رغم إخفاق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته من تحقيق الأهداف المعلنة لحربه على قطاع غزة، إذ فشل في القضاء على حماس وتحرير المحتجزين، وفي فرض التصور الإسرائيلي لليوم التالي في القطاع، وفي تهجير الفلسطينيين، رغم أنه استنفد كل ما هو ممكن من تحالفات عالمية وأدواته الاستخباراتية، فإنه ما زال يحاول إظهار إسرائيل بصورة الدولة التي لا تُقهر.

ويرى مراقبون أن نتنياهو يعيش حالة من عدم الواقعية السياسية أو ما توصف بـ “حالة الإنكار”، رفضا لفكرة الهزيمة أو الفشل، إذ يمكن للمشاهد ملاحظة الانتقائية فيما تعلنه إسرائيل وما تخفيه ويسرب سرا للإعلام.

ويتدثر رئيس الوزراء الإسرائيلي بالغطاء الديني لتحقيق أهداف عسكرية في حرب وصفت بأطول حرب في تاريخ إسرائيل، وهي حرب استنزاف انتقلت إلى الداخل وتسببت فيما توصف بأنها آثار كارثية على الأمن الإسرائيلي والاقتصاد والزراعة والتكنولوجيا، إلى جانب تصدع الجبهة الداخلية وخلق أزمات ترافق جنوده، رغم تكتمه عليها.

وهنا نكشف عن الوجه الآخر للحرب في غزة، وكيف أثر طوفان الأقصى والحرب على غزة التي تخطت العام على إسرائيل من الداخل والخارج، وما يحاولون إخفاءه بشتى السبل.

الدين.. رهان نتنياهو الخاسر

عمدت إسرائيل إلى تداول مصطلح “الحرب الدينية” منذ بدء عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ليصبح من أكثر المصطلحات تداولا رسميا وإعلاميا وفي سياق أزمات الاحتلال الداخلية وحربه في غزة ولبنان.

وبات واضحا أن نتنياهو يعول كثيرا على وضع الحرب في سياقات دينية، إذ استبدل اسم العدوان الإسرائيلي على غزة من “السيوف الحديدية” إلى “حرب القيامة”، في إشارة منه على ما يبدو إلى معركة هرمجدون (جبل مجدو) التي وصفتها المصادر التوراتية بأنها حرب بين الخير والشر أو بين الله وبين الشيطان.

وثمة أسباب تكمن وراء حرص نتنياهو على زج كل ما يقوم به تحت الغطاء الديني، فإلى جانب تبرير الجرائم الدموية في غزة، يحاول تعزيز الجبهة الداخلية المليئة بالتناقضات والتفكك، معتقدا أن إشغال الرأي العام الإسرائيلي بفكرة وجود تهديد خارجي يكسبه تأييدا شعبيا ودوليا.

ويرى خبراء أن ما يقوم به نتنياهو يعد رهانا خاسرا، فلم تعد الإغراءات الدينية قادرة على حشد المزيد من المقاتلين وخاصة مع عودة قضية تجنيد اليهود المتدينين المتشددين (الحريديم) لتشكل أزمة داخل الحكومة الإسرائيلية.

 

فقد قالت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية، في يوليو/تموز الماضي، إنها حصلت على تسجيل صوتي للحاخام الأكبر السابق لإسرائيل يتسحاق يوسف يقول فيه “كل عالم توراة معفى من التجنيد، حتى الشخص العاطل الذي لا يدرس”.

وأضاف “مَن ينضمون إلى الجيش يفسدون. هناك مجندات وضابطات وألفاظ نابية، هناك أشياء فظيعة وغير لائقة، لا تذهبوا إلى هناك”. وتابع يوسف “أي شخص يتلقى إشعارات يجب أن يمزقها ولا يذهب. إنه مع التوراة، وإذا أخذوه إلى السجن، فسيذهب معه رئيس مدرسته الدينية”.

في حين تشير الأرقام إلى ما هو أخطر من ذلك، فهناك 18 ألفا من جنود الاحتياط القتاليين لا يحضرون عند استدعائهم، ولا تستطيع إسرائيل جلبهم بالقوة، كما أن 15% تسربوا أثناء خدمتهم ولم يدخلوا مجموعة الاحتياط على الإطلاق، في ظل نقص هائل يواجهه الجيش الإسرائيلي في عدد المقاتلين.

وسُجلت حالات انتحار في صفوف جنود الاحتياط الذين يشكلون القوة الرادفة للجيش، إلى جانب إعلان الجيش حاجته إلى 7 آلاف جندي إضافي لم يلتحق منهم سوى 1500 جندي، وحصل الباقي على إعفاءات طبية أو تهرّب من الخدمة العسكرية بطريقة ما.

ولم يعد صراع المفاهيم الدينية المتصاعد في أوساط جيش الاحتلال عاملا للاستمرار، إذ بدأت تتجلى أيضا ردود فعل مضادة ورافضة للخدمة العسكرية، وهو ما كشفت عنه صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية في يونيو/ حزيران 2024، عن أن 42 جندي احتياط خدموا في الجيش خلال الحرب الراهنة وقّعوا نهاية مايو/أيار الماضي أول رسالة رفض خدمة منذ اندلاع الحرب، قالوا فيها “لن نعود إلى الخدمة العسكرية في غزة حتى لو دفعنا ثمن موقفنا”.

واللافت أن الحكومة الإسرائيلية تمنح جنود الاحتياط مزايا تختلف عن بقية المقاتلين، إذ تمنحهم رواتب شهرية ضعف ما يحصل عليه الجنود العاديون، ويتكفل الجيش بدفع الإيجار (حتى 1048 شيكل شهريا)، كما يتم وضعهم لحراسة الحدود عن طريق البر والجو والبحر، ومع ذلك لم يستمروا.

القطاع الطبي

يعتبر القطاع الطبي الإسرائيلي من القطاعات التي تأثرت بالحرب، إذ يعاني القطاع من نقص حاد ومستمر في القوى العاملة في مجال الرعاية الصحية، وفق ما كشفه مركز “توب” لدراسات السياسة الاجتماعية في القدس، إلى جانب انخفاض في عدد أسرة المستشفيات.

على أرض الواقع، تشهد إسرائيل هجرة أطباء غير مسبوقة، إذ ارتفع المعدل إلى 10 أضعاف عن المستوى المعتاد وفق القناة 13 الإسرائيلية، ووصف نائب المدير العام للشؤون الطبية في مستشفى إيخيلوف والمسؤول عن الموارد البشرية، هذه الهجرة بـ “الهادئة”.

موجة المغادرة هذه تأتي في ظل اضطراب سياسي في تل أبيب وفي وقت يتزايد فيه الطلب على الخدمات الصحية وخاصة مجال الصحة النفسية، إذ باتت إسرائيل تواجه معضلة حقيقية في هذا القطاع بالتحديد بعد مغادرة عشرات الأطباء النفسيين إلى بريطانيا بحثا عن فرصة أفضل، وإيمانا منهم بأن “مكانهم ليس هنا ولا يريدون البقاء”.

في حين تتعالى أصوات التحذيرات إلى أن هناك خطرا حقيقيا يتمثل في أن السكان في إسرائيل سيكونون أقل تعليما وأقل ابتكارا، مما يشجع على المزيد من هجرة المتعلمين والعاملين في القطاعات الطبية وهو ما سيؤدي إلى استنزاف الموارد البشرية.

ووسط نقص الكوادر والمخاوف من تصاعد النزاع، وضعت وزارة الصحة الإسرائيلية مبادئ توجيهية، إذ فتحت باب التطوع أمام الأطباء والمختصين لمعالجة الثغرات الحرجة في القطاع، ونشرت نماذج للتطوع في المستشفيات، مستهدفة الأطباء والممرضات والمساعدين الطبيين وغيرهم من العاملين الطبيين المرخصين في الخارج.

وأنشأت الوزارة أيضا جمعية طوعية بموجب النظام الوطني للوزارة، دعت فيه الراغبين، بمن فيهم الطاقم الطبي، من البلاد والعالم للتسجيل وإضافة اسم المتطوع إلى مجتمع متزايد من المؤيدين الإسرائيليين.

إسرائيل تشهد هجرة أطباء غير مسبوقة تهدد وجودها (الأناضول)

وتضمنت المهن المطلوبة للعمل التطوعي من إسرائيل والخارج، الأطباء وأطباء الأسنان وطلاب التمريض والمساعدين الطبيين وأخصائيي التغذية والعاملين في الخدمة الاجتماعية وأخصائيي العلاج الطبيعي والأطباء العموميين وأطباء الطوارئ والأطباء النفسيين والصيادلة ومساعدي الأطباء، المرخص لهم بممارسة العمل في إسرائيل أو في الخارج.

كما فتحت المجال للمتطوعين الإسرائيليين في مجال النظام الصحي لخدمة من يحتاجون مساعدة طبية ويمكنهم المساعدة في تلبية الاحتياجات المختلفة مثل الإدارة والخدمات اللوجستية والنقل.

أما عن أماكن التطوع فهي تتضمن عسقلان (الشمال الشرقي من غزة) وبئر السبع والقدس ومنطقة شارون وحيفا والجليل، وهي مناطق تتعرض للقصف الصاروخي من قبل الفصائل الفلسطينية منذ بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول.

ويفسر الصحفي المتخصص بالشؤون الإسرائيلية خالد خليل حالة الاستنفار هذه بأن إسرائيل تحاول استمالة المتطوعين في المجال الطبي باعتبار أنها تنتمي للغرب والحضارة الغربية وتتعرض لغزو من قبل حماس، لكسب نوع من الشرعية والتعاطف الغربي.

ولا يمكن إغفال أن الحرب التي امتدت لأكثر من عام كان لها تكلفة باهظة على إسرائيل، وبالإضافة لحديث الإعلام العبري عن إصابات في جيش الاحتلال مع تكتم على الأعداد، ويجري الحديث عن إصابات حرجة في صفوف الجنود، وهذا يشكل ضغطا على البنية التحتية الطبية.

إسرائيل فتحت باب التطوع أمام الأطباء والمختصين لمعالجة الثغرات الحرجة في القطاع الطبي (رويترز-أرشيف)

قطاع التكنولوجيا

من ناحية أخرى، يشكل قطاع التكنولوجيا المتقدمة محركا للاقتصاد الإسرائيلي ويعتبر مسؤولا عن حصة كبيرة من الصادرات ويستوعب أعدادا كبيرة من الموظفين. وعلى مدار 30 عاما، عززت إسرائيل مكانتها كعاصمة عالمية للشركات الناشئة، خاصة في القطاع التكنولوجي، وأصبحت وجهة للباحثين عن العالمية، ولكن سرعان ما تغير هذا الواقع في العام 2023، بحسب مؤشر “المستثمرين الملائكيين”.

ومنذ بدء عملية طوفان الأقصى، شهدت إسرائيل تراجعا كبيرا في قطاع التكنولوجيا، إذ انخفضت مكانة وسمعة الشركات الإسرائيلية بسبب الحرب في غزة، وتقلصت ثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد والشركات الإسرائيلية، إلى جانب تراجع حجم العمالة من 10% عام 2022 إلى 2.6% عام 2023، بناء على تقرير هيئة الابتكار.

وكشف التقرير عن انخفاض إنتاجية القطاع وتراجع إجمالي العاملين فيه بنحو 7%، بسبب انضمامهم إلى القوات الاحتياطية بعد طوفان الأقصى، كما نقلت بعض الشركات مكاتبها خارج إسرائيل، وانتقل بعض الموظفين إلى الدول الأوروبية.

وشهدت الاستثمارات في رأس المال المخاطر للشركات الإسرائيلية تراجعا بنسبة 6% في الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى سبتمبر/أيلول 2024، إلى جانب انخفاض حاد بنسبة 30% في عدد الاستثمارات الأجنبية والإسرائيلية.

وأجرت الرابطة الإسرائيلية للتكنولوجيا المتقدمة مسحا لـ30 صندوقا لرأس المال الاستثماري الإسرائيلي في مايو/ أيار الماضي، ونشرت نتائجها في بداية يونيو/حزيران. وأظهر هذا الاستطلاع الأضرار الجسيمة التي لحقت بقطاع التكنولوجيا نتيجة الحرب على غزة وتراجع مكانة إسرائيل الدولية في هذا المضمار.

ووفقا لـ38% من المستطلعين، نقلت واحدة على الأقل من الشركات التي يستثمرون فيها عملياتها إلى الخارج بسبب ظروف غير مستقرة في إسرائيل، ويقدر ثلثهم أن أكثر من 30% من هذه الشركات قد نقلت عملياتها بالفعل إلى الخارج العام الماضي، أو ستنقل عمليات كبيرة إلى الخارج العام المقبل.

وتبرز البطالة كواحدة من التبعات الناجمة عن تأثر قطاع التكنولوجيا بالحرب في غزة، إذ أعلنت شركة “ون زيرو” للتكنولوجيا المالية، في سبتمبر/أيلول الماضي، أنها ستستغني عن 6% من موظفيها بعد تعليق صفقة مع مجموعة الخدمات المالية الإيطالية “جنرالي” (Generali) لإنشاء بنك رقمي في إيطاليا، ويعزو رئيس الشركة ذلك إلى “عدم اليقين بشأن وضع الحرب”.

وعلاوة على ذلك، فإن شركات التكنولوجيا الأجنبية قد أغلقت عملياتها في إسرائيل، على غرار شركتي “دروب بوكس”، و”فريلي”.

تكتم على الخسائر

ليس خافيا أن الجيش الإسرائيلي يتعمد التستر على خسائره الكبيرة المتواصلة، ويتحكم بشكل مسبق بمصادر المعلومات، غير أن التسريبات بين فترة وأخرى ومؤسسات المجتمع المدني تشير إلى الخسائر المضاعفة بشريا وماديا.

ويعزو أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية أيمن البراسنة ذلك إلى مخاوف الاحتلال من تصدع الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي تعاني من حالة غليان بسبب العجز عن استعادة الرهائن، وآثار الحرب الكارثية على الاحتلال التي تقدر خسائرها بأكثر من 60 مليار دولار، إلى جانب مخاوف من انعكاسها على الروح المعنوية للمقاتلين.

وتؤكد المؤشرات أن الحرب أدت إلى زعزعة معظم القطاعات في إسرائيل، إذ شهدت توقفا نسبيا للطيران المدني والاستثمارات والسياحة وتعطل الاقتصاد، وزادت وتيرة الهجرة المعاكسة وتراجعت قيمة العملة المحلية.

ويقول البراسنة في حديثه للجزيرة نت إن العام 2024 كان كارثيا على إسرائيل بسبب الارتفاع غير المسبوق في معدل الهجرة، إذ بلغ مجموع المغادرين حوالي 58 ألفا، في دلالة على فشل واضح في إستراتيجية الارتباط بالأرض التي يتحدثون عنها.

يضاف إلى ذلك، عدم امتلاك إسرائيل رؤية واضحة أو خطة واقعية لتسوية الصراع، فهي ترفض حل الدولتين وحل الدولة الواحدة، وهي أيضا عاجزة عن فرض التهجير، مما يعني استمرار دوامة العنف في المنطقة، إلى جانب افتقارها العمق الإستراتيجي، وهي المسافة الفاصلة بين حدودها وتهديداتها الخارجية.

ويرى محللون أن إسرائيل كيان بعمق محدود للغاية وتتركز مراكز صناعاتها و60% من سكانها على مساحة لا تمتد لأكثر من 100 كيلومتر، ورغم تطور التكنولوجيا الحديثة تمكنت صواريخ ومسيرات المقاومة من اختراقها، وما زالت تتعرض لهجمات من هذا النوع، وفق البراسنة.

ويرى اللواء المتقاعد عودة الشديفات أن “الهجمات التي قامت بها المقاومة تسببت في صدمة لإسرائيل أفقدتها الكثير من صورتها، في مقدمتها الجانب الاستخباري الذي انهار رغم استخدامه المفرط لوسائل التكنولوجيا بعد أن تمكن رجال المقاومة من الدخول إلى المستعمرات الإسرائيلية المحاذية لأكثر منطقة يعتبرها الاحتلال آمنة ومحصنة”.

ولا يمكن إغفال أن ما يسمى بالسلام الإقليمي الاقتصادي كان قد منح رئيس الحكومة وحكومته شيئا من الطمأنينة، بيد أن طوفان الأقصى عطل كل تلك المشاريع التي كان يعتقد نتنياهو من خلالها أنه على وشك إغلاق ملف القضية الفلسطينية، ودخول المنطقة برمتها في عهد “التفوق الإسرائيلي”.

وبعد كل ذلك هل يستطيع نتنياهو إخفاء أن طوفان الأقصى هز صورة إسرائيل وكسر جبروتها وأربك مؤسساتها؟

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version