يظل الموسيقار المصري الراحل سيد مكاوي صاحب حالة إبداعية وإنسانية فريدة، فقد أثرى المكتبة الموسيقية العربية بألحان رسخت في الذاكرة العربية، سواء بالأغاني أو الأوبريت أو البرامج الغنائية.

ارتبط اسم مكاوي، الذي تمر اليوم ذكرى ميلاده الـ97، بعدد من الأغاني أبرزها “المسحراتي” وأوبريت “الليلة الكبيرة” و”الأرض بتتكلم عربي” و”الدرس انتهى لموا الكراريس” و”أوقاتي بتحلو” و”رباعيات صلاح جاهين”، إلى جانب إبداعاته مع عمالقة الطرب العربي في مقدمتهم أم كلثوم وليلى مراد ووردة وفايزة أحمد وشادية وصباح ونجاة.

ولد مكاوي عام 1926 لأسرة فقيرة في حارة قبودان بحي الناصرة في منطقة السيدة زينب، ولم يكن أمام والدته خيار لعلاج التهابات عينيه إلا باللجوء للطب الشعبي الموروث لضيق الحال، فوضعت مسحوق البن في عينيه، مما أدى لفقدانه البصر بالكامل وهو في سن صغيرة.

لكن فقدان البصر لم يكن عائقا أمام حفظه القرآن الكريم، وكان متابعا لكبار المقرئين والمنشدين مثل إسماعيل سكر والشيخ مصطفى عبد الرحيم، وكان يستمع إلى الموشح مرة واحدة فيحفظه عن ظهر قلب، خاصة أن والده كان محبا للغناء والطرب، وكان يمتلك كثيرا من الأسطوانات، وكانت والدته تشتري له الأسطوانات القديمة بثمن رخيص لكى يستمع لها.

ولكن حين توفي والده، اضطر أن يعول أسرته المكونة من والدته و5 إخوة وأخوات، فعمل مقرئا ومنشدا في الموالد في سن صغيرة، وكانت هذه المرحلة بداية تأسيس ميوله الفنية كملحن ومطرب أيضا.

حبه للفن أفقده مصدر دخله

بعد اهتمامه بالموشحات والغناء، فقد سيد مكاوي مصدر دخله كقارئ للقرآن الكريم، فأنشأ مع الأخوين إسماعيل ومحمود رأفت ما يشبه “التخت” (أوركسترا أو فرقة موسيقية) لإحياء حفلات للأصدقاء في البداية، معتمدا على ما يحفظه من التراث الشرقي والإنشاد الديني.

وكان يعتبر الألحان وسيلته للتعبير عن المشاعر، ففي حوار صحفي سابق، قال مكاوي: “تعلمت من الألحان التعبير عما بداخلي، وأنا مدين للناس بتعلم الموسيقى، وأعرف ما يحبون بقدر ما أحبهم”.

وفي خمسينيات القرن الماضي، التحق للعمل بالإذاعة المصرية بعد جهد كبير، وتمت الموافقة على أن يغني ربع ساعة فقط في العام، وكان يدفع أجر الفرقة الموسيقية من نفقته الخاصة ليحقق حلمه، وبعدها سعى ليغني موشحات بشكل شهري، وهو ما تحقق له بالفعل.

مقال تسبب في لقاء مع أم كلثوم

جاءت انطلاقة مكاوي حين قدم أغنية “مبروك عليك يا معجباني يا غالي” لشريفة فاضل، و”اسأل عليّ مرة” لمحمد عبد المطلب، وهاتان الأغنيتان أسهمتا في أن يحظى بشهرة واسعة، وسلطتا الضوء عليه في تلك المرحلة.

لكن النجاح الأكبر لمكاوي تحقق حين تعاون مع أم كلثوم في أغنية “يا مسهرني”، وهو التعاون الذي جاء بعد مقال للكاتب رجاء النقاش بعنوان “لماذا لا تغني أم كلثوم لسيد مكاوي؟” فطلبت كوكب الشرق من عازف الكمان أحمد الحفناوي أن يرتب لها لقاء معه. وفي الموعد المحدد، كان قد جهز لها أغنية “يا مسهرني” التي وافقت عليها على الفور، وكان قد جهز لها أغنية “أوقاتي بتحلو” لكنها رحلت عن عالمنا قبل أن تغنيها، وهو ما جعله وقتها يدخل في حالة عزلة، لكن الفنانة وردة الجزائرية أقنعته بأن يغنيها بصوته لتخرجه من عزلته.

وقد تجلت عبقرية سيد مكاوي في بساطة ألحانه وعمق مصريته، فقد انتمى لمدرسة سيد درويش التعبيرية ومدرسة زكريا أحمد الطربية، وهو ما أسهم في أن يصبح سيد مكاوي صاحب تجربة موسيقية مغايرة ومختلفة عن باقي الموجودين في عصره، كما كان متأثرا في ألحانه بالبسطاء والناس، فكان مشغولا بهم وهو ما يتجلى في أعماله.

لماذا لم يتعاون مع حليم؟

ورغم أن مكاوي تعاون مع أغلب نجوم عصره، فإنه لم يتعاون مع عبد الحليم حافظ، وفسر الأمر -في لقاء قديم له مع الإعلامي حكمت وهبي- بقوله إن عبد الحليم كانت له مجموعة من الملحنين المقربين، وخشي أن يلحن له فيتسبب في توقف عملهم مع حليم، مفضلا التضحية بفرصته في العمل مع العندليب الأسمر.

وهو ما أكدته ابنته الكاتبة الصحفية أميرة سيد مكاوي في لقاء لها، إذ قالت إن والدها كان يرى عبد الحليم محاطا بعدد من الملحنين منذ بدايته وحققوا النجاح معا، ولم يرغب في اقتحام تلك المجموعة.

فضل الخيال على البصر

أحب سيد مكاوي الخيال الذي منحه له فقدانه البصر، فرفض أن يجري جراحة في الاتحاد السوفياتي، وقد توسطت له أم كلثوم في ذلك، وبالفعل عرضت عليه الدولة -في عهد الرئيس جمال عبد الناصر- أن يسافر للعلاج لاستعادة بصره، ولكنه رفض تماما.

وعن هذه الواقعة، قالت ابنته أميرة سيد مكاوي -في لقاء تلفزيوني- إن والدها رفض أن يخرج من عالمه وخياله، حتى لا يصدم بالواقع.

ولسيد مكاوي ابنتان، هما أميرة وإيناس، وقد تزوج من الفنانة التشكيلية زينات خليل التي كانت قد حضرت إلى القاهرة لإتمام تعليمها، ووقعت في هوى سيد مكاوي قبل أن تلتقي به، إذ كان يعلّم زميلتها العزف على العود وأحبت ألحانه، وقابلته في البداية بحجة رغبتها في أن ترسم اسكتشات لأوبريت الليلة الكبيرة، إذ بادلها الإعجاب والحب أيضا وطلبها للزواج بداية ستينيات القرن الماضي.

رحل مكاوي عن عالمنا يوم 21 أبريل/نيسان عام 1997، تاركا إرثا موسيقيا كبيرا ومتنوعا من الألوان الغنائية التي برع في تلحينها وتقديمها، ليحقق مشروعا فنيا متكاملا وفريدا.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version