أصدرت محكمة العدل الدولية رأيا استشاريا في 19 يوليو/تموز من العام الحالي بعنوان “الآثار القانونية الناجمة عن سياسات وممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة والقدس الشرقية” خلُصت فيه إلى أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وضمّها لها أمر غير قانوني، كما أن قوانينها وسياساتها ضدّ الفلسطينيين تمثل تمييزا عنصريا.
وقبل ذلك، كان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد أعلن في 20 مايو/أيار الماضي تقديم طلب لإصدار أوامر اعتقال ضدّ مسؤولين كبار في الكيان الإسرائيلي بتهمة التورط في ارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية في الحرب على غزة.
ليست هذه المرة الأولى التي يجد فيها الكيان الإسرائيلي نفسه في مواجهة العدالة الدولية، لكنه تعوّد بشكل ممنهج ومتعمّد على إظهار استخفافه بكل مبادئ القانون الدولي وأحكام الهيئات القضائية الدولية التي صدرت ضدّه، فقد وصف رئيس وزرائه الرأي الاستشاري الأخير لمحكمة العدل الدولية بأنه “خاطئ” و”كاذب”.
وكانت ردّة فعله على طلبات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين أكثر حدّة وتطرفا، لأنها المرّة الأولى التي يصبح فيها قادة الكيان مهدّدين شخصيا بأوامر الاعتقال.
وقد وصلت ردّة الفعل هذه إلى حدّ تهديد المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام نفسه، وصرّح وزير خارجية الكيان بأنه سيتحدّث مع وزراء خارجية الدول الكبرى، وفي جميع أنحاء العالم حتى يعارضوا قرار المدعي العام، ويعلنوا أنه حتى لو صدرت هذه الأوامر، فإنهم لا يعتزمون تطبيقها على قادة “إسرائيل”.
لا أحد يتوقّع أن يمتثل الكيان الإسرائيلي لقواعد الشرعية الدولية وهو أصلا تأسّس وتوسّع وتمدّد خارج إطارها.
لقد وُلد هذا الكيان بإرادة الدّول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في السنة نفسها التي استكملت فيها هذه الدول وضع قواعد النظام العالمي الجديد، وكان الهدف ضمان تحقيق مصالحها في أوقات السّلم دون الحاجة للجوء إلى القوة والحرب.
ولذلك، كان التفكير في وضع نظام قانوني دولي يقوم على حماية المصالح التي تمّ تغليفها بغلاف المبادئ والقيم الإنسانية كالعدل والسّلم، وحقوق الإنسان، وغيرها، وصارت الدول الأكثر قوة بمثابة السلطة العليا الآمرة التي تفرض تطبيق هذه القواعد بشكل انتقائي وبما يخدم مصالحها، وذلك عبر حصر سلطة تنفيذ قرارات الهيئات القضائية الدولية في مجلس الأمن الذي تملك فيه هذه الدول حق النقض.
ونتيجة لذلك، أصبح الكيان الإسرائيلي يشعر بأنه أعلى من النّظام القانوني الدولي، ويملك حصانة مطلقة في مواجهة أحكام القضاء الدّولي.
ولذلك فهو ينتفض عندما يُستهدف بأحكام العدالة الدولية، لأنه يرى أن كل النّظام الدولي ومؤسساته يجب أن تكون في خدمة مصالحه التي هي في حقيقة الأمر مصالح الدول الكبرى التي تحميه وتدعمه، لأن وجوده واستمراره يمثّل مصلحة حيوية يجب أن تكون كل قواعد ومؤسّسات النظام الدولي في خدمتها.
إن تجاهل الكيان لأحكام القضاء الدّولي يدعم من النّاحية النظرية أطروحة شائعة لدى الفقهاء القانونيين حول ما إذا كانت قواعد القانون الدولي تعدّ فعلا قواعد قانونية مُلزمة.
ذلك أن قاعدة القانون هي قاعدة عامة وملزمة، لأنها موجهة لكل المخاطبين بها دون استثناء، وهي مُلزِمة لأنها مُلحقة بجزاء توقعه سلطة عليا مشروعة تعلو إرادتها إرادة الكل، في حين أنه لا توجد مثل هذه السلطة في المجتمع الدولي، بل إن النظام الدولي قائم على احتكار عدد قليل من الدّول لسلطة القرار النهائي وفرض الأمر بالقوة إن لزم الأمر عبر مجلس الأمن الذي يعدّ بمثابة هيئة إنفاذ القانون الدولي.
وعندما يتعلّق الأمر بقضية فلسطين تحديدا، فإن الولايات المتحدة الأميركية تكون جاهزة في كل مستويات المؤسسات الدولية للدفاع عن الكيان الإسرائيلي وتحصينه من أي مساءلة، بل حتى إنكار جرائمه كما ذهب إلى ذلك المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي الذي بحسبه “لم تظهر لإدارته أي دلائل تشير إلى خرق جيش الاحتلال قواعد القانون الدولي الإنساني في عدوانه على غزة”، رغم أن حصيلة هذا العدوان وصلت إلى نحو 40 ألف شهيد جلّهم من المدنيين.
هكذا، ارتبط مصير قواعد القانون الدولي ومعها أحكام القضاء الدولي منذ البداية بإرادة الدول ومدى قوتها للدفاع عن مصالحها بواسطة تطويع أدوات القانون ومبادئه وقيمه.
وعلى الرغم من وجود حدّ أدنى من الامتثال لقواعد القانون الدولي حتى من قبل الدول الأكثر قوة وسطوة في العالم، فإن تجاهل الكيان الإسرائيلي ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية للمؤسّسات القضائية الدولية واستخفافه بقراراتها أثبت أن فعالية النظام القانوني الدولي مرتبطة بوجود المصالح، وليس لحماية المبادئ، وأنه عندما تقف مؤسّسات هذا النظام في مواجهة مصالح الدول الكبرى فإنها تَعمد مباشرة إلى انتقادها وضرب مصداقيتها وتهديدها، رغم أنها هي التي صمّمت هذا النّظام ووضعت قواعده.
وما يؤكّد ذلك، ردّ الفعل العنيف الذي بَدر من سياسيين في الولايات المتحدة الأميركية ضدّ قرار محكمة العدل الدولية الأخير.
إذ صرّح السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام بأن “محكمة العدل الدولية يجب أن تذهب إلى الجحيم، لقد حان الوقت منذ فترة طويلة للوقوف في وجه هذه المنظمات التي تسمى منظمات العدالة الدولية المرتبطة بالأمم المتحدة. إن تحيزها ضد إسرائيل ساحق”.
لكن غراهام نفسه أيّد إصدار مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب الحرب على أوكرانيا، قائلا “إن التسامح ونسيان جرائم الحرب التي ارتكبها بوتن من شأنه أن يلحق ضررا لا رجعة فيه بالنظام العالمي القائم على سيادة القانون، والذي تأسّس في نهاية الحرب العالمية الثانية”.
كما اعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن أن طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين بأنه “شائن”.
وفي السّياق ذاته، وقّع 12 عضوا من مجلس الشيوخ الأميركي بيانا هدّدوا فيه المدعي العام والمحكمة الجنائية الدولية بعقوبات أميركية صراحة بقولهم “استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم”.
تفقد الولايات المتحدة الأميركية إذن بسبب دعمها المطلق للكيان الإسرائيلي مصداقيتها، وتهدم صورتها بوصفها قائدة العالم الحر الذي تحكمه مبادئ العدل وسيادة القانون وحقوق الإنسان، ويسرّع استخفاف الكيان بالقانون الدولي من تآكل وانهيار منظومة العدالة الدولية بسبب تزايد الاقتناع بأن هذه المنظومة ليست سوى تجسيد لنظام مصالح تحميها قواعد القانون، وأنه يمكن دائما العبث بمبادئها والتنصل من الالتزامات التي تفرضها دون خشية من أي جزاء أو تبعات.
يجمع المراقبون والمحللّون السّياسيون وحتى خبراء القانون الدولي على أن القضية الفلسطينية تشكّل التحدي الأصعب أمام النظام القانوني الدولي، وهي تمثّل امتحانا لجدوى هذا النظام في حفظ الأمن والسّلم العالميين في كل مرّة يخرق فيها الكيان الإسرائيلي قواعد القانون الدولي.
ومن المؤسف القول إنه إلى الآن تفشل منظومة العدالة الدولية في حماية الشعب الفلسطيني وضمان حقوقه المشروعة، ومنذ أكثر من 300 يوم تقف هذه المنظومة عاجزة عن وقف الجرائم الأكثر بشاعة في التّاريخ الحديث التي يرتكبها الكيان في غزة.
ومع غياب الردع باعتباره جوهر أي سياسة جنائية في منظومة العدالة الدولية، وتكرار إفلات الكيان الإسرائيلي من العقاب -رغم ارتكابه المستمر منذ عقود لجرائم- صار من المؤكّد لدى كل هيئات القضاء الدولي بأنها ترقى لجرائم ضدّ الإنسانية، ازدادت الشكوك حول مدى فعالية النظام الدولي الرّاهن في تحقيق أهداف السّلم والعدالة في العالم.
لكن التساؤلات الأكثر إلحاحا الآن تتعلّق بما إذا كان فشل منظومة العدالة الدولية يعود إلى قصور في قواعدها وآلياتها بحيث يمكن إعادة ترميمها وإصلاحها، أم إن من الواجب الاعتراف بأن المجتمع الدولي لا يمكن أن ينتظم إلا وفقا لمنطق القوة الذي يقضي بأن الأقوى هو الذي يضع القواعد وهو الذي يختار متى وعلى من تطبّق، ومتى ما سقط هذا الأقوى سقطت معه منظومته، وكما أثبتت دروس التاريخ، فإنه لا مفرّ إذن لمن يريد تحقيق العدالة لنفسه أو لغيره من أن يسعى ليكون هو الأقوى، أو على الأقل أن يجد له مقعدا في طاولة الأقوياء.