أصدرت حكومة الإمارات مرسوماً بقانون اتحادي بتعديل بعض أحكام قانون الجرائم والعقوبات، وذلك في إطار حرص دولة الإمارات على ترسيخ مبادئ العدالة وصون الحقوق وتعزيز حماية المجتمع، وتطوير منظومتها التشريعية بما يواكب المستجدات الاجتماعية والأمنية، ويعزّز سيادة القانون والردع العام والخاص، ويحمي الفئات الأكثر عرضة للانتهاك.
ويأتي إصدار المرسوم بقانون في سياق نهج الدولة الدائم نحو التحديث التشريعي عبر مراجعة القوانين وتحسين أدواتها التنفيذية بما يضمن تحقيق العدالة، ودعم جهود الجهات القضائية والعدلية في التعامل مع التطورات المتسارعة ومواجهة التحديات بأساليب حديثة وفعالة.
وتتضمن التعديلات الجديدة تعزيز قدرة القضاء على تقييم حالات المحكوم عليهم في بعض الجرائم الخطيرة، من خلال السماح بإخضاع المحكوم عليه لفحوص طبية ونفسية واجتماعية خلال الأشهر الستة الأخيرة من مدة العقوبة، وذلك بهدف إعداد تقييم شامل للخطورة الإجرامية يستند إلى تاريخ وسلوك المحكوم عليه ونتائج الفحوص المتخصصة والتقارير المهنية المعتمدة.
ويتيح التعديل الجديد للنيابة العامة متى رأت مبرراً لذلك أن تتقدم بطلب للمحكمة المختصة التي أصدرت الحكم، للأمر باتخاذ تدابير احترازية إضافية بعد انتهاء العقوبة الأصلية إذا ثبتت استمرارية خطورة المحكوم عليه، وكانت حالته تستدعي تطبيق هذا الإجراء حفاظاً على سلامة المجتمع، وتشمل هذه التدابير، الإيداع في مراكز التأهيل، أو الإيداع في المآوي العلاجية، أو الخضوع للإشراف أو المراقبة الإلكترونية، وذلك بهدف تعزيز سلامة المجتمع وحماية الأفراد الأكثر عرضة للضرر، ويخضع هذا الطلب لتقدير المحكمة.
كما تشمل التعديلات أيضاً منح المحكمة، وبناءً على طلب النائب العام، صلاحية إيقاف تنفيذ العقوبة المقيدة للحرية في بعض الجرائم الماسَّة بأمن الدولة، متى توافرت أسباب جِدِّية تدعو إلى الثقة في صلاح المحكوم عليه، وذلك بفرض تدبير أو أكثر من التدابير المنصوص عليها في المادة (235) من قانون الجرائم والعقوبات، على أن لا تجاوز مدة التدبير مدة العقوبة المحكوم بها أو المدة المتبقية منها، ويجوز للمحكمة الحكم بإلغاء أمر وقف التنفيذ وإعادة المحكوم عليه إلى المؤسسة العقابية لتنفيذ المدة المتبقية، بناءً على طلب من النائب العام، وذلك إذا خالف المحكوم عليه أياً من الشروط التي تضعها المحكمة أو ارتكب جريمة عمدية جديدة خلال مدة سريان التدبير، وذلك لضمان تحقيق التوازن بين متطلبات حماية أمن الدولة وإتاحة فرص الإصلاح وإعادة الدمج.
وأدخل المرسوم بقانون تشديدات صارمة على الجرائم المتعلقة بالاعتداءات الجنسية أو المواقعة بالرضا، حيث نصّ على معاقبة كل من أتم الـ18 من عمره بالسجن إذا واقع أنثى أو اتصل جنسياً مع شخص من ذات جنسه دون 18 عاماً، مدة لا تقل عن 10 سنوات وغرامة لا تقل عن 100 ألف درهم حتى لو كان ذلك برضاهما.
وأكد المرسوم بقانون أنه لا يُعتد بالرضا قانوناً إلا إذا كان المجني عليه قد أتم الـ16 من عمره، ونصّ التعديل كذلك على تطبيق أحكام قانون الأحداث الجانحين والمعرضين للجنوح على كل من لم يتم الـ18 من عمره وواقع برضاه أنثى أو اتصل جنسياً بذكر، وعلى كل من لم تتم الـ18 من عمرها وواقعها برضاها ذكراً أو اتصلت جنسياً بأنثى. ويأتي هذا التشديد ليعكس حرص الدولة على حماية القاصرين ومنع أي استغلال أو انتهاك بحقهم.
وتضمنت التعديلات أيضاً تشديد العقوبات على جرائم التحريض أو الاستدراج أو الإغواء على الفجور أو الدعارة، حيث نصّ المرسوم بقانون على أن تكون العقوبة الحبس لمدة لا تقل عن سنتين والغرامة لكل من ارتكب هذه الأفعال. وتكون العقوبة السجن والغرامة إذا كان المجني عليه دون الـ18، وذلك لضمان حماية الأحداث من أي ممارسات خطرة أو استغلال غير مشروع.
وأكدت التعديلات أن تحديث قوانين الجرائم والعقوبات يمثل ركيزة أساسية في مسيرة التطوير التشريعي بدولة الإمارات، ويعكس التزام القيادة الحكيمة بتعزيز الأمن المجتمعي وترسيخ العدل وصون كرامة الإنسان، وحماية الفئات الأكثر ضعفاً ضمن منظومة قانونية متطورة تستجيب لمتطلبات المرحلة وتستشرف المستقبل. وتمثل التعديلات إضافة مهمة إلى الجهود الوطنية في مكافحة الجريمة وتعزيز الردع وتطوير منظومة العدالة بما يضمن حماية المجتمع والمحافظة على قيمه الراسخة وأمنه واستقراره.
فيما أكد المستشار القانوني الدكتور يوسف الشريف، أن التعديلات الأخيرة على قانون الجرائم والعقوبات أتت لتؤكد من جديد أن التشريع في دولة الإمارات ليس نصاً جامداً بل كائن حيّ يتطور مع المجتمع، ويستجيب لتحولاته، ويضع الإنسان في قلب المعادلة القانونية دون الإخلال بأمن الدولة أو هيبة القانون، فهي تعديلات تعكس وعياً تشريعياً عميقاً بأن العدالة الحقيقية لا تتحقق بالعقوبة فقط، وإنما بالفهم، والتقييم، وإتاحة فرص الإصلاح متى كان ذلك ممكناً.
وقال إن من أبرز ما يلفت في هذه التعديلات هو الانتقال من منطق العقوبة الصِرفة إلى منطق التقدير القضائي المتوازن، عبر تمكين القضاء من الاستعانة بالتقييمات الطبية والنفسية والاجتماعية في بعض الجرائم الخطيرة، وهذا التوجه لا يضعف الردع، بل يعززه، لأنه يجعل القرار القضائي أكثر دقة وعدالة، ويمنع التعميم، ويُفرّق بين الخطورة الإجرامية المستمرة والحالات القابلة للإصلاح وإعادة الدمج في المجتمع.
وأضاف: «كما أن منح النيابة العامة صلاحيات أوسع لطلب تدابير احترازية بعد انتهاء العقوبة الأصلية، عند ثبوت استمرار الخطورة، يعكس حرص المشرّع على حماية المجتمع والفئات الأكثر عرضة للانتهاك، دون المساس بمبدأ المشروعية أو ترك الأمر دون رقابة قضائية، فكل إجراء هنا خاضع لتقدير المحكمة، وهو ما يحقق التوازن الدقيق بين الأمن والحرية».
وتابع: «يستحق البند المتعلق بالاعتداءات الجنسية وقضايا الاستغلال الجنسي وقفة خاصة، لما يمثله من تحول تشريعي واضح في التعامل مع هذه الجرائم بوصفها اعتداءً على الكرامة الإنسانية قبل أن تكون مجرد مخالفة جنائية، فالتعديلات جاءت حاسمة في تجريم أي اعتداء أو استغلال جنسي، لاسيما عندما يكون الضحية طفلاً أو حدثاً، وأغلقت بشكل صريح أي باب للاجتهاد أو التأويل الذي قد يُستخدم لتخفيف المسؤولية تحت مسمى (الرضا)». وأكد أن هذا التوجه يعكس إدراكاً تشريعياً متقدماً لطبيعة هذه الجرائم، التي غالباً ما تقوم على اختلال ميزان القوة، أو استغلال ضعف أو قلة وعي، لا على إرادة حرة حقيقية. ومن هنا فإن عدم الاعتداد بالرضا في هذه الحالات يُعد انتصاراً حقيقياً لمفهوم الحماية القانونية، ورسالة واضحة بأن جسد الإنسان وكرامته لا يقبلان المساومة أو التبرير.
وأضاف: «كما أن تشديد العقوبات على أفعال التحريض والاستدراج والإغواء يعكس فهماً عميقاً لخطورة الجرائم غير المباشرة التي قد تسبق الاعتداء ذاته وتمهّد له نفسياً وسلوكياً، خاصة في بيئات التواصل الرقمي، فالمشرّع لم ينتظر وقوع الجريمة في صورتها النهائية، بل تحرك لحماية المجتمع من مقدماتها ومظاهرها المبكرة».
وأكد أن هذه التعديلات لا تهدف فقط إلى الردع، بل تؤسس لثقافة قانونية ومجتمعية تحمي الضحايا، وتمنحهم الثقة في النظام القضائي، وتشجع على الإبلاغ وعدم الصمت، وهي رسالة مفادها أن الدولة تقف بوضوح إلى جانب الضحية، وتضع أمنها النفسي والجسدي فوق أي اعتبارات أخرى، في إطار تشريعي صارم، إنساني، وعادل.
وتابع: «هذه التعديلات في مجملها تعكس فلسفة قانونية ناضجة تقوم على سيادة القانون، وصون الكرامة الإنسانية، وتعزيز الأمن المجتمعي، مع فتح نوافذ الإصلاح وإعادة التأهيل حيثما أمكن، وهي رسالة واضحة بأن دولة الإمارات ماضية في بناء منظومة تشريعية حديثة، عادلة، ومرنة، تستشرف المستقبل وتحمي الإنسان والمجتمع في آنٍ واحد».
. التعديلات تؤكد أن العدالة الحقيقية لا تتحقق بالعقوبة فقط، وإنما بالفهم والتقييم، وإتاحة فرص الإصلاح أيضاً.

