حلّ الفيلسوف المغربي الشهير طه عبد الرحمن ضيفًا على تركيا الأسبوع الماضي، فلقي ترحيبًا استثنائيًا واحتشادًا للاستماع إليه في كل محاضرة ألقاها، والحق أن شهرة الرجل وأفكاره فعلت بتركيا فعل العاصفة، أو فلنقل الريح الطيبة، التي سرعان ما تنتشر في كل مكان، وتترك آثارها الطيبة، وهو أمر مذهل لو علمنا أنّ معرفة الأتراك به لم تبدأ إلا منذ 5 سنوات أو أقل.

كان عام 2020 هو عام التّعارف بين طه عبد الرحمن والجمهور التركي، فاكتسب بسرعة سمعة طيبة بين المثقفين الإسلاميين، حتى إنه حصل على الجائزة المرموقة التي تحمل اسم الشاعر التركي نجيب فاضل في نفس العام الذي شهد ترجمة ونشر كتابين فقط من كتب المفكر الكبير، إضافة إلى بحث شامل وعميق عن أفكاره كتبَه وائل حلاق وتمت ترجمته من الإنجليزية إلى التركية، ولكن في الأعوام التالية تم ترجمة 10 كتب أخرى. وهكذا، يمكن القول إن الفيلسوف الكبير قدرًا ومقامًا والبالغ من العمر 80 عامًا قد اكتُشف في تركيا في وقت متأخر، لكن أعماله التي تُرجمت ونُشرت حظيت بقبول واسع.

خلال الأسبوع الماضي، ألقى الفيلسوف المغربي عدة محاضرات في إسطنبول وأنقرة. في إسطنبول، ألقى محاضرة في مركز الدراسات الإسلامية (إسام) تحت عنوان “كيف نبني فلسفة إسلامية أصلية؟” بتنظيم من معهد الفكر الإسلامي التركي برئاسة الرئيس السابق للشؤون الدينية الدكتور محمد غورمز. وفي اليوم التالي، ألقى محاضرة في جامعة غازي بأنقرة بعنوان “الفكر الإسلامي: تفكر وتدبر”. كما تحدث عن “الشر المطلق والمرابطة على الحدود” في مكتبة الأمة الرئاسية وقاعة المؤتمرات الرئاسية حول غزة، والتقى بأعضاء معهد الفكر الإسلامي التركي في جلسات حوارية.

وخلال زيارته، استقبله الرئيس رجب طيب أردوغان، وحصل على “جائزة المفكر الكبير” من معهد الفكر الإسلامي التركي لعام 2024، التي قدمها له نائب الرئيس جودت يلماز بعد حضوره إحدى محاضراته.

كان الحضور الكبير للمحاضرات لافتًا للانتباه. على سبيل المثال، امتلأت قاعة محاضرات إسام قبل ساعات من بدء المحاضرة، واضطر العديد من الأشخاص للوقوف ولم يتمكن آخرون من الدخول. حتى إن رئيس المعهد الدكتور محمد غورمز أعرب عن دهشته من هذا الاهتمام الكبير، وقال إنه لو كان يتوقع هذا الحضور الكثيف، لكان قد حجز قاعة أكبر.

في محاضرة جامعة غازي، كان في الحضور وزراء سابقون وحاليون، ونواب، وشخصيات بارزة من عالم السياسة، والبيروقراطية، والأكاديميا. ولم تستوعب القاعة أيضًا جميع الحاضرين، وذلك رغم أن معهد الفكر الإسلامي ترجم نصوص المحاضرات إلى التركية ونشرها بتنسيق يمكن للمهتمين قراءته، كما تم بث المحاضرات مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن هذا كله لم يمنع الناس من الرغبة في رؤية المفكر الإسلامي والاستماع إليه مباشرة.

طه عبد الرحمن هو شخصية فريدة نشأت في البيئة الفكرية الغنية للمغرب، حيث قدم مساهمات جادة في الفكر الإسلامي المعاصر. وفي المغرب، هناك أسماء أخرى تحظى بقراءة واسعة في تركيا، مثل محمد عابد الجابري، الذي تُرجمت جميع أعماله إلى التركية منذ فترة طويلة، وعبدالله العروي الذي نشر كتابه “التاريخية والتقليد: أزمة المثقف العربي” في أوائل التسعينيات، وهو يعكس فرادة وعمق البيئة الفكرية المغربية.

وهناك أيضًا، أحمد الريسوني، الذي تولى لفترة قصيرة رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو أحد الأسماء البارزة في الفقه والفكر الإسلامي في المغرب.

هذا الاهتمام الاستثنائي الذي حظي به طه عبد الرحمن في تركيا يجب أن يُقرأ بعناية. ويمكن القول إنه يعكس تقديرَ الأتراك للمفكرين وإعطاءَهم قدرهم المستحق. ولكن بالطبع، لا يمكن اختزال هذا الاهتمام في سبب واحد، فهناك أبعاد متعددة.

وللأسف، في أجزاء أخرى من العالم الإسلامي، يتم حبس علماء إسلاميين بارزين بدلًا من تقديرهم. ومنهم على سبيل المثال السيد راشد الغنوشي، الذي جاوز الثمانين من العمر أيضًا، وقدم تطبيقًا عمليًا لكل ما ناقشه طه عبد الرحمن فلسفيًا، وها هو الآن يقبع في سجنه بتونس. هؤلاء وغيرهم يُفترض أن يكونوا مُكرمين في بلدانهم، لكنهم إما في السجن أو المنفى أو أنهم مُهمشون.

الترحيب الذي حظي به طه عبد الرحمن في تركيا يحمل رسائل جدية يجب أن تصل إلى العالم الإسلامي بأسره. العلماء هم ورثة الأنبياء، ومكانهم يجب أن يكون في مجالس العلم أو الجامعات أو المنابر، وليس في السجون.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version