حظيت الصحفية المخضرمة الراحلة شيرين أبو عاقلة بمكانة وتقدير لدى كل العائلات الفلسطينية، لكنها تركت أثرا استثنائيا في حياة الشاب الفلسطيني فايز الكواملة.
فعندما قررت الصحفية -التي قتلت برصاص القوات الإسرائيلية فيما كانت تغطي الأحداث في جنين قبل 6 أشهر- العودة لمقاعد الدراسة الجامعية في العام 2020، وأثناء مشروعها للحصول على دبلوم الإعلام الرقمي من جامعة بيرزيت ركزت على قصة الشاب الكواملة وتجربته.
كواملة عاش حياة لا تعرف الاستقرار طوال ما يقارب 22 عاما، فقد حرمته السلطات الإسرائيلية من بطاقة الهوية، ولم يتمكن من الحصول على وظيفة أو السفر حتى بين مدن مختلفة في الضفة الغربية، ولا التفكير في الزواج، باختصار كانت حياته أمام طريق مسدود.
ومن أجل إتمام مشروعها الدراسي خرجت الصحفية الراحلة عن مهام عملها المعتادة، وتعلمت تصوير وتحرير لقطاتها الخاصة التي التقطتها لعائلة كواملة بنفسها، وقامت بتركيب الموسيقى المناسبة لقصتها، وقامت بعمل رسوماتها وتصاميمها الخاصة.
قالت ابنة أختها لينا أبو عاقلة للنسخة الإنجليزية من موقع الجزيرة نت إنها “أرادت دائما تطوير نفسها”، مضيفة “أرادت تعلم مهارات وأدوات جديدة مع تقدم تكنولوجيا الوسائط”.
لكن حتى مع تقدم التكنولوجيا ركزت قصص شيرين دائما على الفلسطينيين، حياتهم ومآسيهم وسعادتهم وحزنهم، لهذا اختارت التركيز على قصة كواملة.
كانت قصته تشبه قصص العديد من الفلسطينيين الذين رفضت السلطات الإسرائيلية إصدار بطاقات الهوية لهم لأسباب غير محددة.
وتسيطر إسرائيل على سجل السكان الفلسطينيين منذ عام 1967، وتملك دولة الاحتلال سلطة واسعة على إصدار بطاقات الهوية الفلسطينية وجوازات السفر، وتحديد من يدخل إلى البلاد ويخرج منها.
كواملة قال لشيرين في العام 2020 “منذ 21 عاما كنت بدون بطاقة هوية، تلقي الحياة بالفرص على عتبة دارك، لكن لا يمكنك استغلالها، أبسط الحقوق هو أن أتمكن من الحصول على رخصة قيادة، ولا يمكنني حتى الحصول عليها، تخيلوا لو قررت الزواج”.
تمكن اثنان من أشقاء كواملة من الحصول على بطاقتي هوية، فيما حُرمت أخته الكبرى ووالدته من الحصول على بطاقة هوية مثله تماما، توفي اثنان من أعمامه في الخارج ولم تتمكن والدته من المشاركة في جنازتيهما.
وتصدر إسرائيل بطاقات هوية للفلسطينيين في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية وقطاع غزة، لكنها أوقفت عمليا معالجة طلبات التسجيل وتغيير وضع الإقامة منذ عام 2000، وقد أضر ذلك بحق الفلسطينيين في لم شمل الأسرة وكذلك قدرتهم على السفر والتنقل.
وقال كواملة “نحن 6 أفراد في العائلة، نعيش جميعا في نفس المنزل وفي نفس الظروف، أعطوا نصف البطاقات العائلية وحرموا الباقي، الشيء الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه هو أنهم يحاولون دفعنا للرحيل”.
ودفعت تلك الظروف الأسرة للعيش في كفر عقب، وهو حي يقع داخل حدود بلدية القدس ولكن على “جانب الضفة الغربية” من الجدار العازل الإسرائيلي، وتفتقر المنطقة إلى الخدمات البلدية والمدنية.
كان الشاب الفلسطيني يعرف أن أي جندي إسرائيلي يستطيع أن يعتقله ليتم تحويله إلى المحاكم الإسرائيلية التي تنتظر أي فرصة لترحيله بسبب عدم حيازته الأوراق الثبوتية اللازمة، وقال لتقرير سابق للجزيرة نت “هناك الكثيرون مثلي، فأنا لست الوحيد في فلسطين الذي أعاني من هذه المشكلة، نحن محرومون من حرية التنقل بشكل كامل”.
وعمل فايز مدربا للدبكة (رقص شعبي فلسطيني) للأطفال ممن أعمارهم بين 6 و16 عاما في أنحاء الضفة الغربية، خاصة في المناطق المهمشة، لكن صعوبة اجتياز الحواجز العسكرية التي تقطع أوصال الضفة الغربية أجبرته على تدريب الدبكة في رام الله فقط.
22 عاما من الانتظار
والآن، بعد أكثر من 6 أشهر من مقتل شيرين برصاص القوات الإسرائيلية تحدث كواملة البالغ من العمر 34 عاما عن وضعه مجددا.
يقول الشاب الفلسطيني “قضيت أنا وأمي وأختي الكبرى حوالي 22 عاما بدون أي بطاقة هوية، لذلك كنا عمليا محصورين في منطقة رام الله، أخيرا حصلنا على إذن للحصول على بطاقة هوية، لكنها لم تكن بطاقة هوية القدس، وإنما هوية الضفة الغربية”.
كواملة المولود في الإمارات كان يبلغ من العمر 13 عاما عندما جاء إلى فلسطين، ويحمل والده بطاقة هوية مقدسية، وعندما تقدم بطلب لم شمل الأسرة عند عودته عام 1999 من الإمارات -حيث عمل لأكثر من 10 سنوات- كان يحق له نظريا أن يمنح عائلته إقامته المقدسية الموجودة مسبقا.
لكن السلطات الإسرائيلية رفضت بطاقات هوية 3 أفراد من عائلاتهم حتى قرابة عام عندما تم تسليم عشرات من بطاقات هوية الضفة الغربية لمن يعيشون دون وثائق، وذلك خلال صفقة مع السلطة الفلسطينية.
فقط بعد حصوله على بطاقة هوية تمكن من السفر والحصول على رخصة القيادة والتنقل، وقال كواملة “لقد أمضيت العام خارج فلسطين وسافرت كثيرا، أتطلع إلى مستقبلي، أبحث عن عمل في الخارج، كل شيء تغير، لقد توسع عالمي بشكل كبير، إنه شعور لا يوصف، في المرة الأولى التي سافرت فيها إلى الخارج لم أصدق ذلك”.
وعرفت شيرين كواملة عبر صديق مشترك، وأمضت حوالي عامين تتحدث معه ومع أسرته، لتسليط الضوء على محنة آلاف الفلسطينيين الذين عاشوا أيضا في خوف من القبض عليهم من قبل السلطات الإسرائيلية، إذ إنهم لا يحملون بطاقات هوية، وربما تعرضوا لخطر ترحيلهم.
قال كواملة “لم تكن شيرين تتواصل معنا كمصادر قضية تعمل عليها، بل اهتمت بشكل حقيقي بحياتنا ووضعنا، لقد تحدثت إلي وإلى إخوتي وأمي وأبي”.
وأضاف أنه بمرور الوقت أصبحت شيرين قريبة جدا من عائلته، وتحدثت معه في عدة مناسبات وتابعت تطورات موضوع بطاقة الهوية الخاصة به حتى بعد انتهاء المشروع وحصولها على الدبلوم من جامعة بيرزيت.
وتابع كواملة “لا أعتبر شيرين مجرد صحفية تكتب قصة عني، ولكن أيضا شخص كان مهتما حقا بأمور عائلتي، أصبحت قريبة من عائلتنا، كانت تأتي إلى منزلنا، لقد كان مقتل شيرين صدمة لنا جميعا وخسارة لنا جميعا، لشعبنا وبلدنا كله”.
وختم “أصبحت صداقتنا أقوى بسبب عملها، أشعر أنني أعرف عائلتها، وعائلتها يعرفون عائلتي، وهذا يظهر أنها كانت إنسانة حقا وقبل كل شيء، وليست مجرد موظفة مهنية تقوم بعملها فحسب”.