في الساعات الباكرة من صباح يوم 29 أبريل/نيسان الفائت، أرسلت رئيسة جامعة كولومبيا السابقة، نعمت شفيق، رسالة بريدية لطلبة الجامعة. جاءت الرسالة طويلة نسبيا، لكنها حملت في طياتها طلبين واضحين: فض الاعتصام الذي كان قائما حينها في ساحة الجامعة، والثاني أن استمرار أي طالب داخل مقر الاعتصام حتى الساعة الثانية ظهرا بتوقيت نيويورك في ذلك اليوم، سيعني مواجهته لعقوبات تصل حد الإيقاف عن الدراسة.
جاء الموعد النهائي للفض. أما ما تغيّر حينها فهو الوقت فقط، بينما بقيت الخِيَم منصوبة في أماكنها. نعم، كانت الأجواء متوترة، والترقب يحوم في أفق الجامعة -التي تستطيع أن تشتمّ داخلها رائحة الثروة والعراقة- لما سيأتي.
ظلَّ الاعتصام قائما، وبقي من كانوا فيه بداخله، ترافقهم طائرة كواد كابتر من الأعلى تابعة لشرطة نيويورك، وتحفّهم عدسات الصحفيين التي تُناظرهم على الضفة الأخرى من الحاجز الزراعي الذي يفصل مكان الاعتصام عن أرض الجامعة.
ما كان لافتًا وقتها أن حلول الساعة الثانية ظهرا، صاحبه انطلاق مظاهرة هي الكبرى داخل أروقة الجامعة. ألف طالب تقريبا يحومون حول أبنية الجامعة، ويهتفون لفلسطين، ويهتفون ضد جامعتهم، وضد رئيستها التي ترفض الاستجابة لمطالب الطلبة، التي يرونها عادلة.
كان المشهد لافتا لسببين، الأول هو عدد المتظاهرين في ظل إقفال شرطة نيويورك لأبواب الجامعة سوى للطلبة وموظفي الجامعة، ما يعني أن كل من تظاهر في تلك الأثناء كان طالبا، أو عضوا تدريسيا أو موظفا داخل إحدى جامعات النخبة الأميركية.
أما السبب الثاني، وهو أحد أكثر المشاهد جدّة في هذه الحرب وتداعياتها، فهو كمّ الأميركيين ذوي الشعر الأشقر، والأصول الآسيوية، وأصحاب البشرة السمراء، ومن مختلف الفئات الذين باتوا يرون في إسرائيل دولة احتلال، بل وبات كثير منهم يرون في المقاومة الفلسطينية حقا مشروعا، وينظرون لرموز المقاومة الفلسطينية بوصفهم رمزا للنضال والتحرر مما يسمونه بالإمبريالية الأميركية، كما باتت الرواية الإسرائيلية أمرًا غير مسلَّم به في الفضاء العام، بل ومنتقَدًا بحدّة، رغم انحياز غالبية وسائل الإعلام التقليدية لإسرائيل.
تبدأ ملامح ذلك التغير بالسطوع سريعا حينما تتداعى إلى مسامعك هتافات “انتفاضة انتفاضة”، “من البحر إلى النهر فلسطين ستكون حرة”، “لا نريد صهيونيين هنا”، وغيرها من الهتافات التي جعلت من تلك المصطلحات جزءا من المُعجم اليومي المستخدم للمتظاهرين، والتي تردد صداها في مختلف الولايات، وانتشرت إلى ربوع أوروبا وسائر بلاد العالم.
لم تكن تلك التظاهرة تصعيد الطلبة الأوحد ذلك اليوم، إذ رافقه تصعيد آخر من الطلبة في المساء، حينما اقتحم مجموعة من الطلبة والأساتذة مبنى هاميلتون، وأسموه “مبنى هند” في إحياء لذكرى الطفلة الشهيدة، هند رجب ذات الأعوام الستة والتي قتلتها قوات الاحتلال الإسرائيلي وهي محاصرة في إحدى السيارات. وهو المبنى نفسه الذي اقتحمه المحتجون في ستينيات القرن الفائت احتجاجا على الحرب الأميركية على فيتنام.
تلا ذلك، في اليوم التالي فض شرطة نيويورك للاعتصام بالقوة، واعتقال جميع من كانوا معتصمين داخل مبنى هند. تفاصيل كثيرة جرَت ذلك اليوم، وليس المقام مقام ذكرها، لكن هذه المناوشات والاعتصامات والتظاهرات، كانت تشير إلى عامل أساسي ناظم: التنظيم، والخبرة التي يمتلكها هؤلاء الطلاب.
الثمرة التي بدأت تنضج
دون شك، لفتت المظاهرات والاعتصامات في أميركا أنظار العالم، وتلفت اهتمام وتخوّفات كثير من ساستها الداعمين لإسرائيل على الدوام. ففي قلب الدولة الأكثر دعما لإسرائيل، تشتعل جامعات نخبها بمظاهرات واعتصامات من مختلف الإثنيات والأعراق والأديان ويتسع نطاقها خارج الولايات المتحدة.
هذا الزخم، طرح مجموعة من ردود الفعل التي تتراوح ما بين الاعتقاد بأن أميركا بدأت بالتغيّر، وأن الطوفان قد تجاوزت آثاره الضفة الأخرى من الأطلسيّ، وما بين التساؤلات التي يطرحها المتابعون عن تأخر اندلاع هذه التظاهرات وخفوت صداها وأثرها بمجرد انتهاء الفصل الدراسي.
أما المناوئون لحراك الطلبة، فهجماتهم أكثر من أن تُعد، وقد أعددنا في الجزيرة نت تقريرا مفصلا عن استهداف اللوبي الإسرائيلي في أميركا للمدير التنفيذي لمنظمة “مسلمون أميركيون من أجل فلسطين” الدكتور أسامة أبو ارشيد. إذ تنبه اللوبي الإسرائيلي لدور المنظمات الداعمة للحق الفلسطيني في زيادة الوعي بحقيقة القضية الفلسطينية بعيدا عن التضليل الإعلامي وتأثير المال السياسي.
كما تكفي الإشارة هنا لطلب عضوين جمهوريين في الكونغرس من وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بالكشف عن ما أسموه بالأنشطة المشبوهة للمنظمات التي تقف وراء تنظيم المظاهرات المؤيدة لفلسطين في الجامعات الأميركية.
هي 20 منظمة تقريبا أرفقها عضوا الكونغرس للمطالبة بكشف “أنشطتها المشبوهة”. بعضها يدار فلسطينيا، وبعضها يهودي، وبعضها الآخر يشترك في إدارته عرب ومسلمون. ما يجدر ذكره هنا، أن هذه المنظمات ليست حديثة عهد، بل لها خبرة سنوات في تحشيد التظاهرات والعمل المنظّم لأجل فلسطين.
هذا الاتهام يشير لأمرين -عدا محاولة كسب هذين العضوين لنقاط سياسية سهلة يمكن استثمارها أمام قاعدتهما الانتخابية-، محاولة ربط تلك المنظمات بجهات خارجية “مشبوهة”، والثاني الحديث عن دور تلك المنظمات في التنظيم والتحشيد.
وبعيدا عن أجندة التشويه المعلّبة، فما لا يُحكى عنه كثيرًا، وما تستطيع أن تراه مباشرة بحضورك للتظاهرات في أميركا، هو الدور الفاعل لكثير من العرب والمسلمين والفلسطينيين، والجهد المتراكم منذ سنوات طويلة في العمل العام، عبر توعية الأفراد، وإقامة الأنشطة التي تخص القضية الفلسطينية وسط بيئة يرونها معادية، وتشكل لهم كثيرا من التحديات.
وإذا استعرنا من الفيزياء تشبيهًا، فالحال يُناظر الجزء المركزيّ في الذرَّة، الذي تتكثّف في كتلة الذرة، وهو ما نعرفه بالنواة التي تنظم وتتحكم بالتفاعلات الأساسية في بقية الأجزاء. هذه النواة الفاعلة التي كانت تقود المظاهرات، بدأت بعد أسبوع مما جرى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، في ولايات عدة. وحضر صوتها في الحروب السابقة التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة. أما ما تغير، فهو حجم المشاركين، واستمراريته.
أما المشهد الجليّ الذي لن تخطئه عين الرائي، فهو تنوع الفاعلين العاملين لفلسطين، إذ كان قياديو العمل الطلابي في جامعة كولومبيا جسدا تختلف أصولهم، وتتحد قضيتهم. أصول مصرية، يمنية، كردية، سورية، عراقية، لبنانية، أردنية، وفلسطينية بالتأكيد، إضافة لغيرهم من العرب وغير العرب، ممن اجتمعوا سوية وما زالوا، يفكرون في الخطوة القادمة، خاصة مع بداية الفصل الدراسي الحالي، حيث بدأت ترشَح الكثير من المقالات والتقارير من الصحف الأميركية التي تشير إلى عودة الطلبة مرة أخرى إلى الزخم الاحتجاجي داخل أروقة الجامعة.
لأن الجامعة ليست مكانا للتعليم فقط!
للجامعات تاريخ سياسي واجتماعي ضارب في تفاعله وتأثيره على مجريات ما يدور خارج أسوار الجامعة في الولايات المتحدة الأميركية. فمن الحراك المناوئ لحرب فيتنام، وحراك الحقوق المدنية، وغيره من الحراكات، كانت الجامعة محرّكا وانعكاسا في الآن ذاته لما يدور في المجتمع.
يحضر ذلك في ذهن الطلبة، كما تحضر أنسابهم، وأصولهم لتشكل شخصياتهم الفردية وما يميز ذاتهم الفردية عن غيرها. في جامعة كولومبيا، وقبل السيطرة على مبنى هاميلتون، كان عدد من الطلبة يقرؤون كتابا يستعرض تجربة الحراك الطلابي في ستينيات القرن الفائت احتجاجا على حرب فيتنام.
أثَرُ ذلك كان السيطرة على ذات المبنى (مبنى هند) الذي تمت السيطرة عليه أثناء تصاعد الحراك الاحتجاجي المناهض لحرب فيتنام، وتسميته بـ”مبنى هند”. يدرك قادة الحراك من الطلبة أنهم يصنعون تاريخا، وأن صناعة التاريخ تلك تتطلب حركة مستمرة، ووعيا بما سبق، ووعيا بتحديات المرحلة الحالية وتحدياتها.
تحدثنا في الجزيرة نت مع نردين كسواني، وهي أميركية من أصول فلسطينية، وقد قامت هي، وزميلتها الأميركية من أصول يمنية فاطمة محمد، بتأسيس منظمة “في حياتنا” (Within Our Life Time) نهاية عام 2014 حينما كانتا طالبتين في نظام كوني (CUNY) التعليمي في مدينة نيويورك.
تقول نردين للجزيرة نت، القصة بدأت حينما كنت طالبة، وما زلنا حتى الآن نعمل مع الطلبة، وهم من يُشكّلون العصب الرئيسي لمنظمتنا ومنظمات أخرى كثيرة. أما هدف هذه المنظمة، كما تقول نردين، فينبثق من اسمها: نحن نريد تحرير فلسطين في حياتنا.
وكما أن المنظمة تستهدف نشر الوعي حول القضية الفلسطينية لدى الأميركيين، فإن أحد أهدافها الرئيسية أيضًا هو إحياء الوعي لدى الفلسطينيين خصوصا والعرب عموما. سابقا، كان الكثيرون يخافون من الإشارة لأصولهم. وتوصيات الأهالي كانت تحثهم على النأي بأنفسهم عن السياسة والاهتمام بذواتهم ومستقبلهم.
اليوم الحال تغير كما تقول، فنحن نشهد تزايدا في الأعداد من مختلف الأعراق والإثنيات. ورغم أن البدايات كانت شاقة، فدراستها للقانون ساعدتها كثيرا في فهم قوانين البلاد، وكيفية توظيف هذا الفهم للدفاع عن القضية الفلسطينية. وبسبب أنها كبرت هنا، وتفهم ثقافة البلاد، فهي تتحرك وفق هذا المنطلق. وتقول، نعم هناك دفع مضاد، وهناك مضايقات وتشويه، لكننا نعلم أن التاريخ سيكون في صفنا، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية والحقوقية والأخلاقية.
تضيف نردين، اليوم لدينا أعضاء يشاركون ويساعدون في بقية التظاهرات، سواء من حيث الخبرات التنظيمية، أو المساعدة في الهتافات، أو كتابة اللوحات الاحتجاجية، بالإضافة لبقية الاحتياجات اللوجستية. وتقول إن الطلبة سيكونون نواة حقيقية للتغيّر الاجتماعي.
أما شريف محمد، الأميركي ذو الأصول المصرية، وهو أحد قياديي الحراك الطلابي في جامعة كولومبيا، فيقول للجزيرة نت إن هذه القضية توحد الطلبة بمختلف أصولهم ومشاربهم، ويعتبرونها قضية ستحررهم جميعا من عنصرية النظام ومن الظلم الذي تمارسه أميركا خارج حدودها.
ويضيف، لدينا في فريق المفاوضات لجامعة كولومبيا زميل من أصول سورية، وزميلة من أصول كردية، وزميل آخر أميركي أبيض.
ورغم هذه الفاعلية لكثير من العرب والفلسطينيين في قيادة المظاهرات المناصرة لفلسطين، فإنهم يتفقون على أن حضور هذه الفئات تحديدا للتظاهرات ما زال ضعيفا إذا ما قورن بحجم الجالية، وحجم الحرب الاستئصالية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة.
أكثر من مجرد مظاهرة
وبالنسبة لفاطمة محمدي، وهي أميركية مسلمة من أصول إيرانية، وإحدى المؤسسين لمنظمة الهدف في ولاية كانساس الأميركية، تقول إن أحد أهداف المنظمة الرئيسية التي تأسست عام 2019 يتمثل في توعية غير العرب والمسلمين بالقضية الفلسطينية، وأن نزود السائلين بمجموعة من المصادر التي تعينهم على التثقف الذاتي.
وتضيف للجزيرة نت أن المنظمة تنشط منذ سنوات في تنظيم الفعاليات والأنشطة الخاصة بالقضية الفلسطينية، لكن بعد الحرب الأخيرة على غزة، بدأت في تكثيف أنشطتها وقد لاحظنا إقبالا وتضامنا واسعا من شرائح مختلفة، لم نر له مثيلا فيما سبق.
على سبيل المثال، كان لتنظيم منظمة الهدف مظاهراتِ مناصرة لفلسطين، أثرٌ في إسلام عدد من المتظاهرين، منهم داني، الرجل الأبيض، بكل ما تحمله كلمة الرجل الأبيض من حمولات ثقافية واجتماعية داخل أميركا، وكان يتبع البروتستانتية الإيفانجليكية، وهي الطائفة المسيحية الأكثر دعما وتمويلا وتأييدا لإقامة دولة إسرائيل.
يضيف داني للجزيرة نت، كانت نيتي أن أتضامن مع قضية فلسطين، وبدأت بسؤال إحدى المنظِّمات، -يقصد فاطمة محمدي- عن بعض الكتب حول القضية الفلسطينية، وقد كنت قد بدأت بالفعل بقراءة بعض الكتب بعدما شاهدت التزييف الذي تقوم به إسرائيل تجاه الوقائع التي نراها على الهواء مباشرة.
ومع نهاية العام يقول داني: قرأتُ 60 كتابا، وكرست نفسي للتعلم، كي أصل للحقيقة. وينهي داني حواره مع الجزيرة نت بالقول: تطورت الأمور حتى أعلنت إسلامي في الأول من رمضان الفائت. وقد كتبنا تقريرا مفصلا عن قصة إسلامه.
في الختام يكاد يتفق غالبية من قابلناهم أن الطريق ما زال طويلا أمام العمل الفلسطيني في الولايات المتحدة، فأمام مواجهة حملات التشويه الشرسة، وتواطؤ العديد من المؤسسات والشركات الكبيرة مع الجهات الداعمة والمؤيدة لإسرائيل بالتزامن مع التواطؤ الأميركي مع إسرائيل سياسيا وأمنيا وعسكريا وإعلاميا، أمام كل ذلك تبرز الكثير من المخاطر والتحديات، لكنها تحديات يرونها ثمنا لازما لإيقاف، أو على الأقل الحد من هذا التحالف الأميركي الإسرائيلي كما يصفون، والذي كان سببا مباشرا في استمرار الحرب على غزة لعام كامل، حتى يومنا هذا.