• قس بن ساعدة كان سبطاً من أسباط العرب وعمّر 600 عام تقفر منها 5 أعمار في البراري والقفار يضج بالتسبيح
  • أول رجل من العرب تألّه ووحّد وأقر وتعبد وأيقن بالبعث والحساب وحذّر من سوء المآب ووعظ بالموت
  • حكى النبي صلى الله عليه وسلم ما شهده في سوق عكاظ من خطبة قس بن ساعدة.. وحفظ الصديق شعره الداعي إلى الاتعاظ بالموت
  • «أخو عبدالقيس» روى مقام «القس» بين مسجد وقبري موحدين وكيف كان ينظم شرب السباع في البرية
  • قبيلة إياد كانت تسكن كاظمة وتبسط عليها سلطانها ومنازلها كانت تعم كاظمة وما جاورها من الأماكن

بقلم د. يعقوب يوسف الغنيم

حين استقر أمر الرسول الكريم في المدينة المنورة، وقوي أمر الإسلام في جزيرة العرب، وبالتحديد في السنة الثامنة والسنة التاسعة من الهجرة النبوية، استقبل صلى الله عليه وسلم وفودا أقبلت عليه من شتى الأنحاء مسلمة ومؤيدة، كانت تمثل قبائل كثيرة.

وفي هذه الفترة أقبل إليه وفد من قبيلة إياد، وهي قبيلة كبيرة ذكر أنها كانت تسكن جهات الحرم إلى تهامة من غربي جزيرة العرب، وتصل إلى حدود نجران بالقرب من تلاقي الحدود السعودية باليمنية. وقد ازداد عددهم حتى ضاقت بهم مواقع سكناهم هذه فاتجه قسم كبير منهم إلى الشمال حتى اجتازوا الشام إلى انطاكية القائمة حاليا على الحدود التركية المقابلة لسورية.

جاء هذا الوفد في السنة التي أطلق عليها اسم: سنة الوفود، وهي الوفود التي أشرنا إليها آنفا، وذكرنا أنها قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنة إسلامها، وتصديقها برسالته.

وكان الرسول الكريم يذهل هذه الوفود بحديثه، وبأسئلته عن بعض الأمور الخاصة بتلك القبائل، ولم يكن هذا الأمر مستغربا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان ملما بكثير من أخبار الجزيرة العربية، عارفا بأهلها، وكان مجلسه بالمدينة المنورة عامرا بالأحاديث التي كان منها استكشاف المعلومات بما في ذلك الاحاطة بما يتعلق بالأماكن المختلفة، وبرجال القبائل، وأسماء ذوي الرأي والشعراء والأبطال منهم.

ولقد كان عدد الوفود التي أشرنا إليها كبيرا، فقد فاق السبعين وفدا، وقد بدأ هؤلاء بالتوجه إلى المدينة بعد غزوة تبوك التي جرت أحداثها في شهر رجب للسنة التاسعة من الهجرة.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل هذه الوفود مرحبا بهم، متحدثا إلى كل وفد منهم على حدة، مبينا لهم ما لهم وما عليهم إذا اسلموا، فإذا تم إسلامهم أرسل معهم من يفقههم بالدين، ويقرأ لهم القرآن الكريم، ويبين لهم حدود ما أحل الله سبحانه وتعالى وما حرم.

وكان وفد (إياد) ضمن تلك الوفود التي أقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، مصدقة به، وبالدين الذي جاء به، ملتزمة بطرح ماعدا الإسلام من أديان.

وما إن استقر مقام رجال قبيلة إياد في مجلس الرسول الكريم حتى بادرهم بسؤال أراد به أن يعلمهم بأنه يعرف عنهم وعن رجال قبيلتهم كثيرا من الأمور، فقال:

«يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الإيادي. قالوا: هلك يا رسول الله. قال: لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام معجب مونق لا أجدني أحفظه».

ومن نوادر الروايات عن هذا اللقاء الذي تشرف فيه وفد إياد بالجلوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخاطبته، ما ذكره ابن كثير في كتابه الذي نعول عليه هنا (ص216ج1) عن وفود جماعة من عبدالقيس (وهم سكان البحرين آنذاك) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن تلك الوفود التي أشرنا إليها.

وكان زعيم هذا الوفد والمتحدث باسمهم – آنذاك – هو: الجارود بن المعلى العبدي، وكان زعيمهم هذا نصرانيا، حسن المعرفة بتفسير الكتب، وبيان معانيها، عالما بسير الفرس وأقاويلها، بصيرا بالفلسفة والطب، ظاهر الدهاء، يتميز بالأدب الكامل، وحسن المظهر، والمروءة والغنى، وكان الرجال الذين أتوا معه في الوفد من ذوي المكانة، والرأي والفصاحة، والدراية بشؤون الحياة.

وقد بدأ الجارود عند دخوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم – بعد التحية المعتادة – بقوله:

يا نبي الهدى أتتك رجال‌

قطعت قرْددا و آلا فــــآلا

وطوت نحوك الصحاصح تهوى‌

لا تعدّ الكلال فيك كــــلالا

كل بهماء قصر الطرف عنها

أرقلتها قلاصُــــــنا إرقالا

وطوتها العتاق تجمح فيها

بكماة مثل النجوم تلالا

تبتغي دفع بأس يوم عظيم

هائل أوجل القلــــــوب و هالا

ومزادا لمحشر الخلق طرا

وفراقا لمن تمادي ضلالا

نحو نور من الاله وبرهان

وبر ونعمة أن تنــــــــالا

خصك الله يا ابن آمنة الخـــير

بها إذ أتت سجالا سجالا

تقول الرواية:

«فناداه النبي صلى الله عليه وسلم، وقرب مجلسه، ثم قال له:

يا جارود لقد تأخر الموعود بك وبقومك. فقال الجارود: فداك أبي وأمي أما من تأخر عنك فقد فاته حظه وتلك أعظم حوبة وأغلظ عقوبة وما كنت فيمن رآك وسمع بك فعداك واتبع سواك واني الآن على دين قد علمت به قد جئتك وها أنا تاركه لدينك أفذلك مما يمحص الذنوب والمآثم والحوب؟ ويرضي الرب عن المربوب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ضامن لك ذلك وأخلص الآن لله بالوحدانية ودع عنك دين النصرانية.

فقال الجارود: فداك أبي وأمي مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك محمد عبده ورسوله. قال: فأسلم وأسلم معه أناس من قومه فسرّ النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم.

ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مستبشرا بقدوم هذه الوجوه الكريمة التي جاءته مصدقة بما جاء به من عند الله عز وجل، راغبة في الدخول إلى الإسلام. وقد قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سر بهم وبإسلامهم، وأظهر من إكرامهم ما سرهم وأبهجهم.

وفي أثناء تلك الجلسة اتجه الرسول الكريم إليهم فقال:

أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟

فقال الجارود: فداك أبي وأمي كلنا نعرفه، ومضى يقول: اني من بينهم لعالم بخبره واقف على أمره كان قس يا رسول الله سبطا من أسباط العرب عمر ستمائة سنة تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار يضج بالتسبيح على مثال المسيح لا يقره قرار ولا تكنه دار ولا يستمتع به جار. كان يلبس الامساح ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته يتحسى في سياحته بيض النعام ويأنس بالهوام، ويستمتع بالظلام، يبصر فيعتبر، ويفكر فيختبر، فصار لذلك واحدا تضرب بحكمته الأمثال، وتكشف به الأهوال.

أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل تأله من العرب ووحد، وأقر وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذر سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت وسلم بالقضا على السخط والرضا، وزار القبور، وذكر النشور، وندب بالأشعار، وفكر في الأقدار، وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء، ووصف البحار، وعرف الآثار، وخطب راكبا، ووعظ دائبا، وحذر من الكرب، ومن شدة الغضب، ورسّل الرسائل، وذكر كل هائل، وأرغم في خطبه، وبين في كتبه، وخوف الدهر، وحذر الأزر، وعظم الأمر، وجنب الكفر، وشوق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللاهوتية.

وهو القائل في يوم عكاظ: شرق وغرب، ويتم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وإناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع وأشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر واعدام، ورب وأصنام.

لقد ابتهج الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الذي استوعب كثيرا من المعلومات ردا على سؤاله، ثم بدأهم بحديثه الشريف الذي نتبين من خلاله السبب الذي دعاه إلى السؤال عن قس بن ساعدة:

مهما نسيت فلست أنساه في سوق عكاظ، واقفا على جمل أحمر يخطب الناس: اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، وقولوا وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليل وأيام، وبر وآثام، إن في السماء خبرا، وإن في الأرض عبرا، يحار فيهن بصرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس، ووزن القسطاس.

أقسم قس قسما، لا كاذبا فيه ولاآثما، لئن كان في هذا الأمر رضى، ليكونن سخط. ثم قال: أيها الناس إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه وهذا زمانه وأوانه. ثم قال ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أما تركو فناموا.

وما كاد ينتهى من ذلك حتى قال بعد أن التفت إلى بعض أصحابه:

– أيكم يروي شعره لنا؟ فقال أبو بكر الصديق:

– فداك أبي وأمي، أنا شاهد له في ذلك اليوم حيث كان يقول:

في الذاهبـين الأوليــــــــن

من القرون لنا بصائـــر

لمــــــــا رأيت مــــــــواردا

للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوهــــــا

تمضي الأصاغر والأكابـــــــــر

لا يرجــــــــــع الماضي ولا

يبقى من الباقــــين غابر

أيقنت أني لا محالـــــــــــة

حيث صــار القوم صائر

ولم يكد الصديق ينتهي من إلقاء هذه الأبيات حتى قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخ من عبدالقيس عظيم الهامة، طويل القامة، بعيد ما بين المنكبين فقال: فداك أبي وأمي وأنا رأيت من قس عجبا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الذي رأيت يا أخا بنى عبدالقيس؟ فقال: خرجت في شبيبتي أربع بعيرا لي ندّ عني أقفو أثره في تنائف قفاف ذات ضغابيس وعرصات جثجاث بين صدور جذعان، وغمير حوذان، ومهمه ظلمان، ورصيع ليهقان، فبينا أنا في تلك الفلوات أجول بسبسبها وأرنق فدفدها إذا أنا بهضبة في نشزاتها أراك كباث مخضوضلة وأغصانها متهدلة كأن بريرها حب الفلفل وبواسق اقحوان، وإذا بعين خرارة وروضة مدهامة، وشجرة عارمة، وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة وبيده قضيب. فدنوت منه وقلت له: أنعم صباحا! فقال: وأنت فنعم صباحك! وقد وردت العين سباع كثيرة فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه ضربه قس بالقضيب الذي بيده. وقال: اصبر حتى يشرب الذي قبلك فذعرت من ذلك ذعرا شديدا، ونظر إليّ فقال لا تخف. وإذا بقبرين بينهما مسجد فقلت ما هذان القبران؟ قال قبرا أخوين كانا يعبدان الله عز وجل بهذا الموضع فأنا مقيم بين قبريهما أعبدالله حتى ألحق بهما. فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم وتباينهم على شرهم؟ فقال لي: ثكلتك أمك أو ما علمت أن ولد اسماعيل تركوا دين أبيهم واتبعوا الأضداد وعظموا الأنداد.

هذا وقد روي الحديث عن قس بن ساعدة من عدة وجوه، ولكنها وجوه لا تتناقض، لأنها تسير في خط واحد واضح المعالم، فلا نرى فيها زيادة بينة على بعضها، ولا فيما وردت معها من أشعار.

وعلى كل حال فإن مما يلفت النظر أن الرواية الأولى التي ذكرناها تنص على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سأل وفد قبيلة إياد، وأما الرواية الثانية فتنص على أنه صلى الله عليه وسلم قد سأل بني عبد القيس، ولا غرابة في أن يوجه الرسول الكريم سؤاله عن قس بن ساعدة الإيادي إلى هذا الوفد العبدي، لأن إيادا كانت تسكن ضمن المساكن التي انتقلت إليها في منطقة البحرين التي كانت منطقة واسعة في شرقي الجزيرة العربية اطلق عليها الحسن بن أحمد الهمداني مؤلف كتاب صفة جزيرة العرب في كتابه هذا اسم: البحرين العظمى.

ومما يؤكد أن السؤال كان موجها إلى وفد البحرين أننا لا نرى في أسماء الوفود التي وفدت إلى الرسول الكريم ذكرا لإياد، لأنها في هذه الأثناء قد نزحت بعيدا إلى الشمال.

ونورد – تأكيدا لهذا – ما جاء عن هذه القبيلة في كتابي:«كاظمة في الأدب والتاريخ» ص77،78، وهذا نصه:

«كاظمة من الأماكن الطيبة التي تستحب للسكنى، ولقد تعاقب على سكناها – منذ القدم – كثير من الناس، ولكنها الآن خالية إلا من بعض بيوت صائدي الأسماك. وقد حفظ لنا التاريخ ذكر بعض سكانها الأوائل، ومنهم قبيلة إياد، وهي قبيلة عربية عظيمة كتب لها أن تفترق ثلاث شعب: ذهبت إحداها إلى ذي طوى، والأخرى إلى عين أباغ، واتجهت الثالثة إلى سنداد، وفي سنداد استكملت قوتها وكثر عددها فشملتها منطقة من الأرض واسعة تبدأ من سنداد حتى كاظمة إلى بارق والخورنق شمالا وما يليهما من الأماكن، وبسطوا قوتهم على الفرات إلى أرض الجزيرة، وكانوا يعبدون ذا الكعبات وهو بيت بسنداد، وبعد أن هالت الفرس كثرتهم نفوهم عن هذه الأرض وفي ذلك يقول شاعرهم الأسود ابن يعفر:

ماذا أؤمل بعد آل محرق

تركوا منازلهم وبعد إياد

أهل الخورنق والسدير وبارق

والقصر ذي الشرفات من سنداد

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم

ماء الفرات يجيء من أطواد

أرض تخيرها لطيب مقيلها

كعب بن مامة وابن أم دؤاد

ونأخذ مما تقدم أن إيادا كانت تسكن كاظمة، وكانت تبسط سلطانها عليها وأن منازلها كانت تعم كاظمة وما جاورها من الأماكن».

٭٭٭

قرأنا في هذا الفصل من مقالات: «من أطراف الأحاديث» معلومات متنوعة، ذات دلالات كبيرة على رجال عهد ابتداء ظهور الإسلام وما كانوا عليه من فهم لشؤون الحياة. وكأنهم قد أعدوا لتحمل رسالة نشر الإسلام والدفاع عنه.

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version