ترتبط شبه الجزيرة الكورية مع اليابان بروابط ثقافية ومعرفية، باعتبارها الجسر الواصل بين الصين واليابان. وبدأت هذه العلاقة في وقت مبكر جدا من التاريخ، وبالتحديد الفترة بين 600 – 800 قبل الميلاد، وتجلت آثاره في أساليب الزراعة والعمارة وأدوات الصيد والحرب أيضا، ومن ثم انتقل ذلك الأثر إلى السينما.

ولعل إعادة تقديم فيلم المخرج سيونغ هون كيم “يوم صعب” (A Hard Day) الذي عُرض عام 2014 وكان بمثابة طفرة حقيقية للسينما الكورية الجنوبية، بنسخة يابانية هي “أيام صعبة” (Hard Days) للمخرج ميتشيتو فوجي، هي التجلي الأحدث لهذا الارتباط الثقافي بين البلدين.

ورغم تطابق القصة والأحداث وتتابع المشاهد بين الفيلمين، وما بقي من عناصر مثل الإضاءة والصوت والأداء المختلف لكلا البطلين، فقد صنعت الأجواء المحيطة بالأحداث فارقا حقيقيا على المستوى البصري، وعلى مستوى التعاطف مع أبطال العمل أيضاً.

وتدور أحداث “الفيلمين” الأيام الأخيرة من العام، حول محقق شرطة نفد رصيده من الحظ والستر معا، فهو يواجه الأحداث التالية في أقل من 24 ساعة: يتلقى إشعارًا بالطلاق من زوجته، تموت والدته، يحقق مفتشو الشرطة معه وزملائه في العمل بتهمة تلقي الرشوة.

ويقود البطل سيارته إلى المستشفى الذي ترقد فيه والدته بتهور، فيصدم شخصا، ويحاول التستر على الحادث بإخفاء جثة الرجل في نعش والدته المتوفاة، ليفاجأ أن شخصًا ما كان يراقب طوال الوقت، ويتلقى مكالمة غامضة ويبدأ الآن في تهديده.

شبكة فساد

تنتمي قصة “أيام صعبة” إلى تلك الحكايات التي يمكنها أن تصنع بأي لغة وفي أي مكان بالعالم، وبالتالي فإن انتقاله من كوريا إلى اليابان في نسخة أخرى يشير إلى قصة عالمية وشخصيات يمكنها أن تصبح طبيعية داخل أي سياق ثقافي.

وفي العملين، يبدأ السرد من منتصف القصة، للتركيز على الحدث الرئيسي وهو حادث السيارة الذي ارتكبه المحقق المرتشي المخمور، والذي ماتت والدته للتو، ومن ثم تكشف الأحداث عن شبكة واسعة من الفساد بقسم الشرطة الذي يعمل فيه، فجميعهم متورطون في الرشوة والتعاون مع العصابات. أما الفاجعة الكبرى، فتظهر في الثلث الأخير من العمل حين يكتشف المشاهد أن مفتش الشرطة الذي استدعاه للتحقيق فاسد أيضا.

وليس من الصعب المقارنة بين أداء بطلي الفيلمين؛ فالكوري الجنوبي لي هاي جون -الذي جسد دور بطل العمل المحقق الفاسد كو جون سو- قدم أداء متنوعا، واستطاع أن يصور بملامحه انفعالات مختلفة الدرجات، من الدهشة إلى الخوف، والحزن والتعاطف. لكن كل هذه الانفعالات تنبع من شخص لم يستغرق فيها، ولم يكن صادقا فيها بشكل كبير، فقد أثبت من المشهد الأول أنه شخص شرير بإخفاء الجثة وإهمال العائلة والقيادة تحت تأثير الخمر، فضلا عن تلقي الرشوة.

وقد أحكم لي هان جون السيطرة على انفعالاته باعتبارها أقل صدقا مما يمكن قبوله، فهو يراهن في خوفه على كونه رجل شرطة، وفي حزنه على والدته وبره بها على استغلال التابوت الذي وضعت فيها تمهيدا لحرق جثتها، على أن يضع جثة ضحيته معها، ليحرقا معا.

ولم يسيطر الياباني نابي ناكانيشي بطل “أيام صعبة” على انفعالاته بقدر نظيره الكوري، فجاء أداؤه بنفس المستوى من الانفعال والتعبير طوال الفيلم، رغم أن ملامحه أقرب لصفات الشخصية.

وظهر واضحا دور المخرج سيونغ هون كيم في محاولة التقليل من أثر الميلودراما العنيفة في العمل وأجواء الموت والعنف والفساد، فأضفى طابعا كوميديا على بعض المشاهد، وكان أكثر ميلا لزيادة الإضاءة في المشهد، كما استخدم الكاميرا على ارتفاع معقول من مستوى الأرض، وهو ما جعله ينطلق إلى المشهد من خلال وجه الشخصية.

وعلى العكس من ذلك، كان الياباني ميتشيتو فوجي أكثر ميلا للأجواء الكئيبة، وتعامل مع الإضاءة باعتبارها عنصرا داعما للحالة داخل المشهد، فجاءت أغلب المشاهد المفصلية ليلية، بإضاءة محدودة جدا، مع استخدام مستوى الأرض للكاميرا، لفتح المشهد، لذلك كان حذاؤه أول ما يظهر من أي شخصية داخل العمل، ومن ثم تتحرك الكاميرا، ليتعرف المشاهد على وجه الشخص، بعد أن عرف حذاءه.

وجاء “يوم صعب” أنيقا رغم بؤس الموضوع وتعاسة القصة، مما ينم عن وعي مخرجه أن الفيلم للترفيه وليس قصة حقيقية ينبغي الانفعال بها للنهاية، بينما أغرق الفيلم الياباني في بؤس الحالة بكامل عناصره، ولم يستثن العمل سوى مشاهد زعيم عصابة الياكوزا الذي بدا حكيما وخيرا بالمقارنة بالأشرار الذين هم كل ممثلي القانون في العمل.

ولم يكتف المخرج بكل العناصر المحزنة في العمل الياباني، وإنما أضاف على مستوى الصوت مقاطع موسيقية وصوتية من أوبرا “كارمينا بورانا” للموسيقار الألماني كارل أوروف، والتي تمزج بدورها بين الفساد والمتعة، ومواجهة لحظة الحساب.

ولم يصدق صناع النسخة اليابانية أنفسهم، فقدموا العمل لتقليد سابقه دون محاولة للتطوير أو التحسين، ولكن الأسوأ هو اختيار فيلم حقق نجاحات كبرى.

الشر المطلق

باستثناء زوجة البطل وابنته الطفلة، لا يوجد أبرياء في العملين، لكن الحقائق التي تتكشف عبر التطور الدرامي للعمل تبدأ في تبرير سلوك محقق الشرطة ومن ثم تبرئته، حيث يكشف الجانب الآخر من العمل عن موت الشخص الذي صم صدمه بالسيارة قبل الحادث، ويكشف أنه -أي الميت- عضو في عصابة.

ويستكمل العمل دائرة الفساد بوجود معبد ديني يرتكب جريمة غسل الأموال لصالح كبار الضباط في الدولة بشكل منتظم، ويأتي التحول المنتظر بعد كشف تلك الطبقات من الفساد الديني والقانوني والاجتماعي، ولكنه يحدث للمشاهد، تماما، كما يحدث للبطل، إذ يبدو البطل في العملين مبررا تماما أو على الأقل يكون معذورا إذا طالته عدوى الفساد بين شبكة كاملة منه، تمتد من أعلى قيادة شرطية ودينية في المجتمع إلى رجال الشرطة العاديين.

ويعيد العمل اكتشاف القصة من جديد بالجزء الأخير، لنجدها كالتالي: يرزح المحقق الفاسد تحت سيطرة رؤسائه الفاسدين، والذين يجبرونه على تمثيلهم في التعامل مع عصابة الياكوزا بالنسخة اليابانية، وعصابات متنوعة في النسخة الكورية، ويعاني المحقق من عدم قدرته على الوفاء بمتطلبات زوجته وابنته، ويصادفه سوء الحظ، حين يتلقى خبر وفاة والدته أثناء قيادته لسيارته، بينما تطارد عصابة أحد أفرادها بعد خيانته لها، وتقتله، فيسقط أسفل عجلات سيارة المحقق.

وقد نجح الفيلم الكوري في تجاوز حدود مجتمعه إلى اليابان لتصنع نسخة منه، لكنه نجح أيضا في الحصول على العديد من الجوائز والقفز بالسينما الكورية -ضمن مجموعة كبيرة من الأفلام- إلى مقدمة المشهد السينمائي في العالم.

وفي المقابل، قدم اليابانيون نسخة أقل جودة لصالح شبكة “نتفليكس” أكدت على تميز الفيلم الكوري الجنوبي بكل عناصره.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version