بشكل عفوي وغير منظم انطلقت الاحتجاجات الشعبية في سوريا في مارس/آذار 2011 كرد فعل على ممارسات النظام المتراكمة، لكن شرارة البدء تمثلت باعتقال الأطفال في محافظة درعا وتوجيه إهانات إلى الوجهاء الذين طالبوا بإطلاق سراحهم.

بعد مضي 13 عاما كاملا على إطلاق شعار رحيل الرئيس بشار الأسد لا يبدو أن المطالب قد تغيرت حتى في ظل انحسار الانتشار الجغرافي وحالة اقتسام النفوذ على الأراضي السورية التي أفرزت 4 مناطق سيطرة بين مختلف القوى المحلية وداعميها الدوليين.

تجددت المظاهرات الشعبية في شمال وجنوب البلاد بالتزامن مع حلول الذكرى الـ13 لاندلاع الثورة السورية، وأكد المتظاهرون على تمسكهم بمطالبهم، مع متغير جديد وهو التنديد ببعض سلطات أمر الواقع التي تسيطر اليوم على مواقع معينة، في ظل حالة تجميد للصراع بين المعارضة السورية والنظام منذ مارس/آذار 2020 وثبات في خطوط الاشتباك.

من العفوية إلى التنسيق

أتت مظاهرة سوق الحميدية وسط العاصمة السورية دمشق في 15 مارس/آذار 2011، حيث تجمع العشرات من المواطنين والتجار في السوق الحيوي المعروف ونددوا باعتداء قوى أمنية على أحد التجار، ثم أطلقوا صيحات تنادي بالحرية، رافضين حالة الكبت السياسي التي عاشتها سوريا لعقود طويلة، متأثرين برياح التغيير التي هبت على المنطقة وأطاحت برئيس تونس زين العابدين بن علي والرئيس المصري حسني مبارك.

بعد حادثة سوق الحميدية ظهرت كتابات على جدران مدينة درعا تطالب الرئيس بشار الأسد بالرحيل، فقامت الاستخبارات التابعة للنظام بتوقيف من اشتبهت بهم وكانوا في الأغلب مراهقين دون سن الـ18.

ثم استفزت الاستخبارات وجهاء المحافظة عندما فاوضوها على إطلاق سراح الموقوفين، ووجهوا إليهم إهانات لتكون الشرارة التي أشعلت المحافظة بمظاهرات عديدة اعتبارا من 18 مارس/آذار ثم تضامن معها السوريون في باقي المحافظات، خاصة حمص وإدلب وريف دمشق.

اعتمد النظام السوري منذ البداية المقاربة الأمنية لإيقاف المظاهرات، ولم يتردد حتى في إطلاق النار المباشر عليهم، ومع سقوط أول ضحايا الاحتجاجات برصاص قوات الأمن في محافظتي درعا وحمص اندفع المتظاهرون الغاضبون لرفع سقف المطالب والانتقال من المناداة بالإصلاح وتوسيع الحريات إلى إسقاط النظام السوري.

ظهرت تدريجيا مع استمرار المظاهرات العفوية طبقة مع النشطاء الذين عملوا على تنظيمها وتحديد مواعيد وأماكن الخروج إلى الشارع، بالإضافة إلى تنسيق الشعارات التي يتم رفعها.

وبعد أشهر قليلة ظهرت لجان التنسيق المحلية أو ما تعرف شعبيا باسم “تنسيقيات الثورة”، ثم انتظمت بشكل أكبر ضمن جسم واحد تحت اسم “اتحاد تنسيقيات الثورة السورية” الذي أصدر بيانه الأول في يونيو/حزيران 2011، وأصبح مسؤولا عن تحديد أيام الجمعة موعدا للخروج في المظاهرات لاستغلال التجمعات الشعبية في المساجد، بالإضافة إلى صياغة شعارات كل أسبوع.

شرارة العمل المسلح

بعد شهرين على انطلاق المظاهرات رأت لجان التنسيق ضرورة الانتقال إلى مرحلة الاعتصامات الكبيرة في ساحات المحافظات العامة، فاتفقت لجان التنسيق في محافظة إدلب على التوجه إلى ساحة المحافظة في 20 مايو/أيار 2011 ضمن أحد أيام الجمعة التي أطلق عليها المنسقون اسم “جمعة الحرية” أو “آزادي” بالكردية، للتأكيد على توحيد مطالب مختلف مكونات الشعب السوري.

تعرض المتظاهرون لإطلاق نار يعتقد أن مصدره معسكر المسطومة قبل مدخل مدينة إدلب الغربي، مما أدى إلى مقتل 8 متظاهرين وجرح عدد آخر وانشقاق بعض عناصر القوات الأمنية التي استنكرت الفعل.

بعد حادثة معسكر المسطومة عاد المتظاهرون الغاضبون إلى مدن وبلدات إدلب واستولوا على أسلحة خفيفة بعد اقتحامهم مخافر الشرطة وأفرع حزب البعث العربي الاشتراكي، واستخدموها لاحقا في منع القوات الأمنية من التوجه إلى مدينة جسر الشغور في مطلع يونيو/حزيران 2011 وتكرار ما فعلوه قرب معسكر المسطومة.

كانت القوات الأمنية تسعى إلى فض اعتصام جديد في ساحة المدينة يشارك فيه الآلاف، وبالفعل اعترض شبان مسلحون عند بلدة أورم الجوز غرب مدينة أريحا الواقعة على طريق “إم فور” القوات الأمنية وتبادلوا معها إطلاق النار.

تطورت الأحداث ليحاصر الشبان مفرزة الأمن العسكري في مدينة جسر الشغور، واشتبكوا معها بعد إطلاق عناصر المفرزة النار على المتظاهرين المتجمعين أثناء تشييع أحد ضحايا الاحتجاجات.

كانت هاتان الحادثتان باكورة الأعمال المسلحة العلنية ضد القوات الأمنية التابعة للنظام السوري، وساهمت في تسريع الزج بوحدات الجيش في المواجهة مع المحتجين وعناصر حماية المظاهرات المسلحين.

الانشقاقات العسكرية

في بداية يونيو/حزيران 2011 ظهرت الانشقاقات العسكرية عن الجيش الذي تم الدفع به للسيطرة على المدن والبلدات، وكان في طليعة المنشقين المقدم حسين هرموش الذي أعلن تأسيس حركة الضباط الأحرار، وتبنى نصب كمائن للقوات الأمنية التي حاولت التقدم باتجاه مدينة جسر الشغور.

بعد الإعلان عن حركة الضباط الأحرار سيطر الجيش التابع للنظام السوري على جسر الشغور، وغاب الهرموش عن المشهد، حيث دخل إلى تركيا، قبل أن يقع في كمين على الحدود السورية التركية، واعتقلته قوات النظام ثم أعدم.

ظهر بعد ذلك العقيد المنشق رياض الأسعد الذي أعلن من ريف إدلب الجنوبي تأسيس الجيش السوري الحر في يوليو/تموز 2011، وأصبح هذا المسمى لاحقا هو الشعار الجامع الذي تنفذ الكتائب العسكرية التي تشكلت من متطوعين مدنيين عملياتها باسمه.

في أواخر عام 2012 استضافت مدينة أنطاليا التركية مؤتمرا جمع أكثر من 300 شخصية معارضة سورية بالإضافة إلى عسكريين يقودون كتائب مسلحة، وتم الإعلان عن تشكيل هيئة أركان برئاسة العميد المنشق سليم إدريس.

أصبحت هذه الهيئة مسؤولة عن استلام الدعم العسكري الذي تقدمه الدول الصديقة للمعارضة السورية وتوزيعه على الفصائل العسكرية الموزعة على 4 مناطق جغرافية.

وفي عامي 2013 و2014 أسست الدول الداعمة للمعارضة السورية غرفتي تنسيق الدعم “الموك”، وهي غرفة قيادة وتنسيق وإصدار أوامر مخصصة للجنوب السوري ومقرها درعا، و”الموم” وهي غرفة العمليات المشتركة ومخصصة لشمال سوريا.

ومع هذه التطورات أصبحت الفصائل العسكرية المعارضة للنظام السوري تعتمد بشكل شبه كامل على الدعم الدولي.

كان لإعلان غرف الدعم العسكري تأثير على بلورة هيكلية الفصائل التابعة للمعارضة السورية المسلحة، ولكن منذ عام 2014 وقعت جملة من الأحداث التي أثرت بشكل بالغ على واقع هذه الفصائل سلبا وإيجابا إلى أن وصلت إلى مرحلة تقاسم النفوذ الحالية على الأراضي السورية.

الإعلان عن الخلافة الإسلامية

ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق منذ منتصف عام 2013، ومع حلول صيف 2014 توسع نشاطه بشكل أكبر، وجرى الإعلان عن “الخلافة الإسلامية” ومبايعة أبو بكر البغدادي خليفة للتنظيم الذي استقطب الآلاف من المقاتلين العراقيين والسوريين والأجانب.

وسع تنظيم الدولة سيطرته على حساب فصائل المعارضة السورية بالدرجة الأولى، خاصة في أرياف حلب وإدلب وحماة وحمص، مما أدى إلى تفكيك فصائل بارزة في المعارضة السورية، أهما لواء التوحيد الذي تأسس بقيادة عبد القادر الصالح (حجي مارع) في يوليو/تموز 2012 وضم أغلبية الكتائب والمجموعات العسكرية المعارضة للنظام السوري التي تعمل في ريف حلب.

في سبتمبر/أيلول 2014 أعلنت أكثر من 60 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية تشكيل التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة في العراق وسوريا.

وجد هذا التحالف في المقاتلين الأكراد حليفا مهما على الأرض، فاستفاد هذا التشكيل من دعم التحالف الدولي ووسع سيطرته تدريجيا على حساب تنظيم الدولة ثم فصائل المعارضة السورية المسلحة، وبات يسيطر على مدينة الرقة وأجزاء واسعة من الحسكة ودير الزور وريف حلب.

وبعد الإعلان عن التحالف نشرت القوات الأميركية المئات من مقاتليها بشكل تدريجي شمال شرق سوريا، ووزعتهم على أكثر من 9 مواقع في الحسكة ودير الزور والرقة.

آثار قصف للنظام على حلب (الجزيرة)

التدخل العسكري الروسي

انخرطت إيران بشكل واسع في دعم النظام السوري ضد المعارضة السورية المسلحة عن طريق إرسال خبراء من الحرس الثوري الإيراني والاستعانة بفصائل مدعومة من طهران، مثل حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي ولواءي “فاطميون” الأفغاني و”زينبيون” الباكستاني.

لكن المعارضة تمكنت من الاستحواذ على مساحات واسعة من الأراضي السورية، وشارفت على حسم الحرب لصالحها في مطلع عام 2015 عندما شنت فصائلها في ريف دمشق ومحافظة إدلب هجوما متزامنا على مواقع النظام في دمشق وإدلب نتجت عنه السيطرة بشكل شبه كامل على محافظة إدلب والوصول إلى أبواب محافظة اللاذقية التي تؤوي أكبر حاضنة شعبية للنظام.

كما هددت المعارضة سيطرة النظام على العاصمة دمشق، مما دفع روسيا إلى اتخاذ قرار التدخل العسكري المباشر في سبتمبر/أيلول 2015، فأرسلت أسراب طائرات حربية ومستشارين عسكريين لمساندة النظام السوري والفصائل المدعومة من إيران، وأسست قاعدة جوية في حميميم بريف اللاذقية وأخرى بحرية في طرطوس.

عقدت روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية اتفاقا في فبراير/شباط 2016 يعرف باسم “كيري- لافروف” نسبة إلى وزيري خارجية البلدين آنذاك، وتضمن تقسيم السيطرة على الأجواء السورية إلى غرب نهر الفرات وشرقه، وتقرر أن تكون المنطقة الأولى تحت سيطرة روسيا والأخرى تحت سيطرة واشنطن.

خلال تلك الفترة لم تكن الولايات المتحدة مهتمة بدعم المعارضة بحجة التركيز على هزيمة تنظيم الدولة، وحولت دعمها تدريجيا لصالح وحدات حماية الشعب الكردية التي أصبح اسمها في ما بعد “قوات سوريا الديمقراطية”، مع إيقاف الدعم بشكل كامل عن المعارضة السورية في بداية 2016.

مهّد الاتفاق الأجواء لقيادة روسيا عمليات عسكرية عدة ضد المعارضة السورية، أولاها استهدفت تقويض سيطرة المعارضة على أحياء مدينة حلب الشرقية، وانتهت بمغادرة الفصائل هذه الأحياء في ديسمبر/كانون الأول 2016 تحت ضغط الغارات الجوية والمجازر بحق المدنيين.

اتفاق أستانا

وفي أعقاب ذلك تم توقيع اتفاق أستانا لخفض التصعيد بمشاركة تركيا وروسيا وإيران، وانتشرت بموجبه نقاط مراقبة للدول الضامنة داخل الشمال السوري وفي محيطه، خاصة تركيا التي دفعت بآلاف الجنود إلى الشمال السوري.

بعد سقوط حلب نفذت روسيا عملية عسكرية مماثلة في الغوطة الشرقية مماثلة لعملية حلب انتهت باتفاق تهجير الفصائل ومن يرغب من معارضي النظام السوري باتجاه الشمال في أبريل/نيسان 2018.

في 2018 وقعت روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل والأردن والإمارات اتفاق القدس الأمني، وبموجبه تم إنهاء دعم فصائل المعارضة السورية الجنوبية، وإتاحة المجال أمام سيطرة قوات النظام السوري على محافظتي درعا والقنيطرة بموجب تعهدات روسية بمنع نشاط الفصائل الإيرانية قرب هضبة الجولان المحتلة.

وانتهى الأمر باتفاق التسوية صيف عام 2018، والذي أتاح المجال لمن يريد المغادرة من فصائل درعا باتجاه الشمال السوري، وبقاء من يرغب مع تسليمه السلاح الثقيل.

في مايو/أيار 2019 اتجهت روسيا لحسم المعركة في إدلب، وأطلقت حملة عسكرية سيطرت من خلالها على مساحة جغرافية واسعة من ريف حماة وجنوب إدلب، لكنها اصطدمت بالموقف التركي الرافض لاستمرار العمليات العسكرية، خاصة في ظل انتشار القوات التركية في المنطقة بموجب تفاهمات أستانا، وتم توقيع اتفاق مارس/آذار 2020 الذي جمد الصراع بين النظام السوري والمعارضة.

ناشطون سوريون ينددون بالعدوان الروسي على بلادهم (مواقع التواصل الاجتماعي)

التدخل العسكري التركي المباشر

أطلقت تركيا في أغسطس/آب 2016 سلسلة عمليات عسكرية ضد تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني المنتشر على الأراضي السورية بموجب تفاهمات مع الأطراف الدولية الفاعلة في الملف، وبدأت بعملية درع الفرات التي شاركت فيها فصائل من المعارضة السورية، ونتج عنها طرد تنظيم الدولة من جرابلس والباب بريف حلب.

في يناير/كانون الثاني 2018 نفذت تركيا عملية غصن الزيتون ضد مجموعات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، ودعمت من خلالها سيطرة فصائل من المعارضة السورية منضوية ضمن مسمى “الجيش الوطني” -الذي تأسس صيف 2017 بدعم تركي- على مدينة عفرين.

بعد ذلك، كانت عملية نبع السلام في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ضد حزب العمال الكردستاني وكان نطاقها الجغرافي مدينة رأس العين في الحسكة، وتل أبيض في الرقة، وحملت هذه العملية أهمية خاصة كونها أول اختراق لتركيا في منطقة شرق الفرات الخاضعة للنفوذ الأميركي.

أفرزت تلك الأحداث الواقع الحالي على الأراضي السورية، من حيث انقسام مناطق السيطرة بين قوات سوريا الديمقراطية شمال شرق سوريا، وفصائل الجيش الوطني السوري المدعومة تركيا، والمنتشرة في ريف حلب ورأس العين وتل أبيض، بالإضافة إلى منطقة إدلب الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام التي أعلنت في صيف 2016 الانفكاك عن تنظيم القاعدة والتخلي عن اسم جبهة النصرة.

كما يحافظ النظام السوري اليوم على مساحة واسعة من البلاد بدعم من روسيا وإيران، في ظل ثبات تام لخطوط الاشتباك وجمود المفاوضات السياسية التي توقفت بشكل كامل بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية والخلافات التي تفاقمت بين روسيا والغرب.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version