بناء الجسور وملء الفراغات
منذ سنة 2000، حين أنشئ منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC) بدأ التوجه الصيني نحو أفريقيا بمنطلقات جديدة، وباتت بعد نحو عقدين أكبر شريك تجاري للقارة، والمستثمر الأكبر فيها، وهي أكبر دائن لها أيضا، وما زال هذا المنتدى الذي يعقد كل 3 سنوات يمثل حجر الرحى في العلاقات الأفريقية الصينية، وانبثقت عنه عمليا 36 وكالة تنفيذية.
ويعد المنتدى أحد البرامج والمبادرات والتجمعات التي أطلقتها بكين، لتحفيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول الجنوب العالمي، بما فيها أفريقيا، ومنها “مبادرة الحزام والطريق” (عام 2013) التي تضم 52 دولة أفريقية، و”مبادرة التنمية العالمية” (عام 2021)، التي تهدف إلى تضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، إضافة إلى “مبادرة الحضارة العالمية” و”مبادرة الأمن العالمي” التي يندرج ضمنها “منتدى السلام والأمن الصيني الأفريقي”.
ودأبت الصين في سياق التحولات العالمية والصراعات الجيو إستراتيجية للترويج لنفسها باعتبارها نموذجا ومرجعية “أكثر فائدة لأفريقيا من الغرب”، نظرا إلى أنها تتشارك مع دولها “الخلفيات التاريخية المتشابهة، ونقاط انطلاق متماثلة، ومهمة مشتركة تتمثل في ضرورة التحول السريع، وفق شي جين بينغ، الذي بات يعتبر بلاده “المدافعة عن العالم النامي”.
ومقابل “إهمال” الغرب لأفريقيا، تتسم سياسة الصين في القارة بطابع مؤسسي شديد التنظيم، لا تركز على الاقتصاد فقط، بل أيضا على الجوانب السياسية والبرلمانية والتعليمية والإعلامية والأمنية والعسكرية ويتم تحت إشراف مباشر من كبار مسؤوليها وقادتها.
فبين عامي 2008 و2018، زار كبار المسؤولين الصينيين أفريقيا 79 مرة، وقام الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني والرئيس شي جين بينغ بين عامي 2014 و2020 بـ10 زيارات إلى أفريقيا مقابل 48 زيارة لوزير الخارجية وانغ يي.
وعلى الصعيد السياسي يعمل المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني (التابع للحزب الشيوعي الصيني) مع 59 منظمة سياسية في 39 دولة أفريقية، ويرتبط بعلاقات مع 35 برلمانا أفريقيا.
كما تدير إدارة الاتصال الدولي للحزب الشيوعي الصيني -وهي جهاز تابع للجنة المركزية ووكيل تنفيذي لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي- بعلاقات مع 110 أحزاب سياسية في 51 دولة أفريقية، وتشرف إدارة الجبهة المتحدة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني على أكثر من 30 “جمعية واجهة” في 20 دولة أفريقية، وفق بيانات مركز الدراسات الإستراتيجية لأفريقيا.
ومنذ عام 2018، تستضيف الصين سنويا مسؤولين حكوميين أفارقة وملحقين عسكريين وأمنيين من 50 دولة أفريقية لمدة أسبوعين، لحضور ندوات وزيارة مواقع جيش التحرير الشعبي والبحرية، تتولى تدريب قوات أمنية وعسكرية. وتتولى أيضا تدريب آلاف الطلاب والمهنيين الأفارقة، بنسبة أكثر من أي دولة صناعية أخرى، وفق تقرير لمجلة فورين أفيرز الأميركية.
وحسب بيانات وزارة التعليم الصينية، يبلغ عدد الطلاب الأفارقة المسجلين في المؤسسات الصينية أكثر من 81 ألف طالب عام 2018، مقارنة بأقل من 2000 في عام 2003، وهو ما يمثل 16.5% من إجمالي الطلاب الأجانب في البلاد. وتشير منظمة اليونسكو إلى أن 16% من جميع المنح الدراسية للطلاب الأفارقة تتم عبر الحكومة الصينية.
وتخطط الصين أيضا لتدريب 500 مدير ومعلم من ذوي الكفاءة العالية في الكليات المهنية كل عام، و10 آلاف موظف فني لتدريبهم على اللغة الصينية والمهارات المهنية.
وحسب آخر الإحصاءات (عام 2019) قدمت الصين نحو 50 ألف منحة جامعية للطلاب الأفارقة سنويا، و50 ألف حصة تدريبية لموظفي الخدمة المدنية، وكبار المسؤولين التنفيذيين والقادة الطموحين، و2000 حصة تدريبية للشباب بينها حوالي 10% مخصص لقطاع الأمن في أفريقيا. وتنتشر أيضا معاهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية في 46 دولة أفريقية، إضافة إلى مدارس الحزب الشيوعي الصيني في بعض البلدان.
وتمثل هذه الأنشطة المتنوعة، التي “تستثمر في بناء رأس المال الاجتماعي والبشري إضافة إلى مشاريع البنية الأساسية العملاقة” -حسب تقرير لفورين أفيرز- توسعا هائلا لنفوذ الصين في مختلف أنحاء القارة، يستند إلى تصور واضح للأهمية الجيوسياسية لأفريقيا حاضرا ومستقبلا. وتشير الصحيفة إلى أن جهود بكين تؤتي ثمارها مبدئيا، حيث يقيّم 63% من الأفارقة نفوذ الصين في القارة بشكل “إيجابي”.
وتحصد الصين ثمار هذه الإستراتيجية سياسيا المحافل الدولية، في سياق صراع دولي على النفوذ، وتجتذب البلدان الأفريقية أكثر إلى رؤيتها للعالم، فقد أقنعت من 50 دولة أفريقية في الأمم المتحدة بعدم الاعتراف بتايوان كدولة أو إلغاء الاعتراف بها كدولة، باستثناء دولة إسواتيني (سوازيلاند سابقا)، وهي واحدة من بين 13 دولة في العالم ما زالت تعترف بتايوان.