بأصوات طفولية عذبة ينطلق أريج القرآن الكريم من ربوع المجمع الكبير الذي احتفت السنغال حكومة وشعبا بتأسيسه في طوبى قبل ما يقارب العامين، يحمل هذا البناء الضخم اسم مجمع الشيخ أحمدو بمبا، وحول هذا الاسم تدور كثير من المشاعر والقرابين والطقوس والانتماءات في السنغال وفي عموم غرب أفريقيا.

يمثل الشيخ أحمدو بمبا قطبا دينيا مؤثرا في حياة الناس، قاوم الاستعمار الفرنسي بقوة وصلابة، وأسس طريقة ينتمي إليها الملايين، وحول ضريحه ذي القباب والشباك المذهبة ترتسم آماد من التقديس الأفريقي لرجل يتفاوت الناس فيه، بين من يقترب به من معنى التقديس كما يقع لمجموعة “باي فالات” وآخرين يرون فيه رمز الإصلاح الأكبر في غرب أفريقيا، ويرون في اتباعه “طوبى وحسن مآب”.

وبسبب قوة تأثيره ومواقفه المناهضة للاستعمار اضطرت السلطات الفرنسية لاعتقاله وإبعاده إلى الغابون حيث قضى فيها 7 سنوات، وبعد عودته إلى بلاده تم نفيه مرة أخرى إلى موريتانيا حيث قضى فيها 4 سنوات.

ومع أن الرجل رحل قبل أزيد من 9 عقود من الزمن بعد حياة حافلة مفعمة بالزهد والتصوف ومقاومة المستعمر فإن ذكره ظل يلح في القلوب وما زالت صحائف ذكراه في دفاتر التاريخ وحقائب الأيام لم تطو بعد ذلك، بل ما زالت عاطرة تتوسع سطورها وهوامشها كل حين.

يحمل أتباع الشيخ أحمدو بمبا أو الشيخ امبكه أو الشيخ الخديم اسم المريدين، وتقدر بعض المصادر عددهم بنحو 10 ملايين ينتشرون في أرجاء العالم، في حين يرى بعض مشايخ الطريقة أن العدد أكثر من ذلك بكثير.

وفي كل عام يؤدي نحو 4 ملايين من هؤلاء الأتباع “رحلة زيارة” إلى المدينة المقدسة طوبى في ذكرى الغيبة الجبرية للشيخ الخديم عندما نفاه المستعمر الفرنسي إلى خارج البلاد.

يتداخل التاريخ والدين والتعليم والتصوف في هذه المدينة التي تؤوي ثاني أكبر عدد سكاني في السنغال بعد العاصمة دكار، لكنها الأولى من حيث القداسة، بالإضافة إلى مدينتين سنغاليتين أخريين هما كولخ وتيواون الشهيرتان.

طوبى.. فضاء إسلامي بدون خمور ولا دخان

تتوقف حركة التدخين عند مشارف مدينة طوبى (192 كلم شرقي العاصمة دكار)، ويعرف الجميع هنا أنه لا يمكن أن يشعل سيجارة في فضاء عام، ويمكن لمن شاء أن يختبئ بعيدا، فالهيئات المكلفة بمحاصرة المحظورات الشرعية لا تتجسس على المختبئين في بيوتهم.

وقد أنتج تحديد لائحة المحظورات خلو المدينة من مظاهر أخرى تنتشر بشكل يومي في السنغال، حيث يمنع في مدينة الشيخ الخديم تعاطي المسكرات بجميع أنواعها، وكذلك تعاطي التدخين.

كما يحظر بيع أو تعاطي مواد تغيير البشرة أو وصل الشعر، أو ارتداء الثياب غير المحتشمة أو المخالفة للزي الإسلامي، أو إقامة محلات التجميل النسائية التي تنتشر بشكل كبير في السنغال مثل غيرها من دول العالم.

وصدر منتصف العام 2019 في وثيقة رسمية صادرة عن الخليفة وبموافقة ودعم من الرئاسة السنغالية تحديث بقائمة المحظورات في المدينة التي توصف في السنغال بالمقدسة.

وشملت قائمة المحظورات تحريم تعاطي السحر والشعوذة في عموم منطقة طوبى، وفقا للوثيقة التي توعدت ممارسي السحر بالعقاب.

وطالت المحظورات أيضا رياضة كرة القدم ذات الجمهور الكبير في السنغال، كما حظرت أيضا المصارعة التي تعتبر تراثا سنغاليا تقليديا يشارك فيه الآلاف سنويا وتبث بطولاته عبر الإعلام الرسمي، وكذلك ممارسة القمار أو بيع أدواته أو إقامة مراكزه في عموم مدينة طوبى.

وعقب صدور القرارات الجديدة زار الرئيس السنغالي السابق ماكي صال زار “الحضرة الخديمية”، وظهر الرئيس وهو يقبّل يدي الشيخ محمد المنتقى، وأثنى على “الدور الروحي والريادي للمشيخة” وأكد التزامه بتنفيذ المشروعات التي تحتاجها المدينة، وفقا لما ورد في وكالة الأنباء السنغالية الرسمية.

تأسست طوبى (تحريف لكلمة “التوبة”) سنة 1887 على يد الشيخ أحمدو بمبا (1853-1927) المعروف بمواقفه المناهضة للاستعمار الفرنسي، وكانت دار هجرة للشيخ وتلاميذه ومريديه من صخب المدن الزاخرة إلى فضاء تربوي يمكن أن تنبسط عليه دعوته ورؤيته للإصلاح وفق ما يرى سرين إمباكي عبد الرحمن، وهو أحد مشايخ الطريقة المريدية الذين تحدثوا إلى الجزيرة نت باسم قيادة الطريقة.

ويرى عبد الرحمن أن طوبى تستمد خصوصيتها “من سبب بنائها ومن بانيها أيضا، ومن سكانها كذلك، فالمدينة أُسست من طرف الشيخ أحمدو بمبا مؤسس الطريق المريدية هنا في السنغال وفي غرب أفريقيا”.

وقد ابتهل الشيخ الخديم -يقول عبد الرحمن- لمدينته أن تنال بركات الأرض والسماء حينما قال “اللهم إنك أخذت زمامي إلى الأرض التي اخترتها لي وبنيت فيها دارين لأعبدك فيهما بالإيمان والإسلام والإحسان، وسميتهما دار السلام وطوبى تبركا بهما، فاجعلهما بفضلك وبجاه وسيلتي إليك -صلى الله تعالى عليه وسلم- سالمتين غانمتين”.

وقد أخذت المدينة هويتها الدينية، فانتشرت المساجد في جنباتها، حيث يرتفع فيها الآذان الآن من أكثر من 150 منارة، وينتشر حفظ القرآن بين سكانها من الباعة والمنمين (أصحاب المواشي) والموظفين والفقراء والأغنياء، كما تنتشر فيها عادة كتابة المصحف بخط يدوي تعبيرا عن إتقان معارف القرآن الكريم بدلا من نظام الإجازة.

وفي لوحة الهوية الدينية تتبع الخليفة نظاما إداريا يتربع على رأسه الخليفة العام للمريدية، وهو الأسن دائما من أحفاد الشيخ أحمدو بمبا، وذلك بعد أن توالى أبناؤه على الخلافة، وانتقلت الكلمة والسلطة إلى الجيل الثالث.

وتملك الخلافة نظاما إداريا يسمح لها ببسط نفوذها وسطوتها وسلطانها وإلزام الجميع بالتقيد به، دون أن تتجاوز إلى الصلاحيات الخاصة للأمن والسلطة المركزية.

ووفق المتحدث باسمها، فإنه توجد هيئة مكلفة بمتابعة المحظورات “وإذا وجدت هذه الهيئة من يتلبس ببعض الممنوعات يسلم إلى الشرطة، لأن الشيخ الخليفة توافق مع السلطات الرسمية على قائمة بهذه الممنوعات”.

وقد أصدرت الخلافة منذ سنوات هذه القوانين بصورة معلنة، وبحضور رئيس الجمهورية ليعرف الجميع أن هذه الأشياء ممنوعة في طوبى، وعلى السلطات القضائية والأمنية التعاون مع القيادة في هذه الأمور، لهذا إذا ضبط أحد متلبسا ببعض تلك الممنوعات فلا يقوم الخليفة نفسه أو الهيئة بمعاقبته مباشرة، بل يجري تسلميه للسلطات التي عليها أن تتخذ الإجراءات القانونية اللازمة ضده.

ويصنف الخليفة الحالي الشيخ محمد منتقى امبكه باعتباره أحد فقهاء المريدية، حيث درس في المحاظر الموريتانية، وظهرت بصمته العلمية في إطلاقه العديد من المؤسسات التعليمية، ومن بينها مجمع الشيخ أحمدو بمبا الذي يضم مدرسة قرآنية ومجمعا إسلاميا تقليديا وجامعة من كليات متعددة.

ويعمل مع الشيخ المنتقى عدد كبير من المستشارين والمساعدين الكبار من مختلف أحفاد الشيخ أحمدو بمبا وكبار تلاميذه وقادة فروع المريدية في أنحاء العالم.

وتملك الخلافة آلية تمويل كبيرة من خلال الاشتراكات والهدايا والدعم التي تصلها من الأتباع ومن الحكومة، إذ يمكن اعتبارها -بوجه ما- مؤسسة ذات نفع عام وممتد.

ماغال.. موسم حج أفريقي إلى طوبى

تحتفل طوبى كل سنة في 18 من شهر صفر بما يعرف بـ”موسم ماغال”، وهو تاريخ عودة الشيخ أحمدو بمبا من منفاه الذي أبعده إليه الفرنسيون عقابا له على مواقفه تجاههم ومقاومته لهم.

وتستقبل المدينة في هذا الموسم بين 4 إلى 5 ملايين زائر يفدون إليها من مختلف مدن السنغال ومن خارجها، رجالا وعلى كل ضامر.

تتحول المدينة في أيام ماغال إلى ما يشبه مكة المكرمة في موسم الحج، فملايين الزوار يفدون إلى بقعة صغيرة ويمكثون فيها أياما في ذكر ودعاء وقراءة لأوراد الطريقة ومدائح الشيخ أحمدو بمبا.

ورغم الأعداد الكبيرة التي تحج إليها سنويا فإنه لا توجد فنادق ولا نُزل تجارية في المدينة، وهو ما يطرح تحديات كبيرة بشأن استضافة الأعداد الضخمة التي تفد إليها كل عام.

يتقاسم الجميع أعباء الضيافة، فالخلافة المريدية تتولى استضافة الوفود الرسمية والجهات المدعوة في مساكن مخصصة لذلك الغرض، في حين يتولى سكان المدينة إيواء أعداد كبيرة في بيوتهم ومساكنهم، ويختار آخرون بناء خيم متواضعة أو البقاء في ساحات الجامع الكبير والمنطقة المحيطة به خلال أيام الزيارة.

وبالإضافة إلى الأتباع والمريدين فقد حولت الحضرة المريدية فعاليات “الماغال” إلى موسم علاقات عامة نوعية، إذ تستضيف المدينة في كل ماغال كامل أعضاء السلك الدبلوماسي في السنغال باستثناء السفير الإسرائيلي الذي يحرم عليه دخول طوبى.

كما يمثل موسم ماغال فرصة تجارية غير مسبوقة، ليس فقط في طوبى، بل في المدن المجاورة مثل مباكي، وهي فرصة تتنافس فيها الشركات والأفراد في عرض البضائع والخدمات المختلفة، في موسم بالغ الأهمية لا يتكرر إلا مرة واحدة كل عام.

المزارات

باستثناء فترات المواسم الدينية وذكرى ماغال تبدو مدينة طوبى هادئة وادعة رغم أن طوابير الحجاج والزائرين لها من داخل وخارج السنغال لا تتوقف، إذ يربطها بالعاصمة دكار طريقان سريعان شيد أحدهما قبل فترة وجيزة.

وتمثل منطقة الجامع الكبير -الذي يعد أحد أكبر مساجد العالم- القلب النابض بالحياة في مدينة طوبى، يرتادها الآلاف غدوا وعشيا للصلاة والزيارة.

ويحاكي المسجد الكبير في بنائه وتصميمه المسجد النبوي في المدينة المنورة، ومن العادات التي أصبحت بمثابة قواعد لا ينبغي خرقها أو تجاوزها عدم ارتداء الأحذية في الساحات الخارجية ذات المساحات الواسعة التي تحيط بالمسجد من كل ناحية، وعلى الزائر أن يخلع نعليه عند البوابة الرئيسية وألا يرتديهما قبل أن يخرج من حرم الجامع وساحاته الفسيحة.

تحت قباب المسجد الكبير يوجد ضريح مؤسس الطريقة الميريدية الشيخ أحمدو بمبا، كما تنتشر أضرحة أبنائه وخلفائه في ساحات المسجد، ويحرص زوار الجامع على المرور بتلك الأضرحة “للتبرك” والدعاء عند جدرانها وفي محيطها.

وفي منطقة الجامع توجد المكتبة المريدية الضخمة التي تضم تراث الشيخ أحمدو بمبا ومؤلفاته، وتحوي بين رفوفها وقاعاتها الكبيرة آلاف الكتب المخطوطة والمطبوعة.

وغير بعيد عن الجامع يوجد منزل خليفة الطريقة، والذي يعتبر هو الآخر أحد أكبر المزارات في المدينة، حيث يعج يوميا بآلاف المريدين والزوار، ولهم في ذلك مآرب شتى، فالبعض لديه مشكلة يبحث عن حل لها، والبعض يريد السلام والزيارة، وآخرون يبحثون عن البركة والدعاء، وآخرون تقطعت بهم السبل ويبحثون عن مأوى.

ولا تنحصر قائمة زوار بيت الخليفة على المريدين والأتباع، فالوفود الرسمية من داخل وخارج السنغال تتقاطر باستمرار، والرؤساء السنغاليون يحرصون حيثما سنحت الفرصة على زيارة الخليفة والتماس البركة والدعاء منه كما يقول أحد مشايخ الطريقة للجزيرة نت.

ويعتبر الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد نفسه أحد أتباع الطريقة، وسبق أن أعلن مبايعة خليفتها على السمع والطاعة، أما الرئيس السابق ماكي سال فلم يبايع بشكل علني، ولكنه يزور المدينة وخليفتها باستمرار، وينحني أمامه طلبا للبركة، ولا سيما عند اقتراب المواسم الانتخابية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2019 حرص سال على افتتاح حملته الانتخابية من مدينة طوبى كما فعل غريمه وأحد منافسيه في تلك الانتخابات ماديكه نيانغ، وهي خطوة يحاول من خلالها السياسيون المتنافسون مغازلة ملايين الناخبين من أتباع هذه الطريقة وإعطاء الانطباع بقربهم من الطريقة واستعدادهم لخدمتها.

مجمع الشيخ الخديم.. صناعة للقيادات الدينية

احتفت طوبى قبل أكثر من عام ونصف بإطلاق مجمع الشيخ أحمدو بمبا التعليمي الذي يمثل انعطافة حداثية غير مسبوقة في التاريخ التعليمي للمدينة.

ويحاول القائمون على هذا المجمع إدارة فروع معرفية مختلفة تجمع بين النمط الدراسي التقليدي السائد في السنغال وموريتانيا وبين التعليم الأكاديمي العالي الذي يضمن استمرار إنتاج العلماء والمرجعيات الفقهية في المجتمع الطوباوي.

وكلف إنشاء المجمع قرابة 60 مليون دولار جاءت كلها على نفقة الخلافة ومريديها وكبار متبرعيها، ويتضمن المجمع -وفق عميد كلية الدراسات الإسلامية الدكتور عبد الأحد لوح- 3 وحدات كبرى هي:

  • المعهد القرآني الذي يستقبل طلابا في سن السادسة أو السابعة، ويستمر تعليمهم لمدة 4 أعوام تقريبا حتى يحفظوا القرآن الكريم، قبل أن ينتقلوا إلى مرحلة الإتقان والتجويد وضبط الأداء.

ويحتضن المعهد القرآني الآن 800 طالب يقيمون ويدرسون على نفقة الخلافة، وهم الأساس الذي يعتمد عليه المجمع في بناء مسار علمي متدرج وصناعة مراحل علمية نوعية.

  • معهد المجالس: وهو المرحلة الثانية، ويستقبل حفظة القرآن الكريم، ويتوزع إلى مراحل أساسية، ومتوسطة، ومرحلة جامعية تختتم بشهادة البكالوريوس في العلوم الإسلامية، ولكن وفق النظام التقليدي المحظري المعتمد في السنغال وموريتانيا.
  • جامعة الشيخ أحمدو بمبا: وتضم كليتي الشريعة والعلوم الصحية والمهن الطبية، وتسير الجامعة في ربيعها الثالث ساعية إلى رفع كلياتها إلى 5، وإضافة معهد للغات والترجمة وآخر للتكوين المهني، وفق ما قال لوح في مقابلته مع الجزيرة نت.

وتعتمد الجامعة اللغة العربية في تعليمها العام، باستثناء التخصصات المهنية فإنها تدرس باللغة الفرنسية، ويتوقع الدكتور لوح أن يكون كل طلاب الجامعة مستعربين، إذ إن طلاب التخصصات العلمية والمهنية سيصلون إلى مرحلة البكالوريا وهم في مستوى جيد من معرفة اللغة العربية.

يخرج المغادر لطوبى بغير ما دخلها به، فالصورة الخارجية والسمعة الهائلة ليست إلا جزءا قليلا مما تكتنزه المدينة السنغالية المقدسة ذات المحاريب الـ150.

ويقول سكان طوبى ومشايخها إنها اليوم بمساجدها ومراكزها التعليمية وأجوائها الخاصة تمثل تجسيدا للطموح الذي سعى إليه مؤسسها الشيخ أحمدو بمبا، ويرون أن الخليفة الحالي الشيخ محمد المنتقى إمباكي أضاف إلى إرث أسلافه بصمة علمية تمثلت في التوسع بإقامة الكليات والمؤسسات التعليمية.

وبينما يدب الضعف إلى جسد الخليفة الذي ناهز الـ90 من العمر يمتد عمر آخر للمريدية التي تقوى وتتمدد في السنغال وخارجها ويتلقى رايتها أجيال بعد أجيال، ويلهج أتباعها وهم يدخلون أو يغادرون مدينة طوبى بتلك العبارة الشاكرة المشهورة في أدبياتهم “جرجوف سرين طوبى”، أي شكرا لك يا شيخ طوبى.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version