في منطقة القُرْنَة الأثرية بمدينة الأقصر التاريخية بمصر، وفي أحضان جبانة طيبة التي دُفن بها حكام مصر القديمة، والغنية بمئات المقابر وعشرات المعابد، كان الفنانون المصريون القدماء، يقومون بنحت المقابر في صخور جبل القُرْنَة، وتشييد المعابد وتزيينها بالتماثيل واللوحات والرسوم والنقوش الفرعونية.

وتحكي تلك اللوحات والنقوش الفرعونية تفاصيل الحياة اليومية في مصر القديمة، وانتصارات الملوك، والنصوص الدينية، وأسرار علوم الفلك والعمارة وشتى الفنون التي تفرد بها قدماء المصريين.

وقد تحوّلت تلك المعابد والمقابر إلى مناطق سياحية يتوافد السياح لزيارتها من كل قارات العالم، وذلك بفضل احتفاظها بنقوشها وألوانها الزاهية حتى اليوم.

وسيرا على خطى أجدادهم من فناني مصر القديمة، الذين كانوا يقطنون في تلك المنطقة التي تعرف اليوم بـ”دير المدينة”، يواصل عشرات الفنانين في منطقة القُرْنَة الواقعة في قلب جبانة طيبة القديمة غربي مدينة الأقصر، الحفاظ على فنون أجدادهم وإحياء حرفهم وصناعاتهم التي قاومت الزمن وظلت باقية.

وأقاموا الورش الفنية والمعارض التي تُعرف بمصانع الألباستر، ويبدعون في نحت التماثيل واللوحات الفرعونية التي يستلهمونها من معابد ومقابر الأجداد، وبيعها لزوار معابد ومقابر المنطقة من سياح العالم.

فبالقرب من منطقة دير المدينة التي تحوّلت إلى مزار يؤرخ لتفاصيل إقامة أول مدينة للعمال والفنانين في التاريخ، والتي يعود تاريخ إقامتها لعصر الدولة المصرية الحديثة 1570 – 1070 قبل الميلاد، قام الفنانون الفطريون المعاصرون من سُكان جبانة طيبة القديمة بتشييد ورش ومصانع ومعارض لنحت ورسم التماثيل واللوحات والقطع الفنية الفرعونية.

ويستطيع زوار مدينة الأقصر ومقابر معابد جبانة طيبة القديمة اقتناء التماثيل واللوحات والتحف، ورؤية سُكان المنطقة من الفنانين الفطريين وهم يقومون بنحتها ونقشها وتلوينها بذات الطريقة التي استخدمها أجدادهم، وذات الأدوات وذات الألوان التي استخدمها المصريون القدماء بأوامر من ملوك وملكات ونبلاء ونبيلات الفراعنة قبل آلاف السنين.

أدوات من التاريخ

وليس غريبا، أن هؤلاء الفنانين الفطريين الذين توارثوا فنون أجدادهم، وتعلموا نحت التماثيل الفرعونية والرسم والنقش على اللوحات الحجرية، من الأجداد والآباء، يستخدمون أدوات وألوان بسيطة كتلك التي استخدمها أجدادهم وإن وجد تغيير فهو تغيير طفيف، ليؤكدوا على أنهم يُحيون فنون أجدادهم بذات الطرق والأدوات القديمة.

ولمنطقة القُرْنَة تاريخ فني يعود لآلاف السنين، حيث عرفت المنطقة فنون النحت، والرسم، والنقش الغائر والبارز منذ عهود الفراعنة.

وقد تزيّنت معابد المنطقة ومقابرها الأثرية بمئات التماثيل واللوحات والجداريات التي نحتها ونقشها ورسمها الفنان المصري القديم، الذي توارث سُكان منطقة القُرْنَة ما عرفه من فنون.

وكما تدلنا كُتب الآثاريين وعلماء المصريات، فقد أبدع المصريون القدماء في تغطية جدران وأسقف المقابر والمعابد برسوم نُقشت على الأحجار، بعضها حفرت بارزة وبعضها حفرت غائرة، فيما وجدت النقوش البارزة مزخرفة بالألوان، وهي ذات الطريقة التي يسير عليها الفنان الفطري الذي يسكن قرب معابد ومقابر أجداده في منطقة القُرْنَة.

وتُنحت التماثيل التي تُجسد ملوك وملكات مصر القديمة، وما عرفه المصري القديم من آلهة وحيوانات وطيور مُقدسة، بجانب لوحات بأحجام مختلفة نقوشها بارزة أو غائرة وقد نُقشت عليها مناظر من الحياة اليومية بمصر القديمة، ونُقلت على بعضها مشاهد تُزين مئات المقابر التي تنتشر في أحضان جبل القُرْنَة.

ويُباع كل ذلك للسياح الذين يتوافدون بالآلاف للاستمتاع برؤية آثار ملوك وملكات ونبلاء ونبيلات مصر القديمة، والتعرف على جوانب من تلك الحضارة التي احتلت مكانة متقدمة بين الحضارات الإنسانية، وعرفت الكثير من العلوم والفنون.

وإذا كان الفنان المصري القديم قد برع في نحت التماثيل الضخمة من الحجر الرملي أو الحجر الجيري، أو أحجار الغرانيت، كتلك التي وجدت في معبد الرامسيوم الذي شيّده الملك رمسيس الثاني في القُرْنَة -غربي مدينة الأقصر- فقد برع فنانو القُرْنَة في نحت تماثيل بأحجام مختلفة بعضها لا يتجاوز طوله 15 سنتيمترا، وبعضها يتجاوز الـ 1.5 متر.

وقد اهتم الفنانون الفطريون في منطقة القُرْنَة، بنحت التماثيل على غرار اهتمام الفنان المصري القديم بها، حيث وجد فنانو مصر القديمة في تلك التماثيل تجسيدا للأرواح التي سكنت في أجساد الفراعنة.

ويُدهش السياح الذين يقومون بزيارة معابد ومقابر منطقة القُرْنَة الأثرية من تلك الأعمال الفنية التي نحتها ورسمها الفنانون الفطريون من أبناء المنطقة، والتي تُعرض في تلك المعارض المنتشرة على جانبي الطرق المؤدية للمقابر والمعابد الفرعونية التي يتوافد عليها السياح، لشراء التحف والهدايا التذكارية بألوانها المتفردة التي تدهش هؤلاء السياح.

وكما يروي لنا من التقيناهم من فناني المنطقة، فإنهم استفادوا في إعداد الألوان التي يلونون بها نقوش لوحاتهم، وحتى التماثيل التي يقومون بنحتها، من طريقة أجدادهم من فناني مصر القديمة، كما يروي كتاب “معجم الحضارة المصرية القديمة لـ”جورج بوزنر وآخرين” الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ويذكر الكتاب أن أعواد الغاب ذات الأطراف المبرية والفراجين الصغيرة المصنوعة من ليف النخيل وأقداح الماء، ولوحات مزج الألوان المصنوعة من الأصداف أو قطع الفخار المكسورة، كانت هي عدّة الفنان المصري القديم للرسم على الجدران بالأصباغ المحلولة في الغراء وزلال البيض.

كما يشير الكتاب إلى أنه ليحصل الفنان على الألوان المطلوبة التي يرسم بها تارة، ويلوّن بها تارة أخرى النقوش الغائرة على جدران المعابد والمقابر، كان يمزج الألوان الأساسية التي كانوا يحتفظون بها على هيئة أصابع من المسحوق، أو يضع لونا فوق آخر.

ويلفت إلى أن الألوان التي عرفها الفنان المصري القديم هي الأسود، من الكربون، والأبيض من الجير، والأحمر والأصفر من أكاسيد الحديد، والفيانس المسحوق للأزرق والأخضر، كما استعمل الألوان ذات المواصفات الخاصة للكائنات المقدسة، والألوان النموذجية والتقليدية للمخلوقات البشرية.

صوّر الفنان المصري القديم -كما يقول الكتاب- الرجال باللون البني المائل إلى الحمرة والنساء بلون أفتح، واستخدم الألوان الصناعية لمحاكاة ألوان الأحجار والأخشاب إلى غير ذلك مما عُرف عن براعة فناني مصر القديمة الذين توارث سكان منطقة القُرْنَة الكثير من فنونهم بكل ما حملته تلك الفنون من أسرار وما تفرّدت به من براعة.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version