء المطلوب بطريقة طبيعية ودون ضغوط إضافية.

  • كيف اخترت الفنانين وضيوف الشرف؟

كانت عملية الاختيار بسيطة ومباشرة. كنت أبحث عن الممثل الذي يتناسب تماما مع متطلبات الدور. أؤمن أن 70-80% من نجاح أي شخصية يعتمد على مدى تطابق الممثل مع الدور، بينما النسبة المتبقية تعتمد على مهاراته التمثيلية. فعندما يكون الممثل مناسبا للشخصية، يصبح الأداء أكثر إقناعا وطبيعية، دون الحاجة إلى بذل مجهود إضافي.

  • هل تعكس تفاصيل الشخصيات وأداء عصام عمر وركين سعد رؤيتك الإخراجية أم جاء ذلك من خلال السيناريو أو تدريب الممثلين؟

الحقيقة أن الأمر كان نتيجة تداخل عدة عوامل. فالبداية كانت من رؤيتي أثناء كتابة السيناريو بالتعاون مع محمد الحسيني، وهو جزء من أسلوبي كصانع أفلام. أؤمن أن الناس في حياتهم اليومية نادرا ما يظهرون مشاعرهم بشكل واضح، مهما بلغت أحزانهم. فلا نرى أشخاصا يبكون في الشوارع، بل يمضون يومهم وهم يخفون مشاعرهم وراء صمت أو محادثات سطحية. فالأمور العميقة التي تشغلنا غالبا لا نبوح بها بسهولة، وهذا التصور كان أساس بناء الشخصيات.

وتم توضيح هذا النهج للممثلين، مثل عصام عمر وركين سعد، وكذلك لسماء إبراهيم، التي كان دورها قصيرا لكنه مؤثر، وأحمد بهاء “بوب”. عصام وركين تحديدا يتبعان المدرسة التمثيلية نفسها التي تركز على التعبير الداخلي، حيث لا تظهر الأحزان بسهولة. لذلك، لم أجد صعوبة في توجيههم، فبمجرد أن أعطيتهم المفاتيح الأساسية للشخصيات، استطاعوا تقديم أداء مميز ومقنع.

  • “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” يعيدنا إلى سينما الواقعية وسينما المهمشين التي برزت في الثمانينيات مع مخرجي الواقعية الجديدة. هل تأثرت بهذه المدرسة؟

بالتأكيد، فقد نشأت في أحياء شعبية مثل إمبابة وميت عقبة، ولدي أصدقاء في السيدة زينب، مما جعلني مرتبطا جدا بهذه الأماكن. وبالنسبة لي، هؤلاء الأشخاص ليسوا مهمشين، بل هم “عاديون” يمثلون غالبية الشعب. لديهم أحلام بسيطة، لكنها صادقة وتستحق أن تُروى. ربما لهذا السبب يشعر الجمهور بالصدق في أفلامي، لأنها تعكس واقعا مألوفا لهم.

فأنا مهتم بتقديم قصص عن هؤلاء الناس، عن أحلامهم العادية ولكن المليئة بالإنسانية. مهما كان نوع السينما التي أقدمها، سواء كوميديا أو أكشن أو دراما، الأهم هو أن أُعبّر عنهم بإحساس صادق لأنني جزء منهم. لا أتعامل مع هذه الشخصيات بنظرة استشراقية أو فوقية، بل أنقل قصصهم من داخلي.

أما بالنسبة للتأثر بالواقعية الجديدة، فأنا لا أخجل من القول إنني متأثر بسينما محمد خان. في الحقيقة، حرصت على إهداء هذا الفيلم له بطريقة غير مباشرة. بدلا من كتابة ذلك على التتر، وجعلت التحية تظهر داخل العمل نفسه، مثل استخدام موسيقى فيلم الحريف في مشهد البداية بين البطل ووالدته، أو استلهام مشهد يجمع البطل بعمه من مشهد مشابه لعادل إمام في الحريف.

أنا مغرم بسينما هذا الجيل من المبدعين، مثل داوود عبد السيد، عاطف الطيب، وخيري بشارة، وعلى رأسهم محمد خان. هؤلاء المخرجون أثروا بشكل كبير في رؤيتي وحبي للسينما، وتركوا بصمة واضحة في أعمالي، حتى لو بشكل غير مباشر.

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version