بعد أكثر من 35 سنة من تأسيس علم الاستغراب، و3 أعوام على رحيل الدكتور حسن حنفي (1935-2021)، لم نر أي تأثير أو تطور لهذا العلم في مجتمعاتنا.

حسن حنفي الذي قضى حياته شغوفا بفكرة أن يجعل من الفلسفة طريقة حياة، وأن يجعل من الإسلام منهجا للإصلاح، وحين سأله أستاذه الدكتور يوسف مراد عن الموضوع الذي سيتخصص فيه، أجاب أنه يريد أن يحول “الإسلام إلى منهج عام للفرد والجماعة”، ورغم كل التقلبات التي مر بها والتناقضات التي استصحبها، بداية من تأثره في شبابه بالفكرة الإخوانية ثم ضم إليها لاحقا الفكرة الماركسية فأثمرت “اليسار الإسلامي”، وحاول عبثا أن يوفق بينهما، حيث تزاوج الأيديولوجي والمعرفي، ومن مجموعهما نتج مشروعان مهمان في تاريخ الفلسفة العربية “التراث والتجديد” و”الاستغراب”.

وبعد ربع قرن من تأسيسه لمشروع “التراث والتجديد” خصص حسن حنفي الفصل الأخير من كتابه “مقدمة في علم الاستغراب” لإبراز المعالم التي تدفعه إلى التفاؤل في انتشار هذا العلم، وفي الوقت نفسه، يتأسف حسن حنفي على أنه أعطى وقتا كبيرا من حياته لمواجهة التراث، ولم يبدأ في مواجهة التراث الأوروبي إلا في آواخر عمره، مما أدى به إلى التسرع في وضع “علم الاستغراب”، وكله أمل في مجيء جيل أو أجيال لمواصلة مشروعه وبناء هذا العلم الجديد الذي أسس له في كتابه “مقدمة في علم الاستغراب”.

ورغم التجاهل الذي جوبه به علم الاستغراب، في مواجهة علم الاستشراق الذي لا يزال مهيمنا على الساحات الفكرية والثقافية في منطقتنا، فإنه لا يخفى على أحد أن حسن حنفي رحل عن عالمنا وفي قلبه غصة وفي نفسه حسرة على مصير “علم الاستغراب”، الذي يحتاج إلى نقد بناء مثله في ذلك مثل كل هذه المشاريع الفكرية الكبرى.

وهذا التحقيق هو بمثابة محاكمة لمشروع حسن حنفي الفكري، خاصة “التراث والتجديد” و”علم الاستغراب”، والغرابة أن المحاكمة لا تأتي من الشاطئ الآخر المضاد للدكتور حسن حنفي، بل يأتي من البحر نفسه الذي عاش فيه حنفي يصارع الأمواج، ويعلم تلاميذه السباحة ومواجهة الأمواج المتلاطمة والعواصف الكاسحة.

التقينا 3 من أقرب أصدقاء وتلاميذ الدكتور حسن حنفي، وبقدر ما كانت سعادتنا بقوة منطقهم النقدي للمشروع، بقدر ما كان ألمنا من قوة الضربات التي نالت من مشروع نهضوي يواجه المركزية الغربية ويجعلها محلا للدراسة والنقد.

فيلسوف الجيل

  • هل آتت أفكار الدكتور حسن حنفي ثمارها في عقول الشباب العربي، وما الشاهد على ذلك؟

الدكتورة يمنى الخولي أستاذة فلسفة العلوم والرئيسة السابقة لقسم الفلسفة بجامعة القاهرة تجيب بتحفز وتقول: بل أثمرت وأينعت، وحان وقت الحصاد، ويؤسفني أن رحل أستاذي حسن حنفي فيلسوف الجيل قبل أن يشاهد 7 أكتوبر المجيد، ونضال المقاومة العربية الإسلامية في ملحمة غزة العظمى، على مدار عام ولم تنته الحرب، ويصدق كل فجر جديد على فشل الكيان الصهيوني وعجز نزاله العسكري عن تحقيق أي هدف واقتصاره على ارتكاب مسلسل المجازر والجرائم العسكرية والجنايات ضد الإنسانية، وكأنه الثور الذبيح، يهيج بالسكين في رقبته، ليدمر ما حوله ويغرقه بالدماء.. ثم يسقط في النهاية.

وتضيف الخولي لتقول عن أستاذها حسن حنفي إنه يتميز عن كل أساتذة الفلسفة بتحقيقه لعالمية واسعة، وأنها دخلت جامعات في أكثر من 30 دولة، من جامعة كيوتو في أقصى الشرق إلى جامعة هاواي في أقصى الغرب، وصولا إلى جامعات نيجيريا وسواها في قلب أفريقيا، ومرورا بالعديد من الجامعات الأوروبية والعربية، وحيثما تحل وترتحل تجد فلسفة حنفي موضع تدريس وإجراء أبحاث ورسائل جامعية وسيمنارات وندوات، في القارات الخمس التي زارتها، حتى أن جامعة هاواي، وهي من أكثر جامعات الولايات المتحدة اهتماما بالفلسفة الإسلامية القديمة أو الكلاسيكية والمعاصرة، تنظم برنامجا للدراسات العليا يدور حول “التراث والتجديد” ونظائره في الفكر العربي والإسلامي.

مشروع ثلاثي الجبهات

  • وماذا بقي من مشروع حسن حنفي الفكري والفلسفي؟

وتضيف الخولي: مشروع التراث والتجديد لفيلسوف الجيل حسن حنفي مشروع ثلاثي الأضلاع أو الجبهات: الجبهة الأولى هي الموقف من الأنا، والثانية هي الموقف من الآخر، والثالثة هي الموقف من الواقع.

في الجبهة الأولى يعاد بناء تراثنا بهدف تحويل علومه القديمة إلى علوم إنسانية حديثة، على أساس أن الوحي القرآني هو منطق الوجود المميز لواقعنا الثقافي.

ومن ثم، تأتي الجبهة الثالثة حيث يعاد بناء الموقف من الواقع بفعل قوى القرآن الكريم، وذلك من خلال تفسيره موضوعاتيا، أي موضوعا موضوعا، بتتبع الموضوع المعني عبر المصحف بأسره، وليس سورة سورة أو آية آية وفقا لتتابعها على صفحاته بالطريقة الطولية المتبعة في المصنفات التراثية.

هذا التفسير الموضوعاتي يحاول استكشاف معان غير التي أفصح عنها النص القرآني للوهلة الأولى في الماضي البعيد، مستهدفا مثوله ودوره في الواقع الثقافي المعاصر.

الاستغراب أداة التحرر من المركزية الغربية

في هذا نجد علم الاستغراب هو الجبهة الثانية أو الحلقة الوسطى، هو الموقف من الآخر الغربي كما ذكرت. الاستغراب علم يهدف إلى فهم الآخر/ الغرب في إطاره وخطوط تطوره التاريخي، لتغدو الثقافة الغربية موضوع دراسة، وليس نقطة إحالة، ردها إلى حدودها التاريخية والجغرافية، قضاء على الزعم بخرافة الثقافة الكونية، التي جعل الغرب نفسه مركزا لها.

وفى هذا وذاك، الاستعداد لانتقال دورة الحضارة الإنسانية من الغرب إلى الشرق، من عصر الاستعمار والمركزية الغربية، إلى عصر ما بعد الاستعمار والتعددية الثقافية. إنه عصرنا الراهن الذي يشهد نهوض وتعملق لاغربيين، كانوا مستعمرين مستضعفين في الأرض، وأولئك هم الوارثون.

في القلب منهم دائرة إسلامية من 57 دولة هي الدائرة الوسطى، مركزها العروبة وآفاقها الإسلام ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا﴾. علم الاستغراب هو التحرر من إسار المركزية الغربية والأيديولوجيا الاستعمارية، من سيطرة الآخر.

 

  • هل جاء علم الاستغراب ردا على الاستشراق الذي نشأ وتربى في أحضان الاستعمار والهيمنة الغربية؟

تقول الخولي: لا يوضع الاستغراب في مواجهة الاستشراق، بقدر ما يوضع في تآزر مع فلسفة التحرير ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينية حيث أقوى فلسفات ما بعد الاستعمار.

إن حنفي يقابل ويناظر فيلسوف ما بعد الاستعمار الأكبر إنريكو دوسل Enrique Dussel (1934-2023). وهو أستاذ فلسفة أرجنتيني، هاجر من الأرجنتين لاجئا سياسيا عام 1977، واستقر في المكسيك حوالي 50 عاما. ينطلق مثل حنفي على أساس من اليسار الماركسي، متكرسا لتحرير الفلسفة والمعرفة من بقايا الاستعمار والمركزية الغربية.

واصفا خطيئة العقلية الأوروبية، بأنها افتقدت الوعي بخصوصيتها التاريخية، هذا مع امتلاكها جهازا مفاهيميا بالغ التطور والفخامة لمقولات الكونية والتجريد والموضوعية وسواها، فتحققت هيمنة الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى ومركزيتها بفعل المنطق وقوة السلاح.

مشروع لمواجهة الغرب الاستعماري

وتتابع الخولي: “علم الاستغراب في الثقافة العربية الإسلامية من ناحية، وفلسفة التحرير المعرفي في أميركا اللاتينية من الناحية الأخرى هما جناحا جهاد مقدس لاستئصال هذا التزييف الاستعماري وإثبات الذات الحضارية والثقافية والمعرفية لشعوب العالم الثالث.

هكذا نتفهم علم الاستغراب بوصفه مشروع حسن حنفي لمواجهة الغرب الاستعماري الذي لا تتوقف هجماته علينا، وتحرير إنسان الشرق من الانبهار والشعور بالدونية، بما يدفعه إلى الإبداع الخاص والعام.

يضطلع علم الاستغراب ومشروع “التراث والتجديد” بأسره بمسؤوليته في الحفاظ على هوية الأمة وثوابتها والنهوض بها، ثقافيا وحضاريا، حيث يلتقي ويتوحد مع قضايا الأمة العربية والإسلامية، من قمع للحريات الشخصية والعامة، والتبعية السياسية والاقتصادية للاستعمار الجديد أي الإمبريالية، والتهديد الأعظم لثقافتنا وللسلام العالمي أي الصراع مع الصهيونية”.

وتختم يمنى الخولي حديثها بأنها تعتز كثيرا بإنجازها 7 أبحاث مرجعية في فلسفة حسن حنفي، وأن آخر ما صدر لها العام 2024، كتاب “المنهج في مشروع التراث والتجديد”، فضلا عن كتاب منهجيات راهنة نحو المستقبل: لقاءات ومقاربات فلسفية، بمشاركة عادل مصطفى.

الاستشراق مدان

في محاولة للتعرف على مستقبل ومصير مشروع علم الاستغراب للدكتور حسن حنفي، يقول الدكتور أنور مغيث أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب جامعة حلوان، والمدير السابق للمركز القومي للترجمة: “علم الاستغراب إذا اعتبرناه علما، فهو علم حديث، جاء مقابلا لعلم الاستشراق”.

ويكمل مغيث: “علم الاستشراق تعرض لانتقادات شديدة جدا مؤخرا، بعد أن كان علم له مكانته ووضعه الكبير، من ضمن هذه الانتقادات، أنه يحول الشرق إلى جوهر غير تاريخي ثابت له سمات محددة، الشرقيون متعلقون بالنساء، الشرقيون غيورون، الشرقيون متوائمون مع الاستبداد، وهكذا أحكام عامة على الجميع، تعبر عن الجوهر الثابت للإنسان الشرقي، وهذا عيب لأنه يخرج الشرق من التأثيرات التاريخية، وعيب أيضا لأن الاستشراق كما يراه المفكر المصري الراحل الدكتور أنور عبد الملك ربما كان مفيدا في لحظة ما، عندما كان الشرق خاملا، ولكن الآن وقد أصبحت فيه دول وحركات تحرر وثورات ومساندات، لم يعد الاستشراق مناسبا لشعوب الشرق، لأنها أصبحت شعوب متحركة متفاعلة مع واقعها، أيضا لدينا نقد إدوارد سعيد للاستشراق”.

مستقبل غائم

كل هذه الاعتراضات على الاستشراق تبدو منعكسة على الاستغراب، ويؤخذ عليه المأخذ نفسه، إنه يتكلم عن الغرب على أنه وحدة واحدة، وجوهر واحد، وله تصور نمطي عن الغرب، أنه قاهر ومستبد وفقط، وفي الوقت نفسه، هو عبارة عن تصورات مع الغرب وليس الغرب كله، وبالتالي هو علم من الناحية المعرفية مطعون في تأسيسه، سألنا الدكتور مغيث:

  • كيف ترى علم الاستغراب؟ وهل ترى أن الدكتور حنفي وضع أسسه الفكرية لمواجهة الاستشراق كعلم أم لمواجهة الغرب الاستعماري؟

يجيب: الاستشراق مرت عليه قرون يعمل وينتج معرفة، أما الاستغراب فلم تمر عليه عقود، والحصيلة في النهاية أنه لا شيء، ومن مبررات التأسيس التي قدمها الدكتور حسن حنفي “أنني كنت أنا الموضوع وأنا المدروس، الآن سأحول الدفة ويصبح الغربي هو المدروس وأنا الدارس، كل هذا كفيل أن ينتج أحكاما ولا يدرس معارف، لن نحصل منه على معرفة جديدة، وإنما على أحكام، بأن هذا غرور، وأن هذا كبرياء، وأن هذه غطرسة، وأن هذا استبداد، وأن هذا توحش، أحكام كثيرة، ليست خاطئة، ولكن ليس هذا ما ننتظره، العلم مفروض أن ينتج معرفة وليس أحكاما أخلاقية وقيمية على الآخرين.

ومن هنا أعتقد أنه ليس للاستغراب مستقبل كبير ينتظره.

مشروع التراث والتجديد تنبيه لنا جميعا أن نولي وجهنا شطر التراث لكي نستمد منه عونا في إصلاح وضعنا للأفضل، أما الاستغراب فهو كيف ينظر الشرقي إلى الغرب، وفي مقدمة علم الاستغراب يقدم حنفي المبررات حول كونه علما جديدا، أما باقي الكتاب فهو عبارة عن عرض للفلسفات الغربية، قال ديكارت، ثم جاء سبينوزا فقال كذا.

من ناحية أخرى أرى أن وضع الاستغراب قلق، لأنه يربط الحقيقة بالهوية، والعلم معناه البحث عن الحقيقة، أو دراسة ظواهر وإصدار نظرية، ثم ننظر السعة التفسيرية للظاهرة، وبالتالي أنا أبحث عن النظرية التي تستطيع أن تقدم لي أصدق تفسير للظاهرة، ومن ضمن التفسيرات لعلم الاستغراب أنه يستنكر تطبيق النظريات الغربية على المجتمعات الشرقية، وبالتالي فليس المعيار هل خرجت من عندنا أم جاءت من الخارج؟ أنما المعيار هو: هل لديها القدرة على تفسير الظاهرة أم لا؟ وهذا الطريق الذي يأخذنا إليه الاستغراب، هو طريق غير مريح معرفيا.

والاستغراب مشروع للدكتور حسن حنفي ظهر متأخرا عن مشروع “التراث والتجديد” لكن بينهما صلة، الدكتور حسن حنفي له سعة اطلاع واسعة ومتبحر في الفلسفة الغربية وترجم عنها ومتحدث للغات كثيرة ويعرف الفلسفة الغربية معرفة جيدة، لكنه كان يرى أن الاستعانة بالفلسفة الغربية غير فعال في إصلاح الواقعين العربي والإسلامي، إنما ينبغي تقديم نظرة ثورية للتراث، تحمل معاني التراث المستقرة في وعي الجماهير بمطالبها المعاصرة، مثل الحرية وتحرير الأرض والعدالة الاجتماعية وغيرها.

وعندما عرض علي الموضوع قلت له، وماذا فعل أساتذتنا؟ زكي نجيب محمود وتوفيق الطويل وعثمان أمين، وهم درسوا الغرب، وكتبوا عن ديكارت، وعن راسل وعن فلاسفة غربيين كثر، فقال لي: الأمر يختلف، وأردت أن أتلمس هذا الاختلاف فيما كتب فلم أتبينه”.

ويتساءل مغيث: إذن ما الجديد هنا؟

مشروع غير مجدي لفهم العالم

ويجيب: “الاستغراب أيضا روج لفكرة غريبة، أن أي مسلم أو عربي يتبنى نظرية أو مذهبا غربيا يحكم عليه بأن يكون تابعا للفكر الغربي، وهذا كلام سخيف جدا (على حد تعبير أنور مغيث)، لأنه لا يوجد شيء اسمه تابع للفكر الغربي، لأنه إذا أعجبتني الماركسية فقد لا تعجبني البراغماتية، وإذا استهوتني الوجودية فلن أطيق المنطقية، وأنا أنتخب معارف أميل إليها، وهذه حريتي، لكن أن يوصم كل من يتبنى فكرا أو نظرية غربية بأنه تابع للفكر الغربي، فهذا غير مقبول.

الأمر الثالث الذي انطلق منه مفهوم الاستغراب، أن ما يطلق عليه العقلانية لديكارت أو التنوير للفلاسفة لوك وروسو وفولتير، ما هي إلا أيديولوجيا غربية الهدف منها الهيمنة والسيطرة على العالم.

وهذا غير صحيح، هؤلاء الناس لم يكتبوا لكي يستعمروا الأرض، بل بالعكس كتبوا لتحرير شعوبهم، ودفعوا أثمانا باهظة لأفكارهم، دخلوا السجن، ونفوا، وحرقت كتبهم، ولم يكونوا أبواق دعاية لقوى عسكرية استعمارية باطشة، طبعا هناك قوى عسكرية باطشة في الغرب لا تعفيهم من الإجرام الاستعماري، لكن في النهاية لا ينفع أن أبدأ التعامل مع كل فكرة مضيئة على أنها جزء من جهاز الدعاية الغربية.

وبالتالي، من وجهة نظري الخاصة، فإن مشروع الاستغراب ليس مشروعا مريحا من الناحية المعرفية، وليس مشروعا مثمرا للإنسان العربي في محاولته لفهم العالم الذي يعيش فيه”.

حنفي نادما

  • هل ندم الدكتور حسن حنفي على مشروعه الفكري؟

يجيب الدكتور مغيث: نعم ندم، وعبر عن ندمه أمامي في إحدى الجلسات عندما انتقد اهتمامه اللازم بفكرة التراث وكيف أساء تلاميذه فهمه وحولوه إلى الانغلاق عن الهوية، وأصبح سارتر أو ماركس أو جون ديوي مرفوضين لأنهم ولدوا خارج العالم الإسلامي، وليس لأن فكرهم به عيب ما، وأنه لم يبذل أحدا جهده لنقد هؤلاء الفلاسفة أو تبيين أوجه القصور في تفكيرهم، ولأنهم نشؤوا في سياق غربي يكونون غير ملائمين لنا.

وإن كنت لا أدرك ما هي مشاعر الدكتور حسن حنفي، ولكنه كان يقول: “كنت أتمنى أن أفتح طريقا، وأنشر النور، ولكن أجد من استخدمني لينغلق”، وهذا الكلام كرره أكثر من مرة، ولكن حسب ظني أن الدكتور حسن حنفي الذي كان صاحب مشاريع مهمة، وبالفعل بذل فيها مجهودا كبيرا، وترك لنا إنتاجا مهما، تكون حالته النفسية فيما يخص إنتاجه حالة توتر، وغالبا ما يحمل على الترجمة حملا رهيبا، ويطالبنا بأن نكف عن الترجمة وننتج، ثم نفاجأ بعد هذا الكلام أنه يترجم.

ثم يتكلم عن السياق الغربي غير الملائم لنا كشرقيين، ثم يكتب عن سارتر وفيشته وفويرباخ، ويكتب بإعجاب لا مهاجما ولا ناقدا ولا مزلزلا لنظرياتهم، وبالتالي كان صاحب مشروع عميق ومتعدد الجوانب، ومن هنا أحيانا ينقلب على وجهه التراثي، ويبدأ يتكلم عن الحداثة والعقلانية، وأنه يجب أن نبدأ المسار من أوله، عقلانية، ثم مادية، ثم ديمقراطية، وأحيانا ينقلب على الوجه الغربي ثم يتحدث عن أننا يجب أن ننطلق من التراث الذي يطلق عليه المخزون النفسي عند الجماهير.

والندم كلمة ربما كان يرددها ليلقي علينا نحن تلاميذه باللوم لأننا لم نواصل مشواره على الوجه الذي يليق به.

الاستغراب في مواجهة الهيمنة

  • إذا كان الاستشراق هو رافد للاستعمار الغربي ضد العرب والمسلمين وأداة للاستعمار البشع، قد يكون الاستغراب رافدا لمقاومته، ومواجهة التحدي الغربي والحفاظ على هوية الأمة وثوابتها والنهوض بها حضاريا وماديا، فما رأيك؟

يجيب الدكتور أنور: أعتقد أن البشاعة والعدوان لا سبيل عمليا لهما سوى المقاومة وليس الفكر فقط، وأما الهيمنة الغربية فهي لم تأت نتيجة اعتقاداتنا بأفكار غربية، بل أتت نتيجة للهيمنة الاقتصادية والهيمنة السياسية، وبالتالي لا سبيل للتخلص من الهيمنة بالأفكار، بل السبيل أننا نبدأ لنأخذ طريقا للتنمية الاقتصادية المستقلة، وطريقا للاستقلال السياسي، وطريقا لتقوية أنفسنا من خلال علاقات مع جيران في موقعنا نفسه، إنما أن يكون هناك مشروع فكري هو الذي سيوقف الهيمنة رغم تبعيتنا السياسية والاقتصادية، لا أظن أن هذا يفيد.

وعلم الاستغراب أقولها صراحة لن يمثل مواجهة ولا هيمنة، ولكنه يمثل إما هروبا وإما عزاء، نحن بالتأكيد نشعر بالأسى وبالعجز، والاستغراب ممكن يقدم لنا هنا عزاء من تراثنا وهويتنا وأفكار لدينا ما زالت لها قيمة وبالتالي ليس هذا بالضبط هو مواجهة الهيمنة.

وأظن الإجابة الواضحة والبديهية التي قدمها مفكرو النهضة الأوائل مثل أحمد لطفي السيد وخير الدين التونسي وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم، أنه لا سبيل بمواجهة الغرب إلا بتبني نمط الحياة الغربية نفسه من صناعة وعقلانية وتحرر.

وهذا ما فهمه علماء اليابان، ثم علماء الصين، ليس بالعودة للتراث وإبرازه في مواجهة الأفكار الغربية، بل بالعكس تبني هذه الأفكار من اقتصاد ونظم سياسية، واليابان في بداية القرن الـ19 تبنت الحياة البرلمانية وتبنت الدستور، وتخلت عن قداسة الإمبراطور، وتبنت تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، وهذا ما كان يهدف إليه مفكرو النهضة العربية لإقناعنا به.

ولكن اعتبرنا ذلك عمالة للغرب، رغم أنهم قالوا وبشكل واضح إنه مشروع لمواجهة الغرب ولتحقيق مكانتنا وسط هذا العالم، وأظن أن هذه الفكرة ما زالت صالحة، أما العودة إلى الاستغراب ورؤية الغرب وإطلاق الأحكام عليه، يعد هذا نكوصا وليس مواجهة للهيمنة.

 

آباء الاستغراب ونقاد الاستشراق

أحمد عبد الحليم عطية أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة وأمين اتحاد الفلاسفة العرب ورئيس جمعية الفكر العربي، يقول إن الحديث عن مصير علم الاستغراب يضعنا في قلب المشروع الخاص بحسن حنفي، وهو مشروع التراث والتجديد، والحديث عن الاستغراب فيه جزء من أجزائه المتعلق بالموقف من الغرب، هذا هو الاتجاه الأول للسؤال، أو الكلام بشكل عام عن الاستغراب، يعني الكلام عن الموقف من الغرب.

الحقيقة أن الدكتور حسن حنفي لم يكن هو أول من طرح مصطلح ومكونات علم الاستغراب، الاستغراب هو أحد الإجابات المتعلقة التي طرحت للعلاقة بيننا وبين الغرب، وهي علاقة حضارية نستطيع التعامل معها على مستويات متعددة.

الموقف من الغرب يتراوح بين 3 اتجاهات فكرية، الاتجاه الأول هو الذي يتبناه أصحاب علم الاستغراب، ومعظمهم من التيارات الدينية، والثاني هو اتجاه نقد الاستشراق، ونجد في هذا الاتجاه أول نقد للاستشراق كتبه المفكر المصري أنور عبد الملك سنة 1969 في دراسته الشهيرة “الاستشراق في أزمة”، وتوالت الكتابات في نقد علم الاستشراق في كتابات الدكتور فؤاد زكريا، ثم كتابات الدكتور إدوارد سعيد بكتابه “الاستشراق” وكيفية التعامل مع الاستشراق.

ثم يأتي الاتجاه الثالث لينقلنا من الحديث عن الاستشراق إلى ما بعد الكولونيالية، أو ما بعد الاستعمارية، حيث العديد من الثقافات المختلفة العربية والأفريقية والغربية وثقافات أميركا اللاتينية انطلاقا من كتابات إدوارد سعيد، وهنا نشير إلى توجهات حميد دباشي الأستاذ في جامعة كولومبيا الذي ترجمت أعماله إلى العربية والذي يعد من أهم المعبرين عن هذا الاتجاه.

وإذا عدنا إلى الاتجاه الأول الذي قال بعلم الاستشراق، وهو في الحقيقة نشأ في سبعينيات القرن الماضي حين عاد حسن حنفي من بعثته في فرنسا، وبدأ يصيغ ما أطلق عليه “التراث والتجديد”.

والتراث والتجديد هو محاولة لإيجاد صيغة للتعامل بين الإنجاز الحضاري العربي الإسلامي وهو التراث، وبين الإنجاز الغربي في الفكر والثقافة والمعرفة وهو ما أطلق عليه “التحديث”.

والتراث والتحديث هو صيغة نظرية للتعامل مع الغرب، وقد شاهدناه وتعايشنا معه وشهدنا بدايات هذا المشروع ومراحل تطوره واكتماله.

ازدواجية الإعجاب والرفض

ويكمل الدكتور عبد الحليم عطية: أصحاب هذا المشروع يكنون إعجابا شديدا تجاه الغرب، وفي الوقت نفسه ينعتونه بالنقد القاسي، بما يعني وصفهم بالازدواجية، وهذا النقد تم توجيهه لصاحب مشروع التراث والتجديد، الحائر بين الإعجاب بالغرب باعتباره نتاجا للوعي والثقافة وهو مؤمن ومتأثر جدا بتيارات الوعي الغربي المختلفة، وكان عمله الأساسي في الحالة الراهنة لعلم الظاهريات، وهو العمل الذي حصل به على الدكتوراه من فرنسا عام 1966، وهو في الوقت نفسه أساس لما أطلق عليه مشروع التراث والتجديد الذي يتصدى للموقف من الغرب، وعلم الاستغراب في هذا السياق يبحث العلاقة مع الغرب، وهو محاولة توفيقية وليس محاولة نقدية جذرية كما لدى أنور عبد الملك وفؤاد زكريا وإدوارد سعيد.

مصير المشاريع الفكرية الكبرى

وفيما يتعلق بمصير التراث والتجديد ومصير الموقف من الغرب ومصير علم الاستغراب يقول عبد الحليم عطية: دعني أتحدث عن مشروع حسن حنفي ككل أولا، ثم عن علم الاستغراب ثانيا، علينا أن نتوقف عند ما أطلق عليه المشاريع الفلسفية العربية، هذه التسمية الحقيقة عليها ملاحظتان، الملاحظة الأولى أن أيا من أصحاب المشاريع المختلفة، سواء محمد عابد الجابري، أو محمد أركون أو حسن حنفي أو حسين مروة، لم يطلق على ما قدمه أي منهم لفظ مشروع، باستثناء الطيب تيزيني المفكر السوري الذي تعلم في الاتحاد السوفياتي والذي قدم لأحد كتبه بعنوان “مشروع رؤية جديدة للتراث الإسلامي في العصر الوسيط”.

ثانيا: هذه التسمية جاءت في سياق كتابات الأستاذ محمود أمين العالم في فترة وجوده في باريس، وهي فترة أقرب إلى الوجود الإجباري الاختياري، كما كان الحال مع الدكتور فؤاد زكريا الذي ترك مصر وانتقل للكويت مؤسسا لمشروعه الثقافي الرائع هناك.

إن مشروع حسن حنفي وغيره من المشاريع الفلسفية العربية أطلقت عليها لفظة مشاريع، حتى لا نطلق على كتابات فلسفة حسن حنفي، أو فلسفة عابد الجابري، أو الطيب تيزيني أو غيرهم لفظ فلسفة، والفلسفة هي نسق فكري، وكلمة مشروع هي البديل العربي لكلمة النسق الفكري أو فلسفة فلان، لأننا حتى الآن ليس لدينا الجرأة لكي نطلق على اجتهاداتنا الفكرية لفظ فلسفة، وقد آن الأوان لكي نطلق على هذ الجهود الفلسفية العربية المعاصرة.

علينا أن ننتقل ونتحول من الفكر العربي المعاصر إلى الحديث عن الفلسفة العربية المعاصرة، والمقصود بها هي النتاج الفكري الذي يقدمه المتفلسفون والفلاسفة العرب في الفلسفة، سواء كان يوازي ما يقدم في الفلسفة الغربية، أم كان يختلف عنها.

 

إشكاليات تجاهلت قضايانا الحياتية

  • مشكلة الفلسفة في عالمنا العربي وغياب المشروع الفكري الفلسفي، كانت من الأسئلة التي يطرحها دائما المفكر الكبير حسن حنفي، هل استطاع أن يصل إلى حل للمشكلة؟

يرى الدكتور عبد الحليم عطية مشكلة الفلسفة لدى الدكتور حسن حنفي في الحقيقة تنقسم قسمين:

الأول: أنها تعرض في إطار إشكالية التراث والمعاصرة، التراث والتجديد، الهوية والغرب، هذه الإشكالية تجاهلت تماما القضايا والمشكلات الفكرية التي نحياها، والحقيقة أن التفكير في هذه القضية هو تفكير ثلاثي، ينصب على ما أنتجه القدماء، وما أنجزه الغربيون، والحقيقة ما نحياه من قضايا ومشكلات هو الذي يحدد لنا كيفية التناول والجوانب المهمة للحياة العقلية والنقدية والتحررية للتراث، أو الجوانب الأساسية في الغرب لأننا في الحقيقة نصنع صورة عربية للغرب على غير حقيقة الفكر الغربي.

والحقيقة أن شعورنا بخيبة الأمل في التراث الغربي، بالإضافة لخيبة الآمال التي استشعرها عدد كبير من المفكرين العرب في الفكر الغربي، وفي مقدمتهم حسن حنفي، وهذا هو العيب الأول.

أما العيب الثاني فإننا ظننا أن الفكر العربي والفلسفة العربية هي الاجتهادات الذاتية، وليس مشروعا عربيا يشارك فيه الجميع، ليس بأسمائهم، ولكن بما يمكن أن يضيفوه للمشروع العربي.

والحقيقة أن هذا يعود لأسباب كثيرة، فقد كان حسن حنفي يأمل في وجود مدرسة فلسفية مصرية، يقوم هو على رأسها، ويكون هو مؤسسها، وهذا من حقه، وهذا ما سعى إليه، وهذا كان من الممكن أن يتحقق.

مشروع أصولي بالأساس

  • لكن لماذا لم يتحقق وجود هذه المدرسة الفلسفية التي طمح إليها حسن حنفي؟

ويقول الدكتور عطية: لكي نجيب عن هذا السؤال سوف نقارن بين ما قدمه حسن حنفي في السبعينيات، وبين ما قدمه الشيخ مصطفى عبد الرازق في الثلاثينيات من القرن العشرين.

كان مصطفى عبد الرازق يسعى لتأسيس مشروعا مصريا نهضويا تشارك فيه القوى المختلفة التي تنادي بمصر للمصريين، وكانت هناك مساحة ضخمة من الحرية الفكرية والليبرالية التي أتاحت وجود الأحرار الدستوريين، وآل عبد الرازق، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين من جانب، وأتاحت وجود مصر الفتاة التي أفسحت مجالا لعبد الرحمن بدوي ليطرح من الأفكار والآراء والقضايا التي أفسحت مجالا لعدد من المفكرين المصريين، وعدد من القضايا المصرية وفي مقدمتها تفجر ثورة 23 يوليو 1952.

كان هناك مشروع فلسفي مصري يأتي في صدارته الشيخ محمد عبده الذي نشر أفكاره الشيخ مصطفى عبد الرازق، ووجد في فلسفته دعاية قوية لهذه الرؤية الفلسفية المنهجية التي قدمها علي سامي النشار.

لكن حسن حنفي أراد تكوين مدرسة فلسفية، وهذه المدرسة لم يكن همها سوى فكرة التوفيق مع الغرب، في المقابل كانت هناك نهضة مصرية، وهي كانت أساس فكرة وفلسفة أحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق.

لكن الموقف من الغرب من خلال التراث والتجديد، لا يمكن أن يكون سوى شكل من أشكال تطبيق الفلسفة على فكرة أصولية في الحقيقة، وكما وجدنا في الغرب قمة الفلسفة في الفيمونولوجيا التي وجهت نقدا للعلوم الأوروبية، أراد حسن حنفي أن يوجه نقدا للعلوم الإسلامية، وبالتالي اختار الفلسفة وعلم الكلام مجالا للعلوم ليعيد إحياءها من جديد لتقديم ما يسمى “الأصولية” التي كان حريصا عليها.

والأصولية في هذا العصر يجب أن تكون محددة المعالم، يجب أن تكون لها صياغات خاصة، لكن أن تكون هي البديل للفكر المعاصر، والنظريات التحررية ونظريات ما بعد الإمبريالية، فهذا أمر صعب للغاية.

الصلح بين الدين والثورة

  • هل أخطأ الدكتور حسن الطريق من البداية، حتى أنه يعلن ندمه في كتابه مقدمة في علم الاستغراب عن الوقت والجهد الكبير الذي بذله في التراث العربي ولم يهتم بالتراث الغربي؟

يختم الدكتور عبد الحليم عطية: لا أقول أخطأ الدكتور حسن، بل بذل غاية جهده في سبيل مشروعه، ولكن أستطيع أن أقول إنني لمست تأسفه وحرجه وإحساسه في آخر أيامه باللاجدوى لعدم وجود فلسفة مصرية، وهذا يرجع إلى بدايات الطريق وخطوات لم تصب في المشروع الوطني، ولكنها كانت تصب في المشروع الديني بشكل غير محدد المعالم، وكان هدفه الأساسي هو التوفيق أو الصلح بين الدين والثورة، وكان هذا الشغل الشاغل لحسن حنفي فلا تحققت الثورة ولا تم تحديد معالم الدين، فهوجم من الإسلاميين، وهوجم من الفلاسفة، وقدمت إليه أشكال من النقد.

وأريد أن أؤكد أن ما يفيد من مشروع حسن حنفي، ويعلي مما قدمه حسن حنفي، أن نسعى بنقلة كبرى لمشروع التراث والتجديد حتى يكون مشروع الحاضر والمستقبل، وأن يتحول مشروع التراث والتجديد من مشروع الأصولية والتصالح بين الدين والثورة إلى أن يكون مشروعا للحاضر والمستقبل، وهو الانتقال من التراث والتجديد إلى التأسيس والتجاوز.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version