مرّت سنوات طويلة دون أن يكون هناك أكاديمية مسؤولة عن تعليم مهنة التمثيل في سوريا سوى “المعهد العالي للفنون المسرحية” الذي تولّى تخريج جميع نجوم الشام، منذ تأسيسه سنة 1981.

لكن خلال السنوات الماضية بدأت بعض المعاهد الخاصة دخول هذا المجال، مستفيدة من توهّج صناعة الدراما، والحركة الفنية عموما في البلاد، إضافة إلى الجامعات الخاصة التي افتتحت أقساما معنية بتدريس التمثيل واستقطبت إليها أهم المدرسين على مستوى محلي.

وبينما لم تتمكن بعض المعاهد المختصة بتدريس التمثيل على الاستمرار مثل “فيوتشر ستارز” الذي كان يديره الممثل السوري محمد الأحمد بالتعاون مع مجموعة من المدربين والأساتذة، راح بعضها الآخر يعاني بسبب المبالغة في تطبيق الأمور الأكاديمية بحذافيرها، واستمرار الدورة لمدة 3 سنوات، دون الأخذ بعين الاعتبار كيفية الاستمرار وتحقيق بعض الهوامش من المرابح المالية، ولذلك فإنها ستتجه غالبا نحو الإقفال وهو ما يحدث مع “مدرسة الفن” التي يديرها سمير عثمان أحد المدرّسين المكرّسين على هذا الصعيد في سوريا.

في حين ذهبت بعض المراكز نحو حالة تجارية بحتة، واهتمت بالأرباح والمردود المالي دون العناية ولو بالحدود الدنيا من القيمة والسوية الفنية، ومن بين هؤلاء معاهد أعلنت عن دورات مختصة بتعليم التمثيل والطبخ في آن معا! مما فتح الباب على موجة من السخرية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي بسبب المطارح التي وصل إليها فن التمثيل، والآلية التي صار يلعن فيها عن الدورات بهذه الطريقة.

بمقابل ذلك، تعتبر تجربة “دراما رود” الأكثر نجاحا من بين المعاهد الخاصة من ناحية الاستمرارية والانتشار وكانت قد افتتحت رانيا الجبّان (دكتوراه في المسرح) المركز قبيل 5 سنوات بنية إطلاق دورات في التمثيل والإخراج والسيناريو، ثم تشاركت مع صديقتها المخرجة رشا شربتجي، لتقديم دورة تدريبية نظرية مع الراغبين في التعليم.

رشا أصبحت لاحقا شريكة في المشروع كون اسم المخرجة الشهيرة يعد بمنزلة ماركة مسجّلة للمعهد، وبوابة عبور نحو الطلاب لضمان تخريجهم بصيغة مناسبة، وتحقيق فرص عمل جيدة، ولاحقا اقترح المعهد على طلابه أن يقتطع قسما بسيطا من أجورهم بعد تخرجهم في حال أمّن لهم المعهد فرص عمل. علما بأن الأقساط التي يتم دفعها لا تعتبر كبيرة قياسا بالظرف الاقتصادي المتهالك والغلاء الفاحش الذي تعاني منه الشام هذه الأيّام.

في حين اتكأ المعهد أثناء حفلات تخرجه على شهادات مسرحيين وكتاب وممثلين متخصصين أمثال: جواد الأسدي، وفايز قزق، وريم حنا، حكوا عن أهمية التجربة وعمقها المعرفي وإمكانية رفد الصناعة السورية الأبرز بطاقات شابة ومواهب واعدة. لاسيما أن تجربة “دراما رود” حققت نجاحا علما بأن دورات السيناريو مثلا تأسس لـ3 مراحل، على أن تنتهي الدورة بجميع مستوياتها بما يشبه مشاريع تخرّج يقدّم فيها كلّ طالب عمله المكّون من ملخص و3 حلقات، فيما يتخرّج طلاب التمثيل بمشروع مسرحي، بعد إمضائهم الفترات الكافية من التدريب على أيدي أساتذة مختصين من خريجي “المعهد العالي للفنون المسرحية”.

في حديثها مع “الجزيرة نت” تقول مديرة معهد “دارما رود” رانيا الجبان، “صارت ظروفنا صعبة للغاية خاصة على المستوى اللوجستي والاقتصادي. التبدل الهائل بالأسعار وارتفاعها الجنوني إضافة للظرف القلق الذي تعيشه البلاد، كلّه كان له أثر سلبي علينا، لكن ما عوّض هو أداء الطلاب وإمكانياتهم المبشرة وتفاعلهم مع الحالة النظرية والأكاديمية بطريقة عملية تقارب الاحترافية. وهو ما يخلق حافزا حقيقيا للاستمرار، إضافة إلى الإقبال الحقيقي والثقة التي تركها معهدنا عند الناس”.

تشرح الجبان، “كما أطلقنا وعدا منذ بداية مشروعنا بأن نبتعد عن الأهداف التجارية ونجرّب قدر الإمكان تبسيط المطالب المادية، وعدم إرهاق الطالب، ومحاولة المشي بثبات نحو تكريس مؤسسة أكاديمية بأصول وقواعد ثابتة، وهذا ما نحرص عليه. رغم السعار الذي يسطو على سوريا من ناحية الغلاء، إلا إننا نجرب أن نستمر بدون غايات تجارية تباركنا جهود مخرجة مكرسة ومرموقة مثل رشا شربتجي التي تتحمل الكثير من الأعباء برغبة منها لإنجاح المشروع واستمراره”.

وفي وقت تلاحق فيه هذه المعاهد انتقادات بأنها مؤسسات تجارية لا يمكن أن تعنى بالموهبة والقيمة، بقدر ما تفكرّ بالأرباح تعلو أصوات القائمين على تلك المعاهد لتبرر وجودها معتمدين على تاريخ ناصع في فكرة تدريس التمثيل، خاصة أن معلّم التمثيل الأوّل في العالم قسطنطين ستانسلافسكي منح مساحة يسيرة من وقته للممثلين الشباب، كي يعلّمهم فن التمثيل بأصول حديثة قلبت مفهوم هذا النوع الأدائي، وخلّصته من الصيغة “البرّانية” السطحية، ومن الانفعال الزائد للعواطف والمواقف، إلى تعبير داخلي ينبع من الروح.

هكذا، أرست قواعد صاحب “حياتي في الفن” أثرا على نجوم التمثيل في العالم على رأسهم الراحل مارلون براندو. هذا ما آمن به بعض أصحاب تلك المعاهد والمدرسين فيها، وراحوا يمنحون وقتهم للمواهب الشابة والهواة، خاصة أنه حتى الآن تفتقر البلاد الرائجة في الدراما للأكاديميات المتخصصة في فنون عدّة.

وربما يكون ذلك ما يشغل الممثلة وأستاذة التمثيل في “المعهد العالي للفنون المسرحية” و”مدرسة الفن” سابقا مريم علي التي تحكي لنا عن تجربتها مع المعاهد الخاصة ورأيها في تكاثرها وتقول، “الأكيد بأن المتخرجين من تلك المعاهد يعانون من قلة الفرص، وهذا شأن عام في سوريا، لكن أعتقد بأنه من الضروري جدا تواجدها وازدياد انتشارها وضرورة دخولها الأحياء الشعبية، ودعمها من بلديات المناطق المتواجدة فيها مثلما يحدث في أوروبا مثلا، ويفرض عليهم تقديم مساعدات من كافة النواحي.. والسبب وراء أهميتها من وجهة نظري أنها أشبه بصالات الرياضة التي تعنى بتدريب الذهن والتخلص من الروتين اليومي، بدون أن تصبح الرياضة حالة احترافية ولا يشارك من يرتاد النادي بطولات وغيرها، كذلك من يسجّل في هذه المعاهد يتلقى فائدة على مستوى كسر الخجل، وتحسين الإلقاء، وإظهار الشخصية المناسبة، أمام الآخرين خصوصا من تفرض طبيعة عمله حالة تواصل يومي مع الناس، ثم حتى وإن كانت تلك المعاهد ضعيفة لربما يحصل الطالب فيها على معلومات ضئيلة لكن تخوّله اقتحام عالم مختلف تماما عن عالمه المعتاد”.

تضيف أستاذة التمثيل السورية، “كما أن ميزتها القدرة الساطعة في خلق حيوية واضحة عند من يرتادها، وانتشال جيل الشباب الحالي من الإحباط ومن إدمان العادات السيئة، وكل أشكال الإدمان التي تخلق نتيجة الفراغ وتراكم الخذلان… علما أنني ميالة لأن تهتم وتعتني تلك المعاهد بالجوانب التربوية، ليس فقط بالحالة الفنية والتثقيفية لأنه بحسب أحد عرابي المسرح والفن السوري وهو فواز الساجر يجب أن تأتي الأخلاق أولا ثم يتم العناية بالموهبة وصقلها”.

وحول فكرة التكاليف الباهظة التي يمكن أن يتحملها الطالب من أقساط وغيرها ترد علي بالقول، “هذا سؤال يراودني دائما في ظل هذا الغلاء والوضع المعيشي المزري، ولكن حينما أشاهد فرح الطلاب وحماسهم المستمر وحالة التأثر الواضح لديهم فإنني أتمسك بخيار ارتيادهم هذه المعاهد مهما كلف الأمر، أما فيما يخض الفرص فالأمر شبه مستحيل سواء من جانب الدولة أو شركات الإنتاج، لكن على مستوى شخصي أشعر بتحيز واضح لمعهد “مدرسة الفن” المسرحي وصلت لمراحل تفوقت على “المعهد العالي للفنون المسرحية” لأنها كانت تسير على طريق احترافية بمنتهى الصرامة والدقة لكنها في طريقها للإغلاق بسبب الوضع المادي وهي لا تقبل أن تخرج الطالب قبل 3 سنوات، وهو ما يضعها تحت ضغط ونفقات كبيرة ستجعلها تقفل إن لم تتلق الدعم اللازم للاستمرار”.

أخيرا توضح مريم علي بأن هناك بعض الحالات العابرة عن ظهور بعض المتخرجين الجدد والإعلان عن دورة لمدة زمنية قصيرة، الأكيد بأنه لا يمكن صناعة ممثل بشهر، وفكرة تعلّم كيف تصبح ممثلا في شهر غير واردة ولا يمكن النقاش فيها لكن يمكن القول بأن شابا في مقتبل عمره يود أن يمنح خبرته المتواضعة والبسيطة لشاب آخر يبحث عن طرف الخيط، فالأمر يمكن تقبله وتفهمه، عدا عن ذلك التمثيل يحتاج لمنهاج طويل ووقت كاف.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version