• في مسألة الغزو العراقي لا يمكن تجاهل أي قصة تأتيك من أي أحد عاش تلك الفترة وكلها مهمة حتى لو كانت بسيطة
  • نتائج الاحتلال كانت مدمرة على المواطن فالطموح يتبخر والدراسة معلقة والوظيفة لم تعد موجودة
  • الرياض كانت أشبه بورشة عمل للاستعداد للعودة وتم تنظيم دورات تدريبية للشباب لتأهيلهم لإعادة الإعمار

ليلى الشافعي

في حوار مع الباحث الإسلامي م.سالم الناشي تحدث فيه عن المعاناة والألم والظلم الذي وقع له ولأبناء الكويت بسبب الغزو العراقي في ذكراه الـ 34. إذ يروي م.الناشي خلال لقاء مع «الأنباء» قصته أثناء الغزو ودوره بعد أن خرج إلى المملكة العربية السعودية ونشاطه الإعلامي في صحيفة «صوت الكويت» التي كانت تصدر في لندن، ودوره بعد التحرير كمهندس في إعادة الإعمار وتشغيل معهد الكهرباء والماء «الطاقة لاحقا» مع الكثيرين من المهندسين والمتخصصين وأبناء الكويت المخلصين الذي ضربوا أروع الأمثلة في الوقوف خلف قيادتنا الحكيمة وفي العطاء والتفاني في سبيل حماية الحق الكويتي والذود عن مقدرات الوطن وخدمة المواطنين خلال هذه الفترة من تاريخ الكويت التي تجسدت فيها أروع معاني التضحية في سبيل الوطن، حتى كانت فرحة التحرير وزوال الاحتلال، مؤكدا أن وقوف أبناء الكويت خلف قيادتنا الحكيمة وثبات شعبنا وتضحياته ووقوف العالم مع الحق الكويتي كان من أهم أسباب دحر الغزاة العراقيين والتعجيل بتحرير بلادنا. وفيما يلي نص الحوار:

في البداية، تحدث م.سالم الناشي عن قصته ومعاناته كما معظم أهل الكويت، قائلا: في مسألة الغزو العراقي للكويت لا يمكن أن تتجاهل أي قصة تأتيك من أي أحد عاش تلك الفترة، فكل القصص مهمة حتى ولو كانت بسيطة، فالمعاناة التي خلف كل موقف ووراء كل إحساس، كبيرة وكبيرة جدا، فيكفي أن تسمع أن عزيزا عليك اعتقل وعذب وقتل، أو أسر ووضع في سجن مجهول ولا تدري متى يعود! أو أنه تعرض لصدمة نفسية جراء إهانته وهو في طابور خبز، أو غاز، أو جمعية.. أو إهانة أبيه أو أمه أو أخته أو زوجته أو ابنه أو بنته أما عينيه، وكذلك الإساءة لجار أو صديق!

سيل من الافتراءات

وأضاف م.الناشي: يكفي أن يسمع الإنسان البسيط المسالم صوت الحرب والرصاص وجنازير الدبابات وهدير الطائرات، وينام ويصحو على سيل من الغدر والافتراءات والأكاذيب والتهديد والوعيد.. وهو إن صحا فإنما يصحو على بصيص أمل يأتيه من بعيد فيتمسك به إلى الرمق الأخير.

أما النتائج فيراها مدمرة، فطموحه يراه قد تبخر، إذ إن دراسته معلقة في الهواء، ووظيفته لم تعد موجودة، وزواجه في مهب الريح، وبناء بيت العمر توقف، وكل أحلامه في بناء أسرة مستقرة له ولأولاده أصبحت في مخيلة رجل واحد هو الطاغية «صدام» ومتى يقرر الانسحاب!

اختلاط المشاعر في الأسرة الواحدة

ويوضح م.الناشي أن المشاعر في الأسرة الواحدة في الغزو قد اختلطت، والقرارات تشابكت، فهناك من يرى المقاومة والرفض لكل ما هو احتلال، وآخر يرى البقاء والصمود والصمت والاحتجاج السلمي، وثالث يرى المغادرة والعمل من الخارج، ورابع يرى العودة والتلاحم مع الداخل وبدء المقاومة!

ويقول: قصتي تبدأ من اهتمامي بالحرب العراقية- الإيرانية، فقد كنت أتابع الحرب لحظة بلحظة وأتوجس من أن يرتد الغضب علينا نحن في الكويت فمستشارو صدام كانوا يقولون له إن الحرب تلد أخرى، وإنه إذا كان لديك جيش مليوني لا تستطيع أن تطعمه فأرسله إلى بلد مسالم وجار ليأكل!

لقد ملأت الإشارات الشريرة القادمة من الشمال الدنيا، وفي المقابل جاءت التطمينات تتهادى على جمل متعب! لا لن يغدر، فهو من قال لأبنائه إذا أنا ذهبت فلديكم «جابر الخير» أباً لكم! وهو من قلد الكويت أعلى وسام عراقي لدورها المتميز في محنته!

غطرسة صدام وطغيانه

ارتفعت وتيرة التهديدات فقطع الأعناق ولا قطع الأرزاق!، فكان نقاشنا في ديوانية أخي عشية يوم عاشوراء يوم الأربعاء 1/8/1990 هل سيزحف صدام إلى الكويت أم أن الأمر مجرد تهديد.. ولما خرجت من الديوانية بدأت أبحث عن أي خبر من جدة، فإذا إذاعة «مونت كارلو» تعلن فشل مباحثات جدة «سعد – عزت» هنا رأيت السيناريو العراقي أمامي كاملا، فغطرسة صدام، وطغيان نظامه، وعنفوان جيشه سوف تستدعي أن يقذف به في الكويت! وصلت إلى منزلي في منطقة الرابية، وأخبرت زوجتي أن صدام سيغزو الكويت وبدأنا نستمع للأخبار.

وفي ليلة الخميس 2/8/1990 لم أستطع النوم لإحساسي بأن شيئا ما خطيرا سيحصل! وحوالي الساعة الرابعة أدرت تلفزيوني على محطة تلفزيون العراق، فإذا صوت المذيع العراقي (مقداد مراد) ينطلق فجرا وفجورا (توفي بعد سنتين من إعلانه البيان عن عمر 47 عاما بسرطان الحنجرة) يعلن بداية الغزو: «الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لقد خسف الله الأرض..»، وقتها أدركت أن صدام قد انتهى فقد خالف كل مبادئه التي يزعم أنه يؤمن بها! خاصة أنه كان يكرر أن الوحدة العربية تكون برغبة الدول وليس قسرا، وأن العراق إذا اعتدى على دولة فينبغي على كل الدول العربية أن تتكاتف ضد العراق.. هكذا.. وفعلا بدأ الحبل يلتف حول عنق صدام تدريجيا إلى أن أعدم في 30/12/2006 وانهار حزب البعث كله وأعوانه!

غدر ومآس

وزاد م.الناشي: لقد كانت هذه الأكذوبة الكبيرة والغدر الطاغي والاجتياح الفاجر ما هي إلا مقدمة لمزيد من المآسي والآلام ليس للكويتيين فحسب بل لكل من عاش على أرضها الطيبة بل لكل الخيرين والشرفاء الذين تعاطفوا مع قضية الكويت. وهبت المحاولات لتصحيح مسار البغي ولكن لا رحمة، وجاءت التهديدات من القوى الكبرى ولكن لا فائدة، وظلت الشعوب المطحونة تدفع الثمن.. بقيت في الكويت مع عائلتي الوالد (رحمه الله) والوالدة وأشقائي (سعود ووليد)، وبدر (في لندن للدراسة ويقود لاحقا حركة طلابية ضد ظلم صدام هناك)، وشقيقتي (شيخة ونجاة) وزوجتي وابني عبدالله (6 سنوات) وبناتي هناء وآلاء (10و4 سنوات)، تجمعنا في بيت الوالد بمنطقة الفروانية، ثم ذهبت إلى بيت نسيبي (عبدالله الماجد) بمنطقة العمرية، كان قرار العائلة الكبيرة أن من يريد الخروج فليخرج ومن يريد البقاء فليبق، كل حسب ظروفه!

الخروج من الكويت

أدركت أنه ليس لي دور يذكر هنا في الكويت، وقررت الخروج من اليوم الأول ولكن لم أستطع، فعاودت الكرة والكرة وأخيرا نجحت بعد شهرين ونصف، في يوم الاثنين 15/10/1990 يوم المؤتمر الشعبي في جدة. وكان شقيقي سعود قد سبقني مع أسرته إلى الرياض، فخرج يوم 11/8/1990 وهو اليوم الذي أخذت فيه زوجتي لمستشفى الفروانية للولادة وفعلا استقبلنا «فاطمة».

وكما هو الحال مع أي مقاومة شعبية من المواطنين تنقلب المنطقة رأسا على عقب، فقد قرر الجنود العراقيون تفتيش بيوت الأسر المسالمة بيتا بيتا في العمرية وانتشر الخبر بين الأهالي، ودار حوار ثنائي بيني وبين زوجتي وبيني وبين نفسي، الأول لكيفية التعامل مع عشرين جنديا مدججين بالرشاشات و«البازوكات» وأنا وحدي مع أسرتي وأخت زوجتي وأبنائها، وكان القرار التزام الهدوء قدر الإمكان والسماح لهم بالتفتيش على أن نحتفظ بالأشياء الثمينة لدى زوجتي، والحوار الثاني أنه في حالة تعدي أي جندي على أسرتي فلن أسكت حتى لو كلفني حياتي! ومضى التفتيش على خير!

سلمت سندويشات الأطفال للجنود

وفي يوم الاثنين 15/10/1990 وفي ساعات الصباح الباكر قررت أن أخرج من الكويت إلى السعودية بعدما أصبحت منطقة العمرية التي أنا فيها موحشة حتى في النهار وبدت عمليات التفتيش على المنازل ومداهمتها أمرا يصعب العيش معه، وبدأت تقل الخدمات واحتياجات العلاج والخبز والغاز، وأصبحت كل محاولة للحصول على هذه الخدمات هي من قبيل المغامرة التي قد تنتهي بالاعتقال والتعذيب وربما القتل.

وقــد خـرجت الســـاعــة 7 صباحا متوجها إلى الحدود مع أسرتي، كان يوما هادئا، والغريب أن الطرقات ليس فيها أحد على غير العادة، فظننت أن هناك أمرا بأخذ الكويتيين إلى العراق لاستخدامهم كدروع بشرية، المهم أكملت إلى مركز إطفاء «مركز الأدعمي» على طريق خادم الحرمين الشريفين (وقتها اسمه طريق الرياض السريع)، وقد استعمله الجنود العراقيون كنقطة خروج بدلا من الحدود، ولم يكن في المركز إلا سيارتي و«وانيت صغير» لأحد المواطنين، جاء الموظف (كأنه غير عراقي) وطلب جوازاتنا ونقودنا وسأل عن سبب الخروج فقلت أن ابنتي المولودة بحاجة إلى رعاية طبية، فقال: نعم، وخرجنا من المركز ثم جاءت أول نقطة تفتيش وكان بها جنديان عراقيان توقفت وقلت: تريدون اي شي؟ عندي شاي وأكل؟ قالا: نريد طعاما فسلمت سندويشات الأطفال لهم.. ثم واصلت وفي مركز الحدود الكويتي «منطقة النويصيب» كان هناك أيضا جنديان عراقيان وهناك طلبا نقودا فسلمتهما المبالغ العراقية التي بحوزتي. هنا عرفت انه لا يفصلني عن الحدود السعودية إلا القليل، وكنت خائفا من أي تصرف فيه طيش لجنود الاحتلال وغير مصدق أني عبرت هذه النقاط بهذه السهولة وكان الخوف على الأهل والأبناء هو الأساس.. وكنت أقول لابنتي آلاء أن تلتزم الصمت فقد كانت تنشد الأغاني الوطنية طوال الطريق.

فرحة.. وحزن عميق

ويتابع م.الناشي سرد قصته: ثم أتيت الحدود السعودية وكانت فرحتنا لا تصدق لكنها مغموسة بحزن عميق لفراق الوطن. وقبل أن أصل المركز السعودي كانت هناك حواجز اسمنتية على شكل يجعل السيارة تأخذ يمينا ويسارا.. ورأيت جنديا سعوديا يركض باتجاهي رافعا يديه مرحبا بحرارة، ويقول: الحمد لله على السلامة ويكررها وكان فرحا كأنه أحد إخواني وظل يركض بجوار سيارتي ويقول من هنا وهو فرح، حتى توقفت، وقال: الحمد لله على السلامة.. وقال: أجيب لك شيء؟ ماء، أكل؟ قلت: لا، بسبب الانهاك النفسي والقلق.

ثم ذهبت إلى مقر لجنة التعريف بالكويتيين، وهو عبارة عن «كشك» يتم التعرف فيه على الكويتيين، سألني الموظف هل لديك اي إثباتات؟ قلت: نعم، وسلمته جنسيتي الأصلية وجنسية زوجتي وشهادات ميلاد الأولاد. وقال: لم يأخذوها منك؟ قلت أخذوا الجوازات والبطاقات ولم أسلمها لهم، هنا تعرفوا علي وقال أحدهم أنا أعرفه هو بمنطقة الرابية، وقال آخر: أنا أعرف أخوك بدر ثم خرجت بعد أن قالوا إن لك مبلغ طريق ستأخذه من مكتب شركة «الزيت العربية»، ووقتها جاء العسكري السعودي بكرتون فيه «سندويشات» وقدمها لنا! بعدها ذهبنا بعدها إلى فندق «شاطئ الخفجي»، حيث سكن النساء في المبنى ونحن في خيمة عند السور، بعدها تعرفت على أحد الإخوة الذي طلب منى مرافقته إلى الرياض.

الرياض ورشة عمل

بعد ذلك، يتحدث م.الناشي عن وصوله إلى مدينة الرياض التي كانت برأيه أشبه بورشة عمل كبيرة للكويتيين للاستعداد للعودة والتحرير، قائلا: ذهبت إلى سفارة الكويت هناك وطلبت أن أعمل معهم، وفعلا عملت مع رئيس المكتب الثقافي يوسف الصانع، وبتكليف من مدير عام الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب (في البحرين) د.عبدالرحمن المحيلان وبحضور مدير معهد الشويخ الصناعي عبدالرحمن المطوع، وقتها «وزير الأشغال العامة لاحقا»، وغلوم العطار مشرف خدمة المجتمع بالتطبيقي، واجتماعهم معي كان لبدء إعداد دورات للشباب الكويتي، وبحكم كوني مساعدا لمدير معهد الكهرباء والماء وقتها، فقد كلفت لأكون مشرفا عاما على الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب بالرياض 11/3/1991، حيث نظمت بالتعاون مع المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني ومعاهد التدريب بالرياض ومعهد الإدارة العامة دورات تدريبية للشباب الكويتي لتأهيلهم لفترة إعادة الإعمار، وكانت الدورات ناجحة وأقيمت أيضا دورات للفتيات مشابهة في مختلف المجالات.

بعد التحرير عمل دؤوب

كما يتناول م.الناشي بعضا من الأمور التي ساهم فيها، إذ يقول: لقد انتهزت فترة وجودي في مدينة الرياض للكتابة في بعض الصحف السعودية، وأيضا صحيفة «صوت الكويت» التي كانت تصدر في لندن، وبعد التحرير رجعت الكويت وانتظمت مع فريق الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب لإعادة الإعمار، وخاصة في العمل على عودة تشغيل معهد الكهرباء والماء «الطاقة لاحقا»، وقد اخترنا مدرسة في منطقة الروضة بدلا عن مقر معهدنا في الشويخ الذي سرقت منه كل المختبرات والأجهزة التي كانت فيه ولم يعد صالحا للترميم، حيث استغله جنود الاحتلال العراقي كورشة تصليح للمركبات الحربية، ثم قمنا بشراء أجهزة جديدة ومختبرات كاملة وتمت إعادة الدراسة والتدريب بالسرعة المطلوبة، وكان لخريجي المعهد الدور الكبير في تشغيل محطات الكهرباء وتقطير المياه أثناء الاحتلال.

ورشحت عضوا في اللجنة التنفيذية في ندوة الكويت «الصمود والعطاء» التي نظمتها الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب، كما عملت دراسة عن شهداء وأسرى الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب وقد تم تكريمهم بعد هذه الدراسة، والحمد لله أن تم تحرير الكويت خلال وقت قياسي بفضل الله وثبات قيادتنا الحكيمة ووقوف أبناء شعبنا خلفهم ومؤازرة ودعم الدول الشقيقة والصديقة وشعوب العالم الرافضة للاحتلال.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version