بيروت- في باحة مركز الإيواء في مدرسة معروف سعد بصيدا، جلست أم حسن مثقلة بذكريات النزوح التي لا تفارقها.
بصوت مبحوح يعكس القلق والتعب، قالت “كنا نجلس قرب المنزل، وفجأة سمعت دوي صاروخين. شعرت بضغط هائل في أذني، وفقدت توازني وسقطت على الأرض. أنا أعاني من ضغط نفسي منذ حرب يوليو/تموز، وتعرضت لصدمات شديدة خلالها، وما حدث أمس أعاد إحياء كل تلك الذكريات المريرة”.
وتابعت وهي تكافح للحفاظ على تماسكها “سقط شهداء في بلدتنا، إسرائيل كانت تقصف وتحرق أشخاصا لا ذنب لهم. نحن نحاول الصمود، لكن النزوح والذل والبهدلة فوق قدرة أي إنسان على التحمل”.
في مشهد مهيب، نزحت آلاف العائلات من جنوب لبنان منذ ليلة الاثنين، هربا من القصف الإسرائيلي الأعنف منذ ما يقارب عقدين. هذا التصعيد العسكري أسفر عن سقوط نحو 550 شهيدا، بينهم 50 طفلا، و94 امرأة، و18 مسعفا، ووقوع 1835 جريحا، ودفع السكان إلى ترك منازلهم بحثا عن الأمان في مناطق بعيدة عن دائرة الخطر.
وقد شهدت الطرق المؤدية من مدينة صور الساحلية إلى العاصمة بيروت حركة نزوح غير مسبوقة، إذ امتلأت الشوارع بسيارات تقلّ النساء والأطفال مع بعض الأمتعة البسيطة، مما تسبّب في ازدحام مروري خانق امتد على طول الشريط الساحلي واستغرق ساعات لعبور مسافات لا تتجاوز بضعة كيلومترات.
توزيع النازحين
وتعدّ هذه الموجة الأكبر من نوعها منذ بدء المواجهات في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ لم تقتصر عمليات النزوح على المناطق القريبة من خطوط المواجهة الحدودية، بل شملت أيضا مناطق أوسع جغرافيا في جنوب لبنان، أصبحت غير آمنة تحت وطأة الغارات الجوية الإسرائيلية.
ففي مدينة طرابلس شمالا، استُقبل النازحون في 3 مراكز: المعهد الفندقي، ومركز دير عمار، إضافة إلى إيواء 200 عائلة في فندق كواليتي، كما وُزّع عدد كبير منهم على المنازل.
وأفاد مصدر للجزيرة نت بأن مدينة صيدا استقبلت نحو 10 آلاف نازح من مناطق خطوط المواجهة الثانية، تحديدا من قضائي صور والنبطية، ولا تزال حركة النزوح مستمرة بكثافة مع توقعات بزيادة الأعداد. وخُصص 15 مركزا لإيواء النازحين، بالإضافة إلى الجامعة اللبنانية التي تم تحويلها إلى مركز إيواء أيضا.
وقالت لين الراعي، المنسقة في جمعية التنمية للإنسان والبيئة، للجزيرة نت، “نحاول استقبال أكبر عدد ممكن من النازحين وتوزيعهم على مراكز الإيواء، كما نبذل جهودا كبيرة لاحتواء الغضب والتحديات التي يواجهها النازحون”. وأضافت “في البداية، يتوجه النازح إلى البلدية لتسجيل بياناته، ثم نعمل على توزيعهم على مراكز الإيواء المختلفة”.
تعاون وتنسيق
وأوضح أحمد البني من مؤسسة “الشهيد معروف سعد” -للجزيرة نت- أن مركز متوسطة معروف سعد الرسمية في صيدا استقبل أكثر من 540 نازحا حتى الآن، مع استمرار تدفق مزيد من النازحين.
وأشار إلى أن التنسيق يراعي احتياجات النازحين، حيث تُفرز العائلات وتُوزع على الغرف المتاحة ضمن الإمكانات المحدودة. وعلى الرغم من التحديات المتعلقة بقلة عدد الغرف، يبذل الفريق قصارى جهده لمواجهة هذا الوضع، خاصة مع تزايد أعداد النازحين الجدد من المناطق المعرضة للقصف، سواء من الشريط الحدودي أو المناطق المجاورة لصيدا.
وأكد البني التعاون القائم مع بلدية صيدا لتقديم الخدمات الأساسية الضرورية للنازحين، والتي تشمل الدعم اللوجستي والطبي. وأوضح أن توزيع الطعام يتم بجهود كبيرة تبذلها الجمعيات والمبادرات الفردية، لتوفير الوجبات يوميا للنازحين.
وفي السياق الصحي، لفت البني إلى استقبال المركز لحالات طارئة تتطلب رعاية خاصة، مثل مرضى ارتفاع ضغط الدم ومرضى السكري، بالإضافة إلى الأطفال الذين يعانون من ارتفاع في درجات الحرارة.
وأكد أن المركز يسعى لتلبية الاحتياجات الصحية الضرورية، كما تم توزيع المواد الغذائية، إلى جانب تنظيم أنشطة ترفيهية للأطفال لتخفيف وطأة الأزمة التي يعيشونها.
مأساة إنسانية
يستذكر إبراهيم رضا، النازح من بلدة المالكية في قضاء صور إلى بيروت، ما حدث ليلة العدوان الإسرائيلي، قائلا “تعرضت بلدتنا لقصف عنيف، وكان الدمار من حولنا هائلا. هناك عدد من أفراد عائلتي مصابون، والحمد لله أننا نجونا”.
يواصل رضا حديثه معبّرا عن مشاعر الأسى؛ “قضينا حوالي 4 ساعات في الطريق، وقلوبنا تنزف على ما تركناه خلفنا. لم نتمكن من أخذ الكثير، فقد كانت اللحظات حرجة. أحضرنا معنا بعض الأغراض، لكن لم يكن لدينا الوقت الكافي لجلب المزيد”.
ثم يأخذ نفسا عميقا ويضيف “كل الأماكن تعرضت للقصف، الله يخلصنا من إسرائيل”.
لا حياة لمن تنادي
وفي جانب من جوانب أزمة النزوح، يروي إسماعيل مصطفى وهو لاجئ سوري من شمال حلب -للجزيرة نت- أنه لجأ إلى لبنان مع عائلته منذ عام 2015، لكنهم اضطروا أمس إلى النزوح مجددا من بلدة برج حال في قضاء صور بسبب القصف العشوائي.
وبعد اتخاذ قرار النزوح، استغرقت رحلتهم إلى صيدا -التي تبعد 40 كيلومترا- حوالي 7 ساعات. وعند وصولهم، لم يجدوا من يقدم لهم أي مساعدة، واضطر أطفاله إلى النوم في الحديقة من دون مأوى أو طعام أو فراش.
وفي صباح اليوم، توجه مصطفى إلى البلدية لتسجيل أسمائهم والانتقال إلى مراكز الإيواء، لكنه فوجئ برفض تسجيلهم، بحجة أن السوريين تابعون للمفوضية، وعندما ذهب إلى المفوضية لم يجد أحدا، وختم قائلا “لا حياة لمن تنادي”.