جنين- كعادته كل صباح تقريبا، يسير الحاج أبو نضال في شوارع مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين بالضفة الغربية متجها لساحة المخيم، وتحديدا إلى بقايا موقع محطة القطار العثماني، ليقضي بعض الوقت رفقة غيره من كبار السن في المخيم.
يقول أبو نضال إن جلوسه هنا يشعره بوجوده، منتظرا موعد عودته إلى حيفا التي هُجّر منها خلال نكبة عام 1948، لكنه يقول بأسى إنه قد ملّ الانتظار، وإن قطار عودته إلى حيفا يأبى حتى اليوم الوصول إلى المحطة.
ويضيف “يبدأ انتظارنا المجازي هنا منذ الثامنة صباحا، وقد يصل إلى وقت متأخر من الليل في بعض الأحيان، نحن نعرف أن المحطة توقفت عن العمل منذ زمن طويل، وأنه لا قطار قد يحملنا إلى أراضينا في الداخل المحتل، لكننا نربي الأمل”.
بنيت محطة القطار العثماني قبل حوالي 115 عاما، وكانت تربط بين سوريا ولبنان وشمال فلسطين، مرورا بجنين ووصولا إلى القدس ثم إلى الحجاز.
وعند احتلال بريطانيا فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت ملكية المحطة إلى قوات الاحتلال الإنجليزية التي أشرفت عليها حتى عام 1948، عندها دمرت إسرائيل أجزاء كبيرة من المحطة وتوقف العمل فيها بعد أن كانت تخدم خط قطار “الشام- الحجاز”.
فكرة مجازية
في الشارع الرئيسي للمخيم الذي كان يضم خطوط سكة القطار الثلاثة، يقف جهاد حسان أمام محله قائلا: “من عتبة باب دكاني هذا وحتى بوابة المسجد المقابل، كانت هنا الخطوط الحديدية لسكة القطار. أذكر أنني في سنوات طفولتي كنت ألعب مع أقراني عليها، وبالطبع كنّا نستمع لحكايات الأهالي والأجداد عن كيفية تنقل الفلسطينيين عبر محطة القطار من فلسطين إلى الحجاز وبالعكس”.
وفي حديثه للجزيرة نت، يضيف حسان “شاء القدر أن يقام المخيم على أنقاض المحطة، لتتعمق مجازية محطة العبور أكثر في نفوس الأهالي اللاجئين هنا”.
ويوضح أن القضية نفسية، متابعا “نجلس أمام محطة القطار لنشعر بحتمية عودتنا، نحمل مفاتيح المنازل وكواشين (سندات ملكية) الأراضي لنؤكد أحقية العودة، نسمي المخيم محطة انتظار لحين العودة ليزداد الأمل بالعودة”.
وحتى بداية السبعينيات، كانت آثار خطوط السكك الحديدية واضحة في المخيم، حيث أقيمت ثلاثة خطوط للسكة الحديدية في هذه المنطقة، ويمكن القول إن مخيم جنين للاجئين بني على أنقاض محطة سكة القطار العثماني، وإن شوارعه رصفت فوق خطوط السكة الحديدية.
وبعد حرب عام 1967، نقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي بقايا السكك الحديدية المنتشرة في المدن الفلسطينية، بما فيها سكة القطار العثماني، لتستخدمه في بناء خط بارليف على الضفة الشرقية لقناة السويس، وهو الخط الذي دمره الجيش المصري خلال عبور القناة في بداية حرب عام 1973.
آثار وبقايا محطة القطار
وسط المخيم تظهر بقايا مبنى محطة القطار العثماني بشكل واضح، حيث يوجد مبنى مرتفع من الحجارة القديمة التي استخدمت في تلك الفترة في بناء البيوت الفلسطينية، ويرتفع من المبنى مدخنة صغيرة، فيما علقت لافتة باللون البني على جدار الغرفة السفلية للمبنى مكتوب عليها بخطوط بيضاء شرحا موجزا للمحطة.
وهذه المحطة واحدة من عدة محطات موجودة في فلسطين أقامتها الدولة العثمانية في تلك الفترة، منها محطة طولكرم ومحطة المسعودية القريبة من مدينة نابلس.
اليوم تستعمل الغرفة السفلية للمحطة محلا لتصليح إطارات السيارات، وعلى الرغم من أن صاحبه ليس من جيل النكبة، فإنه يحمل ذات الرابط النفسي عند الحديث عن محطة القطار.
يقول صاحب المحل حامد طوالبة (37 عاما) إن هذه الحجارة تعطي أملا بالعودة، مضيفا “نحن نتحدث عن أجيال عايشت قطار الحجاز، وأجيال أتت من بعدها. فكرة وجود محطة لانتظار المسافرين في المخيم تعطي الأمل في نفوس هذه الأجيال على اختلاف أعمارها، بأن المخيم هو أيضا محطة انتظار للعودة ليس إلا”.
تكريس حق العودة
إلى جوار طوالبة، أقام إبراهيم أبو سرية (77 عاما) دكانا لبيع الخضار، حيث اعتاد القدوم إلى الساحة وسط المخيم حين كان طفلا رفقة والده الذي كان يجلس مع كبار السن هنا يتسامرون ويذكرون أيام البلاد، كما اصطلح الفلسطينيون على تسميتها، ويقصدون بها المدن والقرى التي هُجّروا منها عام 1948، واليوم يأتون إلى دكان أبو سرية للجلوس تحت محطة سكة القطار العثماني.
يقول أبو سرية “أنا لاجئ من قرية زرعين بقضاء حيفا، كنت رضيعا لم يكمل العام حين حدثت النكبة، وتركنا قرية زرعين، لكني كبرت على حديث أهلي عن زرعين، القرية الزراعية الخصبة المعروفة بمدرستها ومعلميها، والمشهورة بشجر الصبر فيها، لذا أنا أيضا أنتظر العودة كما انتظرها والدي وكافة أفراد عائلتي”.
ويضيف “ربما لا يمكنني أن أشرح ما يعنيه وجودنا بالقرب من محطة سكة القطار العثماني، لكنها ترتبط بالعودة في عقلية كل لاجئ بالمخيم، فقديما انتظر المغادرون قطارا يقلهم إلى وجهاتهم المختلفة، وحاليا في هذه الساحة ينتظر كل أبناء المخيم طريقة تعيدهم إلى أراضيهم وأملاكهم وقراهم التي هجروا منها قسرا قبل 75 عاما”.