المحاميد الغزلان- تشير الساعة إلى حوالي الخامسة مساء من أحد أيام يناير/كانون الثاني الباردة، حين تنتهي السيدة إيطو (35 سنة) من ترتيب خيمتها وسط الصحراء قرب وادي النعام ضواحي قرية المحاميد الغزلان بالجنوب الشرقي للمملكة المغربية، منتظرة عودة زوجها الراعي.

ما أن يلوح خياله المتراقص خلف الكثبان الرملية بلباسه الصحراوي الأزرق المميز، وبعمامته التي لا تخطئها عينها من بعيد، حتى يلفها شعور بالأمان، يزداد رسوخا بعد رؤية قطيعه وهي تعود أيضا إلى مرقدها بعدما أن رعت وارتوت بما جادت به الأرض والسماء من خيراتهما.

قبل ذلك، كانت أيطو قد حرصت على جمع الحطب وجلب الماء من بئر بعيدة، ثم قامت بتحضير وجبة شهية باستخدام الخضراوات والعجائن المتوفرة لديها، بالإضافة إلى الخبز اللذيذ الذي طهته على الرمال الساخنة، وكأنها تستعد لحظة حميمية تجمع أفراد أسرتها.

تنتمي هذه السيدة الصحراوية إلى أسر الرحل في المغرب، وتقول للجزيرة نت بكل عفوية إنها تشعر الآن بالراحة وهي تسترجع تفاصيل يومها الذي مر بدون أحداث تذكر، تراقب ابنها محمد (4 سنوات) الذي يملأ المكان بشغبه الطفولي، وابنتها حسناء (12 سنة) التي لا تخفي ضجرها وهي تعيد شحن هاتف والدتها مرة أخرى باستخدام لوحة صغيرة للطاقة الشمسية.

إرشاد وترحيب

يعتمد الرحل على شخصية “البواه” أو “أنمير” (الكشاف الصحراوي) لاستكشاف أماكن نصب الخيام. يتميز هذا الكشاف بالذكاء والنباهة وسرعة البديهة وقدرة التواصل الجيدة، حيث يبحث عن أفضل المواقع ليرشد إليها الآخرين. يعتمد على خبرته ومعرفته الدقيقة بالتضاريس والنجوم، بالإضافة إلى استخدام وسائل الاتصال الحديثة، كما يوضح الباحث المغربي نور الدين بوكراب في حديثه للجزيرة نت.

أما إذا كنت ترغب في لقاء الرحل وسط الصحراء والتعرف على قصصهم المليئة بالعبر، فلا بد من وجود دليل مدرب قادر على جعل رحلتك آمنة. وقد تصادف راعيًا في الطريق وهو يستخدم دراجة نارية لإعادة ناقة تائهة، يتوقف قليلاً ليدلك على مواقع خيمات الرحل المتباعدة.

من بين النعام التي تعيش في الوادي، والتي تم إعادة استيطانها في إطار مشروع بيئي ضمن محمية، تستقبلك واحدة تقدم فقرة راقصة تضفي نكهة خاصة على مغامرتك، وقد يحالفك الحظ لرؤية قطيع من الغزلان البرية.

بعد عناء طويل، نصل إلى خيمة إيطو التي علمت بوصول الزوار من زوجها الغائب عبر الهاتف المحمول. حضور سيدة بيننا يخفف من خجلها الشديد في أثناء حديثها باللهجة المغربية الدارجة مع لمسات أمازيغية، بينما تخفي وجهها بشال صحراوي أسود.

بتواضع طبيعي، ترحب إيطو بكل من وصل، ثم تنهمك بروية كبيرة في إعداد شاي أحمر بنكهة “علك” أشجار الطلح الشامخة القريبة. الشاي شديد الحلاوة وتعلوه كشكوشة سميكة، ما يعتبر رمزًا للترحيب بالضيوف ودليلًا على فن العيش في الصحراء.

آلام

طيلة حوالي 15 سنة من زواجها بأحد أبناء الأسر الرحل الذين يتحدثون العربية، تنقلت إيطو ذات الأصول الأمازيغية من مكان إلى آخر لمسافات مئات الكيلومترات، برفقة أسرتها الصغيرة أو مع عائلات أخرى. وبفضل تجربتها، حرصت على أن تكون لكل خيمة تنصبها وظيفة خاصة: واحدة صغيرة للطبخ، وأخرى مماثلة لترتيب المؤونة، وثالثة متوسطة للنوم، ورابعة كبيرة للضيوف.

تروي ببساطة وبدون تكلف، وهي تقدم كؤوس الشاي لزوارها وتواصل تحريك المجمر للحفاظ على النار مشتعلة، أن “الأرزاق” وحدها هي من قادتها إلى هذه المناطق البعيدة، بعدما كانت تعيش في أسرة مستقرة على بُعد مئات الكيلومترات بين أشجار الزيتون المثمرة.

يؤلم إيطو عدم قدرتها على إرسال طفليها إلى المدرسة، إذ بالكاد تستطيع ابنتها فك بعض كلمات اللغة العربية باستخدام هاتفها المحمول، بينما لا يمكن لابنها مفارقتها أبدًا.

لكن أكثر ما يشغل بالها بعد المستشفى، هو عندما يمرض أحدهما بشكل مفاجئ، حيث لا يخفف آلامه سوى بعض الأدوية البسيطة التي تمتلكها. تتذكر بحسرة كيف وضعت أطفالها بمساعدة جاراتها، وتؤلمها ذكرى فقدان رضيعتها بعد أسبوع من ولادتها، بعدما اشتد عليها المرض ولم تتمكن من إنقاذها.

تعايش

أسرة إيطو تجسد قصة فريدة من التعاون والتعايش بين الأسر الرحل والمستقرة في المغرب، كما يوضح الباحث بوكراب.

ويشير إلى أن الرحل يشكلون حلقة وصل بين الثقافات والعادات المختلفة، لافتًا إلى أن ارتباط المستقرين بالأرض من خلال الزراعة والفلاحة يقابله لدى الرحل انجذاب خاص نحو السماء، التي يرونها مصدر إلهام ورحمة، وأيضا هداية في رحلتهم المستمرة بحثا عن الرزق واستمرار الحياة.

ويتمتع الرحل بسلامة الفطرة وذكاء اجتماعي متميز، صقلته الظروف القاسية للصحراء، كما يوضح المتحدث. وهذا يظهر بوضوح في الأدوات التي يستخدمونها، سواء كانت من صنع أيديهم أو التي يحصلون عليها من المناطق التي يمرون بها، وكلها تُستخدم بمهارة في حياتهم اليومية.

عندما يخرج زوج إيطو لرعي ماشيته، يكتفي بوجبة بسيطة من الحليب والتمر المكسر، تكفيه ليوم كامل قبل أن يعود إلى خيمته بعد يوم طويل أو ربما عدة أيام.

وعند نصب خيمته، يستخدم مواد طبيعية محلية من وبر وصوف لصناعة عازل طبيعي يحميه من حرارة الصيف وبرودة الشتاء القارسة، ويحرص على توجيه الخيمة بطريقة تقلل من تأثير الرياح الصحراوية، سواء كانت شرقية حارة أو غربية ماطرة.

وعندما يذهب إلى السوق لبيع جمل أو ناقة، يحرص على شراء ما يكفيه من المؤونة لبقية فترة مكوثه في المكان.

أما إيطو، فتملأ وقت ابنتها بخياطة أو غزل بعض الألبسة التي قد تنال إعجاب السياح الذين يمرون بجانبها في بحثهم عن متعة المغامرة في الصحراء الشاسعة.

آمال

لا تعلم السيدة إيطو أن أسرتها هي واحدة من بضع آلاف فقط ما زالت تحافظ على نمط حياة الرحل، وهو نمط يثير اهتمام الباحثين، بل ويقلقهم أيضًا.

لم تُصدر المندوبية السامية للتخطيط نتائج إحصاء 2024 الخاص بالرحل، لكن مسؤولاً في التواصل يتوقع في حديثه للجزيرة نت استمرار تناقص أعدادهم.

ويضيف أن هذا النمط من العيش يشكل نسبة ضئيلة (0.7 في الألف) من إجمالي سكان المغرب، وأن أعداد الرحل قد انخفضت بنسبة حوالي 63% في العقد الأخير (حيث بلغ عددهم 25 ألفا و274 عام 2004، مقابل 68 ألفا و540 عام 2014). ويتمركز 95% منهم في 4 مناطق تقع شرق وجنوب الصحراء، وهي درعة تافيلالت، وكلميم واد نون، والعيون الساقية الحمراء، وسوس ماسة.

يشير بوكراب إلى أن البحث عن تحسين ظروف الحياة في مجالي التعليم والصحة، إلى جانب تكرار فترات الجفاف، قد ساهم في تعزيز الميل نحو الاستقرار، لكن من لا يزال متمسكًا بنمط حياته يرى فيه كل شيء.

تبدأ الشمس في الميل نحو الغروب، بينما تمحو ريح خفيفة آثار العابرين، لتعيدها الصحراء إلى حالتها العذرية الأولى، معلنة استعدادها لاستقبال قصص جديدة.

أما من يستمع إلى ختام حديث إيطو، فيدرك أن سلامة فطرتها ونقاء قلبها يجعلانها تواصل خدمة زوجها وتربية ابنيها، وتظل تأمل أن يفتح “القدر” أمامهم الطريق نحو مستقبل أفضل من حاضرهم.

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version