يصبح عصيا على المبدع غالبا أن يصنع منجزا بديعا في وسط الإبادة والحرب الشرسة، وإذا فعل فلا يكون ذلك فعلا بقدر ما هو ردة فعل عاطفية أو متأثرة بالقلق والخوف، الناتجين عن محاولات النجاة من موت محقق، في حرب شرسة شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.

لكن في بعض الأحيان، لا بد من تحدي الموت بتخليد اللحظة فنيّا، وهذا ما فعله 22 مخرجا ومخرجة من قطاع غزة، بتشجيع ومتابعة من المخرج الفلسطيني رشيد مشهرواي، فقد رأى أنّهم يستطيعون سرد حكاية لم تر النور من قبل، في وسط الحرب، ومن مسافة صفر.

أنجز هؤلاء المخرجون 22 فيلما قصيرا، تتراوح مدة الواحد منها ما بين 3-9 دقائق، ولكل فيلم اسمه وحكايته، وذلك ضمن المشروع الأوسع “من مسافة صفر”.

وقد سهلت حرية الأسلوب وواقعية الأفلام ونصائح مشهراوي ذلك الإنجاز، على شح الإنترنت، والخطر المستمر، وانقطاع التيار الكهربائي الدائم، وفقدان أفراد من عائلات العاملين في الأفلام، وقد بلغ عددهم في قطاع غزة أكثر من 100 في مجالات الصوت والإنتاج والتمثيل والكتابة والإخراج.

هنا عليوة.. مخرجة فيلم “لا” تصرخ في وجه الإبادة

تقول هنا عليوة، وهي مخرجة في المشروع، في حديث خاص للجزيرة الوثائقية إن المخرج رشيد مشهراوي تواصل مع عدد من المخرجين والمخرجات في قطاع غزة قبل حوالي 6 شهور، وتناقشوا بالأفكار التي يمكن عرضها في الأفلام التي سيصنعونها، بشرط أن تكون أفكارا جديدة لم تتطرق إليها التقارير الإخبارية والتغطية المستمرة للحرب.

وقالت إن بعض المخرجين واجهوا مشاكل في إنجاز الأفكار وتصوير المشاهد المناسبة، لا سيما أن هناك أفلاما وثائقية وأخرى روائية، ومنها دوكودراما وأخرى رسوم متحركة، لذلك كان إنجاز الأفلام عبارة عن ورشة عمل مفتوحة، وسط تحديات كثيرة، منها خطر التنقل ونقص المعدات.

وتحكي أنها أطلقت على فيلمها اسم “لا”؛ لأنه كان الرد الوحيد على كلّ شيء يحدث حاليا في يوميات الإبادة بغزة، فقد صوّرت في الفيلم قصتها الشخصية وحيرتها وهي تبحث عن فكرة، حتى صنعت فيلما عن فرقة موسيقية، وهي فرقة “صول باند” التي غنت في الفيلم أغنية تقول كلماتها:

روق وهدّي
بكرة الأزمة بننساها وبتعدّي
والضحكة الحلوة حنشوفها أكيد

وتصف هنا عليوة صعوبة إنهاء الفيلم، قائلة إن المشاهد صُورت أثناء النزوح أكثر من مرة، وقد حزنت على تدمير شركتها الإنتاجية التي كانت حلما وتحقق، إضافة إلى خوفها من المجازر المتواصلة، وإحباطها الشديد الذي يجعلها لا تريد أن تفعل شيئا، لكن تشجيع المخرج مشهراوي لها ولبقية المخرجين وسعيه لحل أغلب المشاكل التي واجهوها، جعلت المشروع ممكنا.

أفكار الأفلام.. قصص الحب والفلسفة والفن

ظهرت المخرجة هنا عليوة مع رشيد مشهرواي في حلقة من برنامج “معكم منى الشاذلى” على قناة “أون تي في” المصرية في أبريل/ نيسان 2024، وقالت إنها جاءت من معبر رفح البري مباشرة إلى أستديو البرنامج، بعد أن أنهت آخر لقطات الفيلم.

كانت هنا عليوة الوحيدة التي استطاعت السفر من بين زملائها المخرجين جميعا، فقد احتل الجيش الإسرائيلي المعبر، واجتاح مدينة رفح على الحدود المصرية.

يروي المخرجان -في البرنامج- أنّ أفكار الأفلام جميعها لم تأتِ من الموت في زمن الحرب، بل من الحياة والمقاومة بالتمسك بالأمل، والقدرة المتتالية على النجاة، فهي تتنوع بين الفلسفة والفن وقصص الحب، وهي زوايا قد تبدو عادية وقت السلم، ولكنها في الحرب تختفي تماما، تحت صراخ الألم والرغبة في النجاة.

“فكرتي أن أعطي فرصة للحكايات البكر”

في حديثه لبرنامج “معكم منى الشاذلي”، قال المخرج رشيد مشهراوي إنّ هذا المشروع مهم لديه، بوصفه فلسطينيا وسينمائيا وابنا لمدينة غزة، ثم قال: كانت فكرتي للمشروع أن أعطي فرصة للسينمائيين والسينمائيات في غزة، لكي يعبّروا عن أنفسهم وتجاربهم، وعن الحكايات التي لم يقلها أحد من قبل.

 

فيلم جنة جهنم

أما في الكوميديا السوداء فنجد المخرج والممثل كريم ستوم، يصّور يومياته في فيلم “جنة جهنم” وهو أحد أفلام المشروع، وفيه يوميات نزوحه ونومه على الرصيف القاسي والقذر إلى أنْ يجد كفنا يستطيع أن ينام به على أمل أن يجد مرتبة/فرشة نظيفة يوما ما، وهكذا يصف ستوم فيلمه للجزيرة الوثائقية؛ الشاب الذي ينام ويستيقظ وهو في كفن، وكأنه يموت وينهض بين جنة وجهنم.

ويصوّر بكاميراته وتعليقه الصوتي الحالة الساخرة التي يعيشها، ويتحدث كممثل ومخرج معا عن يومياته كشاب وحيد قضى الحرب على الرصيف دون عائلته، حيث فرقتهما الحرب.

وبحسب ستوم فهذه قصته الحقيقية، وظلّ كذلك حتى استطاع الانضمام إلى عائلته في دير البلح، وتخلّى عن الكفن بمحض إرادته، لكن يا ترى هل سيتركه الكفن إلى أن تنتهي الحرب؟

يشعر ستوم بالسعادة كونه جزءا من مشروع أفلام من المسافة صفر، ويؤكد بأن الفيلم تجريبي. فقد جعله المشروع والنقاش المتكرر حول الأفكار والتكنيك مع مشهراوي يعيش تجربة مختلفة غير تقليدية الفكرة والصنع بأن يصوّر بنفسه فيلما روائيا وتسجيليا لعرض حكاية أصلا في جوهرها كثير من الفلسفة.

مفارقات الحرب ولقطة الإبداع

وهناك عدد من الأفلام في المشروع التي لا تتركك إلا في حالة من الدهشة، تعيش مفارقات الحرب التي لا تحدث سوى هناك ولا يلتقطها سوى مبدع، كما فيلم “24 ساعة” للمخرج علاء دامو، والذي يتحدث عن شاب نجا من الموت ثلاث مرات في أماكن مختلفة قال عنها الجيش الإسرائيلي إنها مناطق آمنة.

إذن يمكن صناعة سينما من داخل الحرب وبتقنياتٍ عالية تصلح للشاشات العالمية، حتى لو كانت الكاميرا المستخدمة من هاتف شخصي، لكن ذات كفاءة، فالفريق لم يصنع أفلاما معتمة في قطع الكهرباء، أو مليئة في الدم وسط عشرات القتلى، ولم تكن فقيرة الإبداع وسط قلق وخوف يعيشه صانعوها، بل جاءت أفلاما متميزة تترك المتلقي بكثير من الأسئلة.

وقد عرضت أفلام المشروع في هذا الشهر يوليو/تموز 2024 في إطار الدورة الخامسة لمهرجان عمّان السينمائي الدولي، وقد حصلت عدة أفلام من المشروع على جوائز منها “جنة وجهنم”، و “24 ساعة”.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version