بكين – لم يكن حضور قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (آبيك) في بيرو، ثم حضور قمة مجموعة العشرين في البرازيل هذه الأيام بالنسبة للرئيس الصيني شي جين بينغ ولغيره من القادة الآسيويين مجرد حضور اثنتين من أبرز القمم الاقتصادية، بل فرصة لتعزيز العلاقات عبر المحيط الهادي بين دول شرق آسيا ودول أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي ذات الكتلة السكانية الكبيرة.

فقد باتت أميركا اللاتينية من أهم المناطق في التجارة الخارجية للصين، وحسب المتحدث باسم الخارجية الصينية سون لين جيان، في تصريحات له الخميس الماضي، فإن قيمة التبادل التجاري بين الصين وأميركا اللاتينية في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري بلغت 427.4 مليار دولار، بزيادرة نسبتها 7.7% عن الفترة ذاتها من العام الماضي، وتقترب تلك القيمة من عتبة 500 مليار دولار مع نهاية العام الجاري، حسب تقديرات الخارجية الصينية.

التجارة البحرية عبر المحيط الهادي

وضمن سياق توجه الصين لتوسيع حضورها وتواصلها الاقتصادي مع دول العالم، كان واضحا ما يعنيه أن يشهد الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيسة البيرو دينا بولوارت افتتاح ميناء تشانكاي، الذي يوصف بأنه أحدث الموانئ في أميركا اللاتينية ويقع على بعد 78 كيلومترا شمالي العاصمة البيروية ليما، وعلى سواحل جنوب المحيط الهادي.

ويراد لهذا الميناء -الذي يستلزم 3.5 مليارات دولار حسب أرقام شركة كوسكو الصينية لاستكمال مراحله وما تبعه من مشاريع سكة حديد القطار التي تربطه بالمدن والدول المجاروة- أن يكون نقطة وصل بين شمال شرق آسيا وأميركا اللاتينية، وليكون أحدث المشاريع المنفِذة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، وقد رسمت لتحقيق تواصل بحري وبري اقتصادي مع دول العالم بما في ذلك أميركا اللاتينية والمنطقة الكاريبية.

لهذا أكد الرئيس شي -في مقال نشر له بصحيفة بيروية- على أهمية إنجاح مشروع ميناء تشانكاي في بيرو من مرحلة البناء والتشغيل، وإكمال مراحل تطويره حتى “يحقق المسار البحري بين شانغهاي وتشانكاي للصين وبيرو ودول أميركا اللاتينية تنميةً ورفاهية مشتركة”.

وتم اختيار تشانكاي -تلك المدينة الصغيرة ذات الـ63 ألف نسمة- ليس لقربها من العاصمة فحسب، بل لموقعها الجغرافي أيضا، الذي يمكن الإبحار منه مباشرة نحو الشمال الغربي للمحيط الهادي باتجاه سواحل الصين ودول شرق آسيا الأخرى، كما أنه ميناء طبيعي من حيث عمق قاع البحر في تلك السواحل.

بيرو من جانبها ترى في مثل هذا المشروع مجال بناء جسور تواصل اقتصادي وإستراتيجي بينها وبين الصين ودول شرق آسيا، بل إن دولا ذات حدود مع بيرو قد تستفيد من هذا الميناء في التجارة مع الصين كالبرازيل والإكوادور وكولومبيا وبوليفيا وتشيلي عبر أراضي جيرانها، وكلها أسواق للمنتجات الصينية، ليكون الميناء نقطة ارتكاز، أملا في أن تصبح بيرو لاعبا مهما في حركة السفن والتجارة الدولية عبر المحيط الهادي.

وبانطلاق السفن من هذا الميناء، يُتوقع أن تنخفض كلفة الشحن بين بيرو وما جاورها وبين الصين بنسبة نحو 20%، لتصل السفن التجارية عبر المحيط الهادي خلال 23 يوما بفارق 12 يوما عن غيره من الموانئ اللاتينية، وفي ذلك فائدة لكل المنتجات وفي مقدمتها المنتجات الزراعية الطازجة التي تصدرها بيرو إلى الأسواق الصينية.

ولو تحقق ما جاء في خطة المشروع، فإنه يؤمل أن يحقق ما يبلغ 4.5 مليارات دولار من الإيرادات سنويا، ويوفر 8 آلاف فرصة عمل للبيرويين، وفق ما تذكر المصادر الصينية.

 

علاقات متينة

لكن علاقة الصين مع بيرو سبقت ذلك الميناء بخطوات مبكرة سابقة، حيث تعد الصين أكبر شريك تجاري لبيرو، وتأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية.

  • فالصين تمثل بالنسبة لبيرو أكبر سوق تصدير لعشر سنوات ماضية.
  • وصادرات بيرو إلى الصين تشكل 36% من مجموع صادراتها.
  • تقدر قيمة الاستثمارات الصينية في بيرو حاليا بنحو 30 مليار دولار، ومن ذلك منجم لاس بامباس للنحاس الذي يسهم بنحو 1% من الناتج المحلي الإجمالي لبيرو، حسب قول الرئيس الصيني شي جين بينغ.
  • وتحت الإنشاء مشروع مستشفى ساول غاريدو في مدينة تومبيس شمالي غربي بيرو لخدمة 100 ألف من المواطنين.
  • ومشروع مياه آخر في ثلاث نواح من مدينة ليما يراد له أن يوفر المياه لنحو 400 ألف من سكان العاصمة.
  • البيرو كانت أول دولة في أميركا اللاتينية تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين في عهد جمهورية الصين الشعبية، حتى باتت عام 2013 بمستوى الشراكة الإستراتيجية.
  • والبيرو أول دولة من بين جيرانها توقع اتفاقية تحرير التجارة مع الصين عام 2010، والتي تم تحديثها ووضع خطة تعاون لخمس سنوات قادمة.
  • وهي من أوائل الدول التي تعاونت مع الصين في تنفيذ مشاريع مبادرة الحزام والطريق.

لذلك لطالما امتدح الرئيس الصيني شي جين بينغ علاقات بلاده مع بيرو خلال زياراته المتكررة، معتبرا إياها “الجار” عبر المحيط الهادي، ومقدرا ترحاب البيرويين بالصينيين مسؤولين ومستثمرين ومن عامة التجار وأصحاب المطاعم والمتاجر الصينية، وأخيرا من السياح الصينيين الذين تزايد عددهم في السنوات الأخيرة حتى إن الكونغرس البيروي أعلن يوم الأول من فبراير/شباط الماضي من كل عام يوم صداقة لبلاده مع الصين، وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ قد ألقى كلمة في الكونغرس البيروي خلال زيارة سابقة له عام 2016.

موجة الهجرة الأولى قبل 175 عاما

ويتحدث الإعلام الصيني عن أن جذور العلاقات بين بيرو والصين تمتد لـ175 عاما، إذ يوجد في العاصمة ليما الحي الصيني الذي يشبه أحياءً صينية أخرى في دول كثيرة حول العالم، والذي يقف شاهدا على حضور صيني قديم يتجدد.

فهناك من هم من الجيل الرابع أو الخامس، وهناك القادمون الجدد وكلهم أصحاب متاجر، يستوردون بضائع صينية لتسويقها في بيرو، ومنهم أصحاب تلك العقارات وليسوا مجرد مستأجرين.

وتقول مصادر صينية إن الحضور الصيني في عموم أميركا اللاتينية يمتد لنحو أربعة قرون، واليوم الجالية الصينية في بيرو هي الأكثر عددا من بين مثيلاتها في دول أميركا اللاتينية، لكن عددهم هو مجال اختلاف بين الإحصائيات، وتتفاوت التقديرات كثيرا بشأن نسبتهم من مجموع السكان ما بين أقل من 1% و10% من سكان بيرو، إذا ما أدرج من اختلطوا عبر الزواج مع قوميات أخرى.

ويحتفل ذوو الأصول الصينية والصينيون القادمون حديثا بمرور 175 عاما على أبرز موجات الهجرات الصينية القديمة إلى بيرو، في تلك الأيام كانت الرحلة تستغرق ما بين 3 و4 أشهر ما بين سواحل الصين وسواحل بيرو.

كان ذلك في عام 1849 عندما وصل 75 عاملا صينيا إلى ميناء كالاو، وكان أولئك الأوائل في الغالب “كانتونيي” القومية من إقليم غواندونغ الصيني، يأتون ليعملوا في أعمال بناء المدن وسكك القطار وقطاعي التعدين والزراعة، وهي أمور مهدت لنجاح أحفادهم اليوم، فعشرات من الشخصيات السياسية والثقافية والاقتصادية البيروية المعروفة خلال العقود الماضية هي من أصول صينية.

موجات هجرة أخرى

وهناك موجة ثانية من المهاجرين شهدتها بيرو بعد عام 1949، كانوا أعلى تعليما وأكثر ثراءً، وهذه الفئة اتجهت نحو الأعمال التجارية، وبعضهم جاء من تايوان، ونسبة من المهاجرين الصينيين الأوائل أو المتأخرين كانوا من ذوي الأصول الصينية المنتشرين في دول جنوب شرق آسيا كالفلبين وماليزيا وإندونيسيا ومن سكان هونغ كونغ، وهناك موجات متكررة حدثت في ستينيات وسبعينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي، وبعض أولئك أو من أبنائهم وأحفادهم من هاجر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة.

وإذا كانت بعض المصادر التاريخية تقدر عدد من وصل من الصينيين أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20 إلى بيرو بما يتراوح ما بين 100 و120 ألفا، فإن هناك تجارا من ذوي الأصول الصينية يقدرون عددهم اليوم في بيرو بنحو مليون شخص، لكن إثبات ذلك الرقم ليس سهلا، فكثير من جيل الأجداد وعبر الأجيال صاهروا قوميات أخرى من سكان بيرو.

فقبل أكثر من قرن ونصف القرن، كان الرجال الصينيون يهاجرون بمفردهم ليتزوجوا بفتيات من السكان الأصليين وحتى من غيرهم من ذوي الأصول اليابانية والهندية والكورية والأفريقية والأوروبية، ولذلك يتفاوت مستوى قدرات الأجيال الجديدة على فهم اللغة الصينية.

صعود الصين يعني الكثير لصينيي بيرو

رغم أن كثيرا من ذوي الأصول الصينية في بيرو قد فقدوا أسماء عائلاتهم الأصلية، وصاروا يحمل أسماء بيروية، فإن مظاهر الثقافة الصينية في أعيادهم ويومياتهم حاضرة، فهناك آلاف المطاعم الصينية في بيرو، وبعض أصحابها يقدرونها بنحو 50 ألفا، وتسمى محليا مطاعم الـ”شيفا”، بل إن اللغة والثقافة الصينية صارتا تدرّسان اليوم للشباب البيروي لما يرى لذلك من أهمية في العمل التجاري، ومن ذلك مدرستان تدرسان اللغة الصينية في ليما، لكن اللافت أن كثيرا من طلبة اللغة الصينية ليسوا من أصول صينية، فقد باتت مطلوبة وظيفيا وتجاريا للجميع.

وهناك أيضا أربعة مما تعرف بالمعاهد الكونفوشوسية التي باتت مراكز معروفة للثقافة واللغة الصينية حول العالم، وهي من بين مئات المعاهد المثيلة التي تشرف عليها وتمولها وزارة التعليم الصينية في عشرات الدول، وقد بدأ هذا البرنامج عالميا منذ عام 2004.

لذلك يمثل الصعود الاقتصادي للصين في العقود الثلاثة الأخيرة لذوي الأصول الصينية في بيرو وأميركا اللاتينية عموما روحا جديدة يكتشف بها الأبناء والأحفاد جذورهم من جديد، ويفتح لهم فرص تكوين علاقات اقتصادية وثقافية وتعليمية واجتماعية لم تكن ميسرة قبل ثلاثة أو أربعة عقود.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version