في الجزء الذي يُعد الأكثر قدسية وروحانية ضمن مراسم تتويج ملك بريطانيا الجديد، من المُنتظر أن يتم مسح الملك تشارلز الثالث بزيت مقدس جُلِب خصيصا من مدينة القدس لهذا الغرض، وبه يتم تنصيب حاكم المملكة رسميا في تقليد يمتد مئات السنين.
فما قصة هذا الزيت، وما أهميته بالنسبة للمراسم؟
تقليد مسح ملك بريطانيا بالزيت المقدس
الجزء “الأكثر قداسة” في التتويج، وفقًا لموقع “رويال كولكشن تراست” (Royal Collection Trust) البريطاني، هو ما يُسمى بـ”المسحة المباركة” على الملك بالزيت المقدس.
فعلى الرغم من أن التتويج يُنظر إليه على أنه لحظة عظيمة من الاحتفالات الوطنية والطقوس التاريخية، فإن فيه عنصراً دينياً قوياً.
بدأت رحلة الزيت بعد قطف زيتون بساتين كنيستي “مريم المجدلية” و”دير الصعود” في جبل الزيتون بالقدس المحتلة، وذلك لقداسة الجبل مسيحيا، واحتوائه على أجود وأقدم أشجار الزيتون، بالإضافة إلى مجاورة أشجار كنيسة مريم المجدلية لقبر جدة الملك لأبيه الأميرة أليس باتنبرغ التي توفيت بالمملكة المتحدة عام 1969 ونقل رفاتها إلى القدس، حيث زار تشارلز قبرها خلال زيارة رسمية لأول مرة عام 2018.
عُصر الزيتون في مدينة بيت لحم جنوبي القدس، قريبا من كنيسة المهد التي شهدت ولادة المسيح عليه السلام حسب الاعتقاد المسيحي، وفي 4 مارس/آذار الماضي نُقل إلى كنيسة القيامة في البلدة القديمة بالقدس لتقديسه، وذلك بإشراف لفيف من البطاركة ورؤساء كنائس القدس، على رأسهم رئيس الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية البطريرك ثيوفيلوس الثالث، ورئيس أساقفة الكنيسة الإنجيلية الأسقفية المطران حسام نعوم، ليصبح بعدها زيت “الميرون” المقدس
لماذا الزيت؟
وعن “زيت الميرون المقدس” يقول الأب عبد الله يوليو إنه “زيتٌ صُليّ عليه طلبا للبركة من الله، في الأسبوع العظيم قبل عيد الفصح، حيث يتلو البطريرك عليه دعاء خاصا”. وأضاف “الزيت واسطة ورمز ليشعر الإنسان بالبركة، شأنه شأن الماء التي يقدس ويعمّد بها المؤمنون، والزيت في تقاليدنا يمسح به على النبي والملك والكاهن لتكريسهم وتقديسهم”.
وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح يوليو أن كنيسة القيامة اختيرت لتكون مكان تقديس الزيت، لأنها “أهم كنيسة في العالم، وتذكر المسيحيين بصلب السيد المسيح وقيامته في اليوم الثالث من بين الأموات، أما الكاثوليك والأرثوذكس الشرقيون فيعتقدون أن قبر المسيح موجود في كنيسة القيامة”.
وعُطّر زيت الميرون بالسمسم والورد والياسمين والقرفة والعنبر وزهرة البرتقال، أما تركيبته الرئيسة فتقارب الوصفة القديمة التي استخدمت في صنع الزيت، وقت تتويج والدة تشارلز الثالث الملكة إليزابيث الثانية عام 1953 وأسلافها منذ عام 1066، في ذات الكاتدرائية البريطانية
لحظة مقدسة
يقول الناطق الرسمي لإعلام كنيسة الروم الأرثوذكس المقدسية عيسى مصلح “الزيت المقدس سر من أسرار الكنيسة السبعة، حيث يرسم الكاهن إشارة الصليب على جبين المؤمن ووجهه ولحيته ويديه وصدره، كما سيفعل رئيس أساقفة كانتربري نيافة المطران جاستين وويلبي”.
وأضاف مصلح للجزيرة نت أن دهن الملك سيكون خفيا من وراء حجاب، متابعا “لأن هذه اللحظة تاريخية مقدسة بينه وبين الرب”.
أهمية الزيت وعلاقته بمدينة القدس
على الرغم من أن الوصفة الجديدة تختلف عما كانت عليه الخلطة في الممارسة التي تعود إلى عهد الملك تشارلز الأول في النصف الأول من القرن السابع عشر، فإن تشارلز الثالث قرر أن يحظى بمراسم التقليد الرسمي كاملة خلفا لأسلافه وتكريما لهم.
ويأتي تقليد المسح بالزيت المقدس الذي يتم جلبه خصيصا من القدس، من نصوص “سِفر الخروج” في الكتاب المقدس. فقد تم تركيبه من قبل بطريرك القدس ورئيس الأساقفة الأنجليكاني فيها، في كنيسة القيامة التي بنيت في الموقع الذي يعتقد المسيحيون أن عيسى عليه السلام مات ودُفن فيه.
لذلك يُعد المسح بالزيت لحظة مقدسة للغاية ضمن المراسم، لدرجة أنه لم يُسمح لكاميرات التلفزيون بتصويرها عام 1953 أثناء تتويج إليزابيث، كما أن هناك تكهنات بشأن ما إذا كانت المسحة ستُعرض على التلفزيون أثناء تتويج الملك تشارلز الثالث أم لا.
قيمة عائلية للملك البريطاني الجديد
يملك التقليد رمزية عائلية للملك تشارلز الثالث أيضا فضلا عن القيمة الدينية، إذ تعود القصة للأميرة أليس، أميرة باتنبرغ التي كانت متزوجة من الأمير أندرو، أمير اليونان والدانمارك، وكان لهما 5 أطفال، بينهم الأمير فيليب الذي أصبح زوج الملكة الراحلة إليزابيث الثانية.
وبحسب صحف بريطانية، بعد التغلب على مآسي العيش في المنفى والمرض العقلي والانفصال والترمل، أسست الأميرة في النهاية مجموعتها الخاصة من الراهبات في اليونان، قبل أن تتمكن من عيش سنواتها الأخيرة في قصر باكنغهام حتى وفاتها عام 1969.
كانت أمنيتها الأخيرة أن تُدفن في دير القديسة مريم المجدلية على جبل الزيتون بالقدس، إلى جوار قبر خالتها الروسية الدوقة الكبرى إليزابيث فيودوروفنا، حفيدة الملكة فيكتوريا التي اغتالها البلاشفة في سيبيريا عام 1918.
كان تحقيق أمنيتها النهائية محفوفا بالمسائل السياسية والدبلوماسية والأمنية، لذا لم يتم نقل جثمان الأميرة أليس من سرداب قلعة وندسور الملكية إلى الكنيسة المحاطة ببساتين الزيتون في القدس إلا بحلول عام 1988.
تغيير وصفة الزيت لكي تناسب العصر الجديد
في العادة، كان يتم تحضير الزيت المقدس من خليط تقليدي من التوابل والزيوت العطرية النباتية والحيوانية. وفي هذه المرة، تم استخلاص الزيت باستخدام الزيتون المقطوف من بساتين جبل الزيتون حول دير الصعود، وكنيسة مريم المجدلية، وهو مكان دفن جدة تشارلز، الأميرة أليس اليونانية.
ووفقا لتقرير بوكالة “رويترز”، فقد تم تعطير الزيت بالسمسم والورد والياسمين والقرفة والجاوي وزهر البرتقال، بينما كان الزيت في السابق يحتوي على غدد قط الزباد والعنبر المستخرج من بطانة معدة الحوت إضافة لإفرازات غزال المسك.
ويعود سبب هذا التغيير لرغبة العائلة البريطانية المالكة بأن تتجنب الصراع مع منظمات حقوق الحيوان. لكن بالرغم من هذه المحاولة، لا تزال مراسم التتويج الملكي “معادية للحيوانات”، إذ يتم تصميم العديد من الأردية والحلي الملكية من كميات كبيرة من فرو الحيوانات.
ومن المفترض أن يكون نقل الزيت وشحنه إلى العاصمة البريطانية لندن قد تم بشكل سري قبل يوم التتويج في 6 مايو/أيار، وهناك قام رئيس أساقفة كانتربري -الذي سيشرف على مراسم التنصيب- بمباركته.
أهمية الزيتون
وعن أهمية شجرة الزيتون وزيتها بالمسيحية، فقد وردت في 140 موضعا في الإنجيل سواء داخل العهد القديم أو الجديد، كما يرمز غصن الزيتون في سفر التكوين إلى نهاية الطوفان في عهد النبي نوح، كما أن المسيح مسح بالزيت.
ووفق الأكاديمي حسيب شحادة، فإن أحد معاني لفظ “المسيح” -باللغة الآرامية والعبرية- يعني المسح بالزيت المقدس في المعبد بغية التبريك والتقديس، كما أن شاؤول (طالوت) كان أول ملك مسح بأمر رباني، ثم مسح بعده الملكان النبيان داود وسليمان”.
أما رئيس أساقفة كانتربري الذي سيدهن تشارلز الثالث بالزيت المقدس، فقال “زيت التتويج يعكس ارتباط عائلة الملك الشخصي بالأرض المقدسة واهتمامه الكبير بشعوبها، منذ أن بدأت التخطيط للتتويج، كنت أرغب في إنتاج زيت جديد من جبل الزيتون، لأوضح الرابط التاريخي العميق بين التتويج والكتاب المقدس والأرض المقدسة”.
وبحسب موقع العائلة البريطانية المالكة، أضاف رئيس أساقفة كانتربري “منذ القدم وحتى يومنا هذا، كان الملوك يُمسحون بالزيت من هذا المكان المقدس.