لا شك أن المهنية هي عمود العمل الإعلامي والرافد الأساسي له، ومن امتلك المهنة فقد امتلك سرها وجوهرها حال عمله، لكن من يمتلك إلى جانب هذه المهنية بُعدا نظريا فإنه سيمتلك المستقبل والجمهور والتأثير، وسيكون قادرا على قراءة الأحداث نتيجة وضع المهنة في سياق العلم. هذا الأمر تفعله كبريات شركات الإعلام عالميا، ومن ذلك في محيطنا العربي، تعمل أبرز قناتين على التصارع في حلبة النظريات لتوظيفها في عملهما وهما قناتي “العربية” و “الجزيرة”.
وبدون الدخول لفلسفة النظريات وتعقيداتها والتي قد لا يفهمها قطاع عريض من الناس، فإن توظيف النظريات ينعكس على التوجهات التحريرية واتباع سياسات إعلامية محددة، مما يجعل هناك فوارق جوهرية في التغطيات وإنتاج المحتوى والغاية التي أُنشأت كل قناة من أجلها.
من النظريات ذات التأثير الواضح على عمل القناتين هي نظرية “التبعية الإعلامية”، ففي وقت تقوم فيه قناة العربية بدعم الأنظمة العربية لمساعدتها على الاستقرار والنمو والازدهار، تقوم قناة الجزيرة بتقديم نفسها كمنبر حر ومستقل وتقدم في الغالب مواقف معارضة نتيجة السياسات التي تنتهجها، وهذا يعني أنها تعمل على تعزيز العمل الإعلامي وإن كان حادا على حساب الاستقرار والتطور والنماء، وهذا يظهر استخدامها لنظرية الصحافة الراديكالية والتي تتبناها “الجزيرة” وظهر ذلك جليا في تغطيتها لأحداث الربيع العربي ٢٠١١م مع تقديم نفسها كمنبر حر لمنتقدي الأنظمة.
ولا تتوقف استخدام النظريات عند هذا الحد بالنسبة للمؤسسات الإعلامية الكبرى العابرة للقارات بل تستخدم نظريات أكثر للوصول إلى قطاع كبير من الجمهور للتأثير عليه والاستحواذ على رأيه، ولذلك تعد نظرية “حارس البوابة” إحدى النظريات التي تطبقها قناة “العربية” أكثر من الجزيرة استنادا لدورها في نشر المحتوى الإعلامي الداعم للاستقرار في المنطقة، فهي تقوم بتصفية المعلومات والأخبار لدعم الدول وتنحاز في بعض الأحيان للسياسات الرسمية من أجل أن يكون دورها داعما للازدهار. وبعكس ذلك، تقوم الجزيرة بنشر القضايا المثيرة للجدل وتمنح كل صاحب صوت حقه في الإدلاء برأيه تحت شعار “الجزيرة، منبر لا منبر له”، وتسمح لتلك الأصوات بانتقاد الدول وربما بحدة، لكنها فيما يتعلق بدولة قطر أو حلفائها فإنها تطبق بشكل واضح هذه النظرية لتصفية المعلومات لدعم توجهات الدوحة وحلفائها.
ولعل هناك نظريات تتعلق بالإعلام التنموي والمسؤولية الاجتماعية تتفوق فيها قناة العربية على الجزيرة، حيث تعمل العربية على تطبيق الإعلام التنموي بشكل مميز من خلال تغطيتها للشؤون الاقتصادية والتنموية في دول الخليج العربية وتظهر أبرز ما وصلت إليه من نماء ورخاء بما في ذلك تغطية الفعاليات والأحداث، مع حرصها على اختيار ألوان أثناء البث تعكس الهدوء والاستقرار في المنطقة. لكن الجزيرة تهتم لحد ما بالتغطية الاقتصادية والتنموية ولكنها تركز بشكل أكبر على القضايا السياسية والاجتماعية وتعمل في بعض الأحيان على انتقاد السياسات الاقتصادية والتنموية في بعض الدول العربية وتعتمد كثيرا على إظهار اللون الأحمر لجذب الانتباه.
ولعل هناك نقاط يمكن التعليق عليها وتحتاج لمساحة أكبر تتعلق بنظرية الهيمنة الإعلامية وغيرها، توضح بشكل كبير قيام “العربية” بتقديم سياسات إعلامية تجعل الأنظمة العربية في حالة من القوة والحضور لضمان الاستقرار الذي ينشده ويريده المواطن في دول الخليج والدول العربية والذي أصابه التعب والوهن جراء الأزمات التي تعصف بالمنطقة منذ ١٠٠ عام، وهو خط أرى يجب اتباعه للنهوض بالمنطقة، لكن “الجزيرة” تظهر في كثير من الأحيان متحدية السلطات وداعمة لكل صوت ولو كان صغيرا أو بسيطا أو متطرفا ومنحه مساحة التي هي بالتأكيد قد تثير الجدل والحنق والسخط لدى المتلقي العربي.
بقي القول، إن النظريات الإعلامية قد تمثل ٢٠٪ في عالم الإعلام بينما تمثل المهنية قرابة ٨٠٪، لذلك قد تجد شخصا محترفا في مجال الإعلام لم يدرسه، لكن الذين احترفوه ودرسوه تكون قوتهم هائلة في التأثير. لذلك فإن قناتي “العربية” و “الجزيرة” قد استغلت النظريات الإعلامية بشكل واضح لزيادة تأثيرها ودعم تفوقها وحضورها، فبينما تميل الجزيرة لتبني الصحافة الراديكالية والانفتاح الإعلامي مع تقليل تأثير التبعية الإعلامية وخصوصا على مستوى إنتاج المحتوى الإعلامي، فإن “العربية” تعتمد بشكل أكبر على نظريات تعزز من الإعلام التنموي والمسؤولية المجتمعية لدعم الاستقرار في المنطقة وتبني طريق الازدهار والنماء.
باحث دكتوراه في الإعلام الرقمي بجامعة كمبلوتنسي مدريد، إسبانيا.