يعد بابكر بدري أحد أعلام السودان، فمنذ أواخر القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 أخذ على عاتقه إحداث ثورة مزلزلة في المجتمع السوادني المحافظ، وذلك بتبنّيه مشروعا لتعليم البنات السودانيات، ومع أنه واجهته عوائق كثيرة من المجتمع المحلي وسلطات الاحتلال البريطاني، فقد استمر في مسيرته حتى آتت أكلها في أوساط الفتيات السودانيات.

واليوم، تدين جامعات السودان قاطبة، ومناراتها العلمية المختلفة بالفضل للشيخ بابكر بدري، فقد أرسى دعائم التعليم في المجتمع السوداني عامّة، وفي مجتمع النساء خاصة، حتى نال عن جدارة لقبَ “معلم البنات”. واحتفاء بذكراه، عرضت عنه الجزيرة الوثائقية على شاشتها فيلما من إنتاجها بعنوان “معلّم البنات”.

“كان مثقفا بمقاييس السودان في وقته”

ولد بابكر بدري في منزل متواضع على نهر عطبرة، في يوم الخميس غرةَ شهر صفر الخير، من عام 1278 هـ، الموافق 1864 م، ونشأ في أحضان عائلة أمّية في التعليم متوسطة الدخل، ولكنها غنية بالأخلاق والرضا، في حالَي البؤس والنعيم.

يقول بدري في مذكراته إن مجاعة وقعت في شمال السودان، فاضطرت العائلة للنزوح إلى منطقة رفاعة وسط السودان، وهي من أقدم مدن االسودان، وانتشر فيها التعليم الديني في الخلاوي الصوفية، وكان الرفاعيون يحبون التعليم، إضافة إلى شغلهم في الزراعة.

لقد كان بدري شغوفا بالتعلم والقراءة، فلا يكاد يلقاه أحد إلا وهو ممسك كتابا يطالعه. تقول عنه الناشطة النسوية رباح الصادق المهدي: كان الشيخ بابكر بدري مثقفا بمقاييس أهل السودان في وقته، ودخل الخلوة “الكُتّاب” مثل غيره من الفتيان وشجعته أمه “السيدة مدينة” بشدة على طلب العلم، مع أنها أمية.

انتقل بدري فيما بعد إلى مدينة ود مدني، ودرس بعض المتون الفقهية والعلوم الشرعية على الفقيه الأزيرق، وكانت لديه مكتبة بها أكثر من 80 من كتب العلوم المختلفة.

تقول آمنة بدري، وهي حفيدة بابكر من الجيل الرابع: كان جدّي شخصية اجتماعية محبوبة، ويتعامل بأريحية داخل أسرته مع بناته أو أخواته، وكانت أخواته يرغبن في العمل بالتجارة حتى لا يكُنّ عالة عليه، وهذا مما دفعه لتحفيز المرأة وتشجيعها على التعليم والعمل. وكُنّ يقلن له: فقط أعطنا رأس مال نبدأ به، ونحن بعد ذلك نشتغل وننتج.

هزيمة المهدية على الحدود المصرية.. رب ضارة نافعة

بايع بابكر بدري المهديَّ على القتال في صفوف جيشه، والتحق بالراية الحمراء التي كان يقودها الأمير عبد الرحمن النجومي، وقد أمرهم المهدي أن يطاردوا حملة الإنقاذ إلى توشكا على الحدود المصرية، وهناك هُزم النجومي ووقع بدري في الأسر، وكان من حسن حظه أنه لقي معاملة حسنة، وبعد إطلاق سراحه زار مقام الحسين في القاهرة.

وقد أثّر عليه وجوده في القاهرة، فتعرَّف على بيئة جديدة ومجتمع جديد، وعلى عادات وتقاليد لم يعهدها، وقد ألهمه ذلك بأفكار لتطوير التعليم في بلده.

في 1898، سقطت الدولة المهدية، فبدأ بابكر بدري حياة جديدة، فاهتم بالتعليم، وهادن الاستعمار الإنجليزي المصري، لأنه رأى في ذلك مصلحة للاستفادة من الجو التعليمي على محدوديته، وهناك تعرف على “السير كيري”، وكان مسؤول التعليم في حكومة الاستعمار البريطاني، وكانت بصماته الاستعمارية واضحة في مناهج الدراسة وطرق التعليم.

فالتعليم في ذهنية المحتل الإنجليزي ليس من أجل نشر العلم والمعرفة بين السودانيين، بل لتعليم فئة قليلة معينة، من أجل شغل وظائف بسيطة في سلك إدارة الدولة.

فتح المدارس.. محاولة لاستغلال إرادة المحتل البريطاني

دأبت إدارة الاحتلال الإنجليزي على عقد التحالفات مع الأعيان وزعماء العشائر والقبائل في عموم مناطق السودان، وذلك لكسب ودّهم ولضمان عدم اشتعال فتيل الثورة ضدهم في البلاد، وأطلقوا مبادرات من شأنها امتصاص غضب الناس، منها تشجيع إنشاء المدارس في المديريات، وتخصيص مكافأة قيمتها 50 جنيها للمديرية التي تبادر لافتتاح مدرسة.

بادر الشيخ بابكر بدري بإقناع المشايخ في بلدة رفاعة ببناء المدرسة، وسجّل 28 تلميذا، فتَقرر فتح المدرسة، وكانت عبارة عن غرفة واحدة، طولها 16 مترا، وعرضها 8 أمتار، ويقسمها عمودان 3 أقسام، وقد عُيّن الشيخ بابكر ناظرا لها.

اكتشف بدري أهمية العلم والتعليم من معارك الثورة المهدية مع الاحتلال، يومها اكتشف أن الشجاعة والبسالة ليست وحدها الكفيلة بتحقيق النصر، وأن العلم والمعرفة هي أسلحة ضرورية في المعركة، لا تقل أهمية عن الشجاعة، واكتشف أيضا أهمية تعليم البنات، لأن المحتل الإنجليزي لم يكن حريصا على تعليم البنات.

بابكر يفجّر ثورة في مجتمع رفاعة.. تعليم البنات

قرر بابكر بدري افتتاح أول مدرسة لتعليم البنات في السودان، ولم يكن هذا القرار يسيرا على أهل رفاعة ولا على المحتل الإنجليزي، فقد طلب من مسؤول المعارف الإنجليزي ونائبه مرارا على مدى سنوات منذ 1905، وقال لهم: عندي في بيتي 11 بنتا مستعدات للتعليم، ويمكنني إقناع عائلات أخرى، كل ما أطلبه منكم 10 جنيهات، أبني بها غرفة صفّية واحدة.

لم يوافق مسؤول المعارف الإنجليزي على العرض، ولكنه أخبره أنه لا يمانع إذا افتتح المدرسة في بيته من حُر ماله وعلى مسؤوليته الشخصية، وقد افتتح بدري المدرسة عام 1907، وألحق بها بناته وبنات العائلات القريبة منه، لكن ناله أذى كثير من مأمور المركز وشخصيات المدينة والقاضي ومدير المديرية، وصلت إلى اتهامات شخصية بحقه.

يقول بدري في مذكراته عن تلك الحادثة: لما أخذت خطاب “السير كيري” بخصوص مدرسة البنات، صرت أحبذ للناس تعليم البنات تعليما حديثا، لتتمكن البنت من إدارة بيتها بطريقة تغري المتعلمين من بني جنسها وأقاربها أو معارفها بالزواج منها، حتى لا يتسرب المتعلمون للزواج من أجنبيات.

كان بدري مربيا قبل أن يكون معلما، وكان ذا منهج فريد في التدريس يعتمد الأصالة، ويكتب مناهجه بأبيات الشعر كعادة كتّاب المتون السابقين، وكان يعطيهم الأمثلة من خير القرون على تعليم البنات، فجابر رضي الله عنه علّم أولاده الأربعة وأختهم فاطمة، فكانت نظيرتهم في العلم، كما جاء في الطبقات.

وقد افتتح المدرسة في بيت مستأجر بجوار بيته، وابتدأ بـ17 فتاة، كان 9 منهنّ من أهل بيته، وكان شعاره الأول تعليم البنت على إدارة شؤون منزلها، وكان يعلمهنّ أن يمسكن بالقلم، ويتعامل معهنّ كأنهنّ بناته، ويحرص على تعليمهنّ التدبير والادخار والاقتصاد المنزلي، وصار ذلك يلفت نظر شباب السودان، ممن كانوا يميلون للأجنبيات المتعلمات.

الثورة تؤتي أكلها.. تعليم البنات يعمّ أنحاء السودان

آتى التعليم أكله، وأصبحت بنات بابكر بدري متميزات في مجتمع رفاعة بأدبهنّ وعلمهنّ وحسن تدبيرهنّ وجمال لباسهنّ ومظهرهنّ، وهو الأمر الذي شجع بقية بنات رفاعة على الإقبال على التعليم.

بعدها أصبح بدري مفتشا في وزارة المعارف، وزار معظم مديريات السودان، وقضى في السلك الحكومي 10 سنوات. وقد جاء في مذكراته: وفي 1929، مُنحتُ كسوة الشرف بسرايا الحاكم العام، ضمن الاحتفال السنوي الذي يقام تخليدا لزيارة الملكة، التي كانت في 1912.

وفي نفس العام 1929، أحيل بدري إلى المعاش، بعدها فكّر في إنشاء أول مدرسة خاصة، وسمّاها “الأحفاد”، لأن عددا من تلاميذها كانوا من أحفاده، وقد افتتح المدرسة سنة 1930.

وبعدها بسنتين عرض عليه بعض أعيان أم درمان -وعلى رأسهم السيد عبد الله المهدي- أن ينقل مدرسة الأحفاد أو يفتح لها فرعا في أم درمان، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فقد لقي في أم درمان ما لقي في رفاعة من صعوبة إقناع الأهالي والحصول على تمويل.

شكّل بدري مجلس أمناء، وقدّم طلبا لمسؤول المعارف الإنجليزي هناك، للتصديق على منحه قطعة أرض يبني عليها المدرسة، فقوبل الطلب بجفاء ورفض، وبعد سنتين من المماطلة نال موافقة على منح الأرض، بشرط إنشاء البناء حسب المخططات التي أعدها مسؤول المعارف.

يوسف بدري.. حامل مشعل التعليم من بعد أبيه

كان بابكر بدري يؤسس المراحل الدراسية بالتدريج في رفاعة، وينتقل من مرحلة إلى أخرى كل 4 سنوات، وكان يواجه عراقيل تتمثل في تعنت حكومة الاحتلال ونقص المدرسين المؤهلين، فتوجه إلى مصر، ولقي طه حسين فأوفد مدرسين مصريين تتحمل بعض نفقاتهم وزارة المعارف المصرية، إلى أن استطاع افتتاح المرحلة الثانوية في 1943.

وفي نفس السنة أصابه نزيف في دماغه، فاضطر ابنه يوسف لترك مهنة الصيدلة والتفرغ لمعاونته في إدارة مدرسة الأحفاد، وقد ترك يوسف بصمته على المدرسة، فطورها إلى كلية جامعية، وأصبحت في ذلك الوقت الجامعة الوحيدة للفتيات، ورفدت المجتمع بعدد كبير من الخريجات المتميزات.

كان بدري رجلا متميزا، مارس كل أنواع النضال في الحياة السودانية، فحمل السلاح وقاوم الاحتلال، وحمل مشعل العلم، وفتح الطريق لتعليم البنات، وكان يحاول الاستفادة من التقدم العلمي الذي يحرزه الغرب، وفي الوقت نفسه يستصحب معه تقاليد المجتمع السوداني وموروثاته الثقافية والحضارية.

انتقل بابكر بدري إلى رحمة الله في 1954، وكان ذلك فقدا عظيما لمجتمع أم درمان والأمة السودانية عموما، لكن اسمه سيبقى خالدا بأحرف من نور في الحياة الاجتماعية السودانية، فهو رائد تعليم المرأة وتحريرها في السودان، وإليه يرجع الفضل في كل مركز متقدم وصلت إليه المرأة السودانية، فهو الذي أرسى دعائم هذه السُّنة الحسنة في تعليم البنات.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version