بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم
جرت عادة البلدان على الاهتمام بذكرى رجالها الذين قدموا لها – طوال حياتهم – خدمات مهمة، فانتفعت بها وانتفع أهلها كذلك، فهم يستحقون الإشادة بهم وإحياء ذكراهم. ونحن – ولا شك – قد مرت ببلادنا أعداد كبيرة من المواطنين الذين كان لهم دور مهم في مجالات كثيرة من مجالات الحياة، ولاسيما منها ما يتصل بمجال التعليم. فقد بذلوا منذ بدايات تاريخ بلادنا جهودا كبيرة أدت إلى انتشار المعرفة، وحصول الكويت على متخصصين من أبنائها في كل فروع العلم حتى صار منهم من تولى المهام التي كان يقوم بها غيرهم، وهم اليوم عنوان جيد لاهتمام وطنهم بنشر المعرفة في أرجائه، وحرصه على بذل كل نفيس في سبيل تمكين أبناء البلاد من أداء خدمة الوطن، كل في الجانب الذي تخصص به، وفي كل عمل يحتاج إلى متخصصين بأدائه، متقنين له. ولئن كان من المعروف أن أول مدرسة نظامية نشأت في الكويت كانت هي المدرسة المباركية التي ابتدأت الدراسة فيها منذ السنة الدراسية 1911م-1912م، ثم المدرسة الأحمدية التي تم إنشاؤها في سنة 1921م.
كما أنه من المعروف أن أول جهاز مشرف على التعليم في صورته الحديثة عندنا كان قد أنشئ في سنة 1936م، وهو مجلس المعارف الذي قاد مسيرة التعليم في الكويت فترة طويلة من الزمن وأنتج من ثمار عمله الطويل كثيرا من الأعمال المهمة مما تنعم به بلادنا في الوقت الحاضر. إذا كان ذلك كله قد حدث فإن ما حدث قبل ذلك، وبالتحديد منذ نشأة البلاد أمر آخر: فمن المعروف أن النظام الحكومي الكويتي قد بدأ في سنة 1613م، وكان رأسه – آنذاك – هو أمير البلاد، الذي سارع إلى اختيار قاض يفصل بين الناس فيما يختلفون فيه، ولقد صار هذا القاضي – بالإضافة إلى عمله – معلما، فكان يقدم لأبناء البلاد الدروس، حتى صار عمله هذا بذرة نشأت منها المدارس الأهلية التي تعلم الأطفال فيما بعد، وبعمله هذا وجدت سبيلها إلى الوجود، ثم صارت تستقطب أبناء البلاد إلى أن تطورت الكويت بعد أن سلكت مسلك التعليم النظامي بقيام المدرسة المباركية، ثم قامت بنشر المدارس في أرجائها، وأرسلت البعثات من أبنائها إلى الخارج للحصول على مزيد من العلم بمختلف تخصصاته.
ولكن المدارس الأهلية لم تتأخر عن القيام بما كانت تقتضيه المرحلة التي كانت تستقبل تلاميذها خلالها، وقد خرجت – بالفعل – من أبنائها من تعلم تعليما جيدا بمقاييس تلك الأيام، فصار منهم أصحاب مدارس يتولون فيها تعليم الصغار كل ما يحتاجون إليه من معرفة وبخاصة – من ذلك – القراءة والكتابة والحساب وتلاوة القرآن الكريم قبل كل شيء.
إذن، فقد كان لهؤلاء – رجالا ونساء – دور في حركة نشر التعليم في بلادنا، ومن حقهم علينا أن نذكرهم، فلا ندعهم يضيعون قبل أن يلجوا صفحات تاريخنا، فيطويهم النسيان على الرغم من الدور البارز الذي قاموا به في وقت الحاجة إلى أمثالهم.
وهنا عرض لنماذج من هؤلاء نجد فيهم أربعة من المعلمين ومعلمة واحدة، نقدم به سطورا عنهم حتى لا يطويهم النسيان وحتى تكون هذه بداية لإحياء ذكرى كل من أسهم في نشأة التعليم ورقيه منذ نشأة الكويت.
٭ ٭ ٭
1 – الأستاذ محمد زكريا الأنصاري، معلم كويتي قديم، وهو من أسرة عريقة في مهنة التعليم، وكان له أثره في تعليم عدد كبير من أبناء الكويت، وهو شقيق أستاذنا عبدالله زكريا الأنصاري المعروف بأدبه وثقافته وطيب عنصره ورقة طبعه.
والأستاذ محمد زكريا الأنصاري ممن سعدت بالعمل معهم، فقد كان ناظرا لمدرسة الغزالي، وكانت هذه المدرسة نموذجية في الوقت الذي كان فيه مسؤولا عنها، وكنت أزوره أثناء عمله، وأرى مدى اهتمامه بهذا العمل، وحب تلاميذه له، واقتداء مدرسي المدرسة به في أسلوبه العملي وفي حسن تعامله مع الطلاب وأولياء الأمور.
ولقد كنت أرى عنده بعض آباء الطلاب يأتون لمتابعة دراسة أبنائهم، فيرون في هذا الناظر الاهتمام التام بالأبناء، والحرص على أن يتقنوا كل ما يتلقونه من أساتذتهم، فيخرج هؤلاء الآباء وهم في منتهى السعادة، وقد أدركوا أن أبناءهم في يد أمينة ترعاهم وتهتم بمستقبلهم.
وقد لاحظت أثناء زياراتي له أن تلاميذ المدرسة لم يكونوا من سكان المنطقة التي كانت فيها وهي «الشويخ»، ولكنهم يأتون إليها من كل مكان رغبة في الخدمة التربوية الحقة التي يحصل عليها كل تلميذ من تلاميذها.
ولم يكن تكرار زياراتي لهذا الناظر الناجح في عمله لكي أراقب ما يقوم به كما يفعل الرؤساء عادة، ولكني كنت أزور المدرسة من أجل الالتقاء به. فقد كان رجلا فاضلا يشعر المرء بالسعادة حين يجالسه ويستمع إلى حديثه، فيرى فيه عنوان النجاح الكامل في هذا العمل الذي به تربية أبناء الوطن بالعلم والأخلاق والمعاملة الحسنة، وفوق ذلك كله: القدوة الصالحة.
ولم يكن ما لاحظته من ملاحظات طيبة يتمتع بها الأستاذ الفاضل محمد زكريا الأنصاري إلا نتاجا كريما لأسرة كريمة، فوالده المرحوم الشيخ زكريا محمد الأنصاري كان رجل فضل، وإرشاد، وكان يحرص على نشر الوعي الديني بين أبناء المجتمع، وهو معروف لدى الجميع بهدوئه وإصلاحه بين الناس، ونصحه لمن يستحق النصح، وله مدرسة أنشأها على نمط المدارس الأهلية القديمة، واتخذ لها مقرا في سكة ابن دعيج المعروفة حتى الآن، وكانت من أبرز مدارس ذلك الوقت بسبب عناية هذا الرجل الفاضل بها، وبذله كل ما يستطيعه من جهد في سبيل تخريج طلاب نجباء، تستفيد منهم البلاد.
ولعل مما يدل على نجاح هذه المدرسة استمرار عملها في أداء رسالة التعليم مدة قاربت نصف قرن، وخرجت عددا كبيرا من أبناء الكويت، وكانت تعمل منذ سنة 1895م إلى سنة 1941م.
وبذلك، فإن الشيخ زكريا الأنصاري قد أنجز للكويت عملين مهمين، أولهما هذه المدرسة التي أفادت كل من درس فيها من أبناء البلاد. وثانيهما متابعته لتحصيل أولاده العلمي حتى صاروا على مستوى كبير من المعرفة والإحاطة بالثقافة والإدراك الجيد للأمور. ومما يذكر هنا أنني اخترت ثلاثة منهم فكتبت عنهم مقالا تحت عنوان: «الإخوة الثلاثة»، وكانوا هم الأساتذة: عبدالله زكريا الأنصاري، وعلي زكريا الأنصاري، وأحمد زكريا الأنصاري، ولم أتمكن من الحديث عن أخيهم الأكبر الأستاذ محمد لأنني في وقت كتابة هذا المقال كنت أبحث عن المعلومات التي استطيع أن ادرجها مما يتعلق بسيرته الذاتية، وقد آن الأوان لذكره الآن، وهذا بيان عنه بعد هذه المقدمة.
كان من المفروغ منه ان يتتلمذ الأستاذ محمد زكريا على والده، فقد كان الوالد في ذلك الوقت معلما ماهرا قديرا على إيصال المعلومات. واستوعب هذا التلميذ النابه كل ما علمه أبوه. ورغب الأب في أن يدفع بابنه إلى مزيد من التحصيل العلمي، فوجهه إلى المدرسة المباركية، ثم إلى المدرسة الأحمدية، وهما المدرسة النظامية الأولى ورديفتها المدرسة النظامية الثانية. فقد احب الوالد لولده ان يجمع بين التعليم الأهلي والتعليم النظامي.
ومما قيل إن دراسته في هاتين المدرستين كانت في الفترة المسائية، لأن مما هو معروف – قديما – أن أعداد طلابهما كانت كبيرة، واستيعاب الجميع من الصعوبة بمكان، فاتخذت كل مدرسة نظاما مسائيا لقبول مزيد من التلاميذ.
ومثله مثل غيره من أبناء الكويت في ذلك الوقت وجدنا الأستاذ محمد زكريا الأنصاري يتجه بعد دراسته إلى العمل، وكان هذا العمل هو ما كان يقوم به غيره من شباب ذلك اليوم، وهو الغوص على اللؤلؤ رغبة في الفائدة المادية التي تعود على القائمين بهذه المهنة.
ولكنه لم يستمر طويلا في مهنة الغوص على اللؤلؤ، فاتجه إلى المهنة التي رأى والده وهو يزاولها: مهنة التعليم.
وكان ان ابتدأ عمله هذا في مدرسة والده، التي درس فيها فترة من الزمان، ثم صار مسؤولا عن إدارتها نيابة عن والده، الذي صار من الصعب عليه مواصلة هذا العمل لكبر سنه، وكان الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري، والأستاذ يحيى زكريا الأنصاري يساعدان أخاهما في عمله هذا.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن المدرسة أقفلت كما ذكرنا في سنة 1941م.
والتحق الأستاذ محمد زكريا بعد ذلك بدائرة معارف الكويت، حيث صار مدرسا في المدرسة المباركية، ثم ناظرا لمدرسة خالد بن الوليد، وأخيرا صار ناظرا لمدرسة الغزالي. ومن هذه المدرسة وبعد خدمة طويلة في مجال التعليم تقاعد عن العمل في سنة 1984م.
ثم انتقل إلى رحمة الله في سنة 1988م.
وقد كرمته الدولة في عيد العلم سنة 1968م وأطلقت اسمه على مدرسة من مدارس وزارة التربية.
2 – هذه مدرسة قامت بدورها كاملا في تعليم عدد كبير من فتيات الكويت، اسمها: حليمة فرج مبارك العمر، وشهرتها مطوعة حليمة، كانت صاحبة مدرسة أهلية لتعليم البنات في منطقة القبلة. وقد حصلت على شهرة كبيرة لإخلاصها في عملها هذا، ولأنها خدمت في مجال التعليم مدة طويلة بحيث تعلم على يديها جيلان من بنات هذا الوطن.
وكانت قد ولدت بشرقي العاصمة في سنة 1890م، وتلقت دراستها في أحد كتاتيب المنطقة التي نشأت بها، فحصلت على معلومات وفيرة في تفسير القرآن الكريم وقواعد اللغة العربية والسيرة. وكان ذلك بعد أن أكملت قراءة القرآن وأجادت ذلك تماما.
وبعد أن استكملت استعدادها الدراسي وتزوجت انتقلت إلى حي القبلة. واتجهت إلى مهنة التعليم فقد أرادت أن يكون لها كتاب شبيه بذلك الكتاب الذي درست فيه عند بداية أمرها.
وكانت ربة بيت كبيرة كريمة، ولها زوج فاضل هو المرحوم صالح سالم التواجر. الذي شجعها على اتجاهها إلى التعليم، وأتاح لها لفرصة إشباع رغبتها في ذلك، عندما سمح لها بإقامة كتابها في بيت الزوجية.
بدأت المطوعة حليمة العمل بجد ونشاط، وزاد الإقبال عليها بحيث استقطبت عددا كبيرا من فتيات حي القبلة اللاتي درسن على يديها القرآن الكريم ومبادئ اللغة العربية والحساب والتفسير.
أما نظام العمل في الكتاب فهو مقسوم إلى قسمين أحدهما في الصباح ويبدأ عند السابعة صباحا، ثم ينتهي عند أذان الظهر، وأما القسم الثاني فإن بدايته منذ صلاة العصر إلى أذان المغرب. وكأن أوقات الصلاة والأذان لها مما يحدد مواعيد العمل في هذا الكتاب. وقد سارت المطوعة حليمة على هذا البرنامج طوال فترة عملها.
وكان هذا البرنامج المقرر للعمل في الكتاب منتظما طوال الأسبوع ما عدا يوم الخميس الذي يقتصر العمل فيه على الفترة الصباحية، ولم يكن هذا النظام خاصا بكتاب هذه المطوعة بل كان نظاما عاما لكل الكتاتيب العاملة في الكويت إبان ذلك الزمان.
ومما يجدر بنا ذكره أن التلميذات يحضرن معهن في يوم الخميس ما كان يطلق عليه «الخميسية»، وهي أجرة عمل المطوعة طوال الأسبوع، وتتكون الخميسية عادية من الأربع آنات إلى نصف روبية علما بأن الروبية تعادل بصرف اليوم 75 فلسا. وهي تتكون من 16 آنة.
وقد يرسل بعض الأهالي إضافة إلى ذلك بعض الهدايا العينية بعضها من المواد الغذائية.
وتتسلم المطوعة حليمة من تلميذاتها (العيدية) وهي مبلغ مشابه لما سبق، وذلك في عيد الفطر وعيد الأضحى المباركين.
وعلى الرغم من طول مدة عملها، وكثرة عدد تلميذاتها فقد كانت تقوم بالتدريس بمفردها دون مساعدة من أحد. ولكنها إذا قررت الذهاب إلى حج بيت الله الحرام فإنها كانت تنيب عنها في الكتاب أختها المطوعة مكية، وكانت فترة غياب المدرسة الأصلية لا يقل عن ثلاثة أشهر لأن رحلة الحج قديما كانت بوساطة الإبل وكانت تستغرق وقتا طويلا لبعد المسافة، ووعورة الطرق، وعندما تجد أن أختها المطوعة مكية غير مقتدرة – لسبب ما – على تلبية طلبها بالحلول محلها في الكتاب فإنها كانت تستعين بزميلة أخرى هي المطوعة فاطمة المطاوعة، وهي من سكان الحي الشرقي، فتحضر من أجل أداء هذه المهمة إكراما لزميلتها المطوعة حليمة.
وكما أشرنا إلى ذلك، فإن هذه المطوعة قد قامت بالعمل في كتابها مدة طويلة ودرست أعدادا كبيرة من التلميذات، حتى لقد قامت بتدريس فتيات كانت قد قامت بتدريس أمهاتهن من قبل ذلك، ومن أجل هذا فإننا ذكرنا فيما سلف أنها درست جيلين من بنات الكويت. وبذلت جهدها في إيصال المعلومات إليهن مما جعل لها حسن السمعة، ورغب الأهالي بإرسال بناتهن إلى كتابها.
ولقد كانت المطوعة حليمة امرأة حازمة قوية الشخصية، مهابة من تلميذاتها، فهن يحترمنها ويقدرن لها إخلاصها في تعليمهن، ولقد بقي ذكرها خالدا في أذهان الناس مدة طويلة، تعادل المدة التي أمضتها في عملها أثناء قيامها بالتدريس. فكانت تحظى باحترام النساء اللاتي كن من تلميذاتها لأنهن لم ينسين ما بذلته في سبيل تعليمهن.
وهكذا نجد أن من يخلص في عمله، ويؤدي واجبه على أكمل وجه، فإنه يحظى دائما بالتقدير والاحترام، ويقابل بالشكر على ما قدمه من عمل، وهذا هو ما حدث مع هذه المطوعة الكريمة حليمة فرج مبارك العمر. التي انتقلت إلى رحمة الله تعالى في اليوم الرابع عشر من شهر سبتمبر لسنة 1979م، بعد عمر قضته في خدمة نشر التعليم، وتدريس كتاب الله عز وجل، رحمها الله.
3 – ومن أهل الكويت الذين قاموا بجهد كبير في المجال الديني، وفي مجال التعليم، رجل شهدته في ماضي الأيام، وعرفت كثيرا عن استقامته، ومن حرصه على أداء هذين الواجبين اللذين اضطلع بهما.
هذا الرجل هو المرحوم حسين بن عبدالله حمد العجيمان، المولود في سنة 1897م. وكانت إقامته في الجهراء عندما كانت قرية نائية، وكانت في أمس الحاجة إلى قيام أبنائها بخدمتها، فقام أبو عبدالله بجزء مهم من ذلك، بل بجزأين مهمين هما خدمة الدين، ونشر التعليم، وقد ترك في هذين المجالين أثرا مهما لا يزال يذكر له.
كان رجلا كريم النفس، عفيفا، لا يحب المظاهر، يميل إلى التواضع، يجله الناس ويقدرون له ما يقوم به من مهمات ألزم نفسه بها.
كنت أرى ذلك الرجل الكريم عندما أمضى إلى الجهراء لزيارة بعض أهلي هناك، وقد لاحظت عليه الطيبة، وحسن السمت ولاحظت ما يحظى به من الاحترام من الأهالي، وهو يستحق ذلك، فإنه كان بالإضافة إلى حسن خلقه وطيبة نفسه معلما لكثيرين منهم، وواعظا لهم عند صلواتهم، ومن أجل ذلك فلا غرابة أن نجده ينال هذا التقدير والتوقير من كل من يصادفه أو يلتقي به في مكان ما.
درس حسين العجيمان لدى أحد الكتاتيب القديمة دون أن يعرف أحد اسم هذا الكتاب أو ما نسميه «المدرسة الأهلية»، ولكننا مما ظهر على هذا الرجل من الاستقامة والإتقان نستطيع أن نستدل على أنه قد تلقى تعليما جيدا على يد معلم قدير ومخلص لعمله.
ولقد تلقى أبو عبدالله دروسا كاملة في القراءة والكتابة، وقرأ القرآن الكريم، وحفظ كثيرا من السور الكريمة مع تفسيرها، وأصبح بعد ذلك مؤهلا للعمل الذي نذر نفسه له، فصار كما رأيناه معلما وواعظا.
ولقد اهتم بنشر التعليم في مقر إقامته، لأنه وجد في نشره ضرورة لا غني عنها لكل مواطن، وكان داعما للمدرسة النظامية حينما افتتحت في الجهراء لأنه افتتح في وقت عطلة الصيف فصلا اختار له موقعا من بيته الذي يسكن فيه، فكان يلحق الراغبين من التلاميذ به فيعلمهم القراءة والكتابة والحساب والقرآن الكريم، وبذلك يقدم دعما للمدرسة النظامية التي يأتيها طلابه وهم على أهبة الاستعداد لتلقي الدروس والتفوق بها.
وكان إلى جانب ذلك يتولى الوعظ والتوجيه، ويؤم المصلين في مسجد الجهراء القديم، ويخطب عند الحاجة خطب الجمعة والعيدين، وكان لا يتردد في القيام بأية مهمة دينية يطلب منه الاهتمام بها.
وفيما بعد التحق بالعمل في وزارة الأوقاف العامة وصار أحد موظفيها، وتولى الأذان منذ ذلك الوقف الذي جرى تعيينه فيه، ولقد استمر على هذا العمل إلى أن تقاعد في سنة 1975م.
ولقد بقي هذا الرجل الوقور بعد ذلك معززا ومكرما بين الأهالي جميعا، وشهد التطور الكبير الذي عاشته الجهراء فانتقلت به من شكل القرية إلى شكل المدينة الكبيرة. وكان من القلائل الذين عاصروا الفترتين السابقة واللاحقة، وقد كتب الله عليه الوفاة في اليوم الرابع عشر من شهر أبريل لسنة 1984م، فانتقل إلى رحمة الله مأسوفا عليه ومذكورا بالخير، رحمه الله.
4 – هذا واحد من قدماء رجال التعليم في البلاد، إنه الملا عيسى بن خليفة الجيران، وهو من مواليد سنة 1845م، في فريج الخميس.
وقد عرف عنه طوال حياته أنه كان صاحب مدرسة أهلية، وكان مدرسا بها وإمام مسجد كذلك. وكان الإقبال على مدرسته كبيرا، نظرا لما كان يتميز به من إخلاص في العمل ورغبة في نشر التعليم. ولقد كان عدد من أبناء الكويت أمثاله قد رهنوا أنفسهم لهذه المهنة الشريفة، وفتحوا مدارسهم في أجزاء من بيوتهم رغبة في خدمة الوطن، وخدمة العلم، ونشرا له. وكانت هذه المدارس تتولى تعليم قراءة القرآن الكريم، ومبادئ القراءة والكتابة والحساب.
وقد ملأت فراغا كبيرا قبل أن تنشأ المدارس النظامية في الكويت وكانت أول مدرسة منها هي المدرسة المباركية التي بدأ العمل بها في سنة 1912م.
ولقد سار الملا عيسى الجيران في مدرسته الخاصة به على النمط الذي كان يسير عليه غيره من المعلمين الأوائل الذين سبقوه أو عاصروه.
وكانت نشأته تساعده على السير في الطريق الذي سلكه في حياته، لأنه نشأ في بيئة دأبها البر والإحسان، وطلب العلم وتعليمه. ولقد كان والده صاحب مدرسة اقتطع لها موقعا من بيته واشتهرت بما اشتهرت به مدرسة الملا عيسى فيما بعد: مدرسة الجيران، وكان الأب يقوم بتدريس تلاميذه أمورا تتعدى مبادئ القراءة والكتابة والحساب، إذ كان يضيف إلى المعلومات المعتادة أنه يعود تلاميذه وطرق كتابة الرسائل بكافة أنواعها، وذلك من أجل تعويدهم على العمل في مجال يفيدهم مستقبلا.
وكانت نشأة الملا عيسى في أحضان هذه المدرسة، تعلم فيها، وأدرك قيمة العلم بين جدرانها، ولذلك فإنه أقبل على الدراسة إقبالا أدى به إلى اكتمال معلوماته التي تمكن من الحصول عليها بين يدي والده.
وقد بارك الله – سبحانه – في الابن بسبب ما كان يقدمه الوالد من خير للناس، فقد كان يضم في مدرسته عددا من الأيتام وذوي الحاجة لا يأخذ منهم أي مبلغ نظير تدريسهم كما كان يأخذ من غيرهم.
ونتيجة لذلك، فإن أعداد تلاميذ هذه المدرسة ازدادت، وأصبح المقر غير كاف لاستيعاب جميع من يتقدم للدراسة فيها، ونظرا لطيبة الملا خليفة الجيران، وسمعته الطيبة، والإقبال الشديد على مدرسته، فقد تبرع المحسن المرحوم شملان بن علي آل سيف الذي كان سباقا إلى الخيرات بتخصيص بيت كان يملكه لكي يكون مقرا لمدرسة الملا خليفة الجيران، وكان هذا البيت واسعا يكفي لاستيعاب الأعداد الكبيرة التي تقبل على الانضمام إلى المدرسة والدراسة فيها. ولقد كانت هذه اللفتة الكريمة سببا من أسباب تقديم صاحب المدرسة لكثير من الجهود في سبيل فائدة النشء علميا وخلقيا وكان ابنه الملا عيسى يساعده في عمله هذا.
ومع مضي الأيام، ولكثرة ما يبذله الملا خليفة من جهود في عمله هذا، إضافة إلى تقدمه في السن، فإنه أصيب بمرض شديد أقعده عن عمله هذا الذي أحبه واعتبره قربة إلى الله لأن فيه نشر الدين وتلاوة القرآن الكريم. وهنا جاء دور الابن فحل محل والده في إدارة المدرسة والتدريس فيها وهو جدير بذلك، فقد مر عليه وقت وهو يكتسب من العلم والمران ما يكفي لكي يكون أهلا للقيام بهذه المهمة.
ومضى الملا عيسى الجيران في طريقة الذي رسمه له والده وأبدى استعدادا كبيرا للقيام بهذه المهمة وقد دل على تمكنه وإخلاصه في عمله ما شاهدته المدرسة من إقبال شديد من التلاميذ الذي كان أولياء أمورهم يصرون على أن تكون دراستهم فيها، ومن أجل هذا زاد الازدحام في الموقع الجديد، وضاق بكل المتقدمين، فجاء من أهل الخير المرحوم بشر الرومي، وابنه محمد، فقدما موقعا بديلا أكثر اتساعا من الموقع السابق، وكانا بذلك يعبران عن رغبة الناس في عمل الخير. وفي نشر التعليم معا.
ومرت السنوات وافتتحت المدرسة المباركية، فتم استدعاؤه للمشاركة في التعليم ضمن أساتذتها وقد جرى تكليفه بتدريس كبار السن والمكفوفين بسبب خبرته التي اكتسبها من مدرسته التي أغلقها لكي يتفرغ لعمله في المدرسة المباركية.
واستمر في عمله هذا إلى أن افتتح المحسن شملان بن علي آل سيف مدرسة السعادة التي خصصها للأيتام والمحتاجين، فطلب من الملا عيسى الجيران أن ينتقل إلى العمل في مدرسته، فلبى هذا الملا النداء وانتقل إلى هناك في حوالي سنة 1931م.
ومما يذكر أن ناظر المدرسة في ذلك الوقت كان هو الشيخ أحمد خميس الخلف المشهور بعلمه ودرايته وقد كتبنا عنه أكثر من مقال لأنه أهل لذلك.
وكان الملا عيسى الجيران يلبي كل رغبة توجه إليه من أجل التدريس أين كان ذلك، وكان يضيف إلى عمله هذا القيام بالإمامة في مسجد الرومي خلفا لوالده.
ومرت الأيام، وبلغ عمره الثمانين فلم يكن قادرا على الاستمرار في عمله بالقوة ذاتها، فأعاده الشيخ يوسف بن عيسى القناعي إلى المدرسة المباركية مدرسا لعدد من الحصص بحسب قدرته.
واستمر على هذه الحال إلى أن انتقل إلى جوار ربه عن عمر يناهز التسعين سنة، وذلك في عام 1935م، رحمه الله.
5 – قد ينسى الناس بعضا من أهل الكويت الذين أمضوا حياتهم في خدمة الوطن وأهله. ولكن التاريخ لا ينسى أحدا، وبناء على ذلك، فإننا نذكر هنا رجلا عاش حياته كلها في جد وعمل مستمر نفع به الناس، وجلب له الذكر الحسن بينهم. إنه المرحوم علي عبدالمحسن الصقلاوي. وهو معلم، ورجل دين كانت له سمعة طيبة ومكانة في النفوس.
ولد في سنة 1890م، بمنطقة المرقاب من العاصمة، وبدأ دراسته على يدي شيخ من شيوخ العلم كانت له شهرة في الكويت هو الشيخ محمد ابن جنيدل. وهنا تعلم القرآن الكريم، ثم درس الفقه، واللغة العربية، والحساب، ووصل في كل ذلك إلى درجة متقدمة.
وعندما استكمل دراسته هذه، وظهر عليه الاستعداد العلمي المطلوب. صار مدرسا ينقل ما تعلمه من شيخه إلى تلاميذه، وكان أول عمله بالتدريس في المدرسة المباركية التي أمضى بالعمل فيها ثلاث عشرة سنة، انتقل بعدها إلى المدرسة الأحمدية، وفي هذه المدرسة الأخيرة أمضى عشر سنوات أخرى، وكان يعلم في كلا المدرستين القرآن الكريم واللغة العربية والحساب، وقد لوحظت عليه المقدرة على التدريس، وإيصال المعلومات إلى أذهان تلاميذه، ولذا فقد طالت مدة عمله في المدرستين المذكورتين.
ولم يمض الأستاذ علي الصقلاوي كل حياته في العمل بالتدريس، فقد قام بأعمال أخرى في بعض الأوقات، وكانت هذه الأعمال مما لا يخرج عن كل ما يقوم به أبناء الكويت في عصره، ولذا فقد ركب البحر متجها إلى الغوص على اللؤلؤ في بعض الأحيان، ومتجها إلى الهند في بعض رحلات السفر على السفن الشراعية الكويتية التي كانت تسلك الطريق البحري إلى الهند وما جاورها. ويبدو أنه لم يجد الفائدة التي يرجوها من هذين العملين، فقد كانا في خارج اهتمامه أصلا، ولذا فإنه لم يطل عمله فيهما فانقطع إلى عمل آخر.
وقد غلبت عليه نزعته الدينية، فاتجه إلى العمل المرتبط بها، حين صار مؤذنا في مسجد الملا صالح الواقع حاليا في منطقة الصيهد بشارع فهد السالم، ولقد أمضى في عمله هذا قرابة عشر سنوات، انتهت آخرها بحادثة كان لها التأثير الشديد عليه. وذلك أنه اصطدم بمنبر المسجد، وكانت صدمة شديدة جدا أدت إلى نزيف حاد. وقد بذلت جهود طبية كثيرة لإسعافه، ولكن ذلك لم يكلل بالنجاح، إذ وصل الأمر بحالته إلى التأثير على أعصاب عينيه مما سبب لهما ضمورا أدى إلى فقده الإبصار بهما، ولم يجد لذلك علاجا شافيا، فاستمر على حاله من فقدان البصر، إلى حين وفاته في اليوم التاسع عشر من شهر يوليو لسنة 1979م، رحمه الله.
ونحن وقد رأينا أن عمل الأستاذ علي عبدالمحسن الصقلاوي في سلك التدريس كان في مدرستين، هما المدرسة المباركية ثم المدرسة الأحمدية، وما ينبغي أن نشير إليه هنا، أنه التحق بالعمل بهما في وقت مبكر قريب من تاريخ نشأة كل واحدة منهما.
فالمعروف أن المدرسة المباركية كانت أول مدرسة نظامية في الكويت من حيث نشأتها، وقد بدأ العمل على قيامها في شهر يناير لسنة 1911م، وبدأت في العمل بالتدريس في آخر أيام سنة 1911م، ولذا فإن تاريخ العمل بها من حيث بداية الدراسة يحتسب من مطلع سنة 1912م، وكانت مجموعة من الأهالي قد اهتمت بهذا المشروع النبيل، وتكاتفت في سبيل تحقيقه ماديا ومعنويا. وقد تم إنجازه بفضل ما بذلوه من جهد ومال، وكانت الهيئة المشرفة على هذه المدرسة من الحصافة بحيث سارت بها على طريق قويم بحيث جنت ثمار ما غرسته فيها، فاختارت هيئة التدريس من ضمن البارزين في علمهم ومعرفتهم من أبناء الكويت مع عدد محدود ممن جاء من الخارج من أجل المشاركة بالتعليم فيها. وكان الأستاذ الصقلاوي من أولئك الأوائل الذين عملوا في هذه المدرسة منذ البداية، وقد استمر عمله فيها إلى أن انتقل إلى المدرسة الأحمدية لكي يزاول عمله في مهنة التعليم بها.
وفيما يتعلق بالمدرسة الأخيرة، فقد كان إنشاؤها أمرا مهما في حينه، إذ ازداد عدد طلاب المدرسة الأولى، ولم يعد باستطاعتها استيعاب كل المتقدمين للدراسة بها. إضافة إلى تطور الحياة في البلاد، وظهور أعمال تحتاج إلى تخصصات علمية لم تكن المدرسة المباركية تقدمها لطلابها.
وبمثل الخطوات التي تم اتخاذها عند إنشاء المدرسة الأولى جرى الأمر عند تأسيس المدرسة الثانية، فكانت المدرسة الأحمدية هي ثاني مدرسة نظامية في الكويت، وظهرت إلى الوجود في سنة 1921م، وفي مناهجها إضافات وفق الاحتياجات التي دعت إليها تطورات الحياة. وقد أثبت أبناء الكويت الأوائل أنهم كانوا في منتهى الحرص على نشر التعليم في وطنهم، مهما كلفهم ذلك من جهد ومن مال. وأبدى المدرس الكويتي القديم مقدرة فذة على القيام بالواجبات التعليمية الجديدة، وكان الأستاذ علي الصقلاوي مثالا واضحا لهذه الفئة من أبناء الكويت المخلصين.
٭ ٭ ٭
كانت أسماء الذين ذكرناهم هنا نماذج تدل على رجال عديدين ونساء كثيرات ممن قاموا وقمن بخدمة الوطن كل منهم ومنهن في مجال العمل الذي وفق إليه. وكان مجال التعليم من أهم المجالات التي كان وطننا في حاجة إلى البدء بها قبل غيره، فهو الذي يكفل التقدم لكل دولة. وهؤلاء الذين ذكرناهم يستحقون منا إدامة ذكرهم، هم ومن كان على شاكلتهم من مدرسين ومدرسات، ونأمل من الله – عز وجل – أن يجزيهم خير الجزاء.

