نشرت صحيفة “واشنطن بوست” (Washington Post) قصة أسرة صغيرة سودانية مكونة من أب وأم وطفلين عاشت 8 أيام منذ بدء الحرب تحت قصف الصواريخ والمدافع قبل أن تقرر مغادرة السودان إلى مصر.

حزمت الأسرة المكونة من 4 أفراد حقائبها بسرعة، كان هناك متسع من الوقت للضروريات فقط. قامت الأم، شيراز حماد، وهي طبيبة أسنان، بإخفاء مجوهراتها الذهبية في إحدى عبوات المواد الاستهلاكية، وسلمت مفتاح منزلها إلى أحد الجيران، دون أن تعرف إذا كانت ستعود أو متى ستعود.

كان ذلك في وقت مبكر من صباح يوم 23 أبريل/نيسان في العاصمة السودانية الخرطوم، بعد أسبوع من القتال العنيف بين القوات العسكرية المتناحرة، وقد سارعت الدول الأجنبية خلال تلك الفترة إلى إجلاء مواطنيها ودبلوماسييها وتُرك السودانيون ليتدبروا أمرهم.

عندما هرعت شيراز (40 عاما) وزوجها ياسر ساتي (50 عاما) الأستاذ الجامعي إلى محطة الحافلات، مع ابنيهما الصغيرين، قصفت الطائرات المقاتلة المدينة.

خلفهما كان المنزل الوحيد الذي عرفه أطفالهما، وأمامهم رحلة مدتها 15 ساعة إلى الحدود المصرية.

علية القوم

كان آلاف المدنيين السودانيين قد سلكوا، قبل مغادرة أسرة شيراز وياسر، الطريق نفسه الذي يعج بالمفاجآت حيث نسقوا هروبهم من العاصمة التي مزقتها الحرب على مجموعات “فيسبوك” و”واتساب” وأنفقوا مئات الدولارات على مقاعد الحافلات للفرار شمالا. لقد أصبحت التذاكر الآن باهظة الثمن إلى درجة أن معظم الذين يعبرون إلى مصر هم من السودانيين من الطبقة العليا، ولا يسافرون إلا بما يمكنهم حمله.

نزح ما لا يقل عن 700 ألف شخص وقُتل ما لا يقل عن 500 مدني منذ بدء العنف في 15 أبريل/نيسان المنصرم، الذي انفجر في صراع مفتوح بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة رئيس الدولة بحكم الأمر الواقع، والفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع شبه العسكرية.

وصل بعض الشباب إلى الحدود مع مصر فقط ليدركوا أنهم لا يملكون التأشيرات المطلوبة للدخول. آخرون، مثل شيراز وعائلتها، انتظروا أياما على الجانبين، ينامون في الشارع أثناء معالجة جوازات سفرهم.

شح الماء والكهرباء وقصف الصواريخ

ولا يزال العديد من أفقر السودانيين محاصرين في العاصمة، وغالبا ما تنقطع المياه أو الكهرباء، تحت القصف المستمر.

بعد أيام من فرار شيراز وياسر مع ولديهما، اتصل جارهما، أصاب صاروخ منزلهما. تتذكر شيراز قولها لجارها عبر الهاتف “ليس لدي شيء.. مفاتيحك، مفاتيحي، وكل ما هو هناك”.

قالت “أنا وزوجي، حاولنا الاستقرار في بلدنا، لم تكن الحياة سهلة دائما، كانت هناك احتجاجات وانقطاع في التيار الكهربائي والكثير من عدم اليقين”. وأضافت “كانت لدينا كل الأشياء السيئة، باستثناء الحرب”.

واكتملت دائرة الشر

كان عمار البالغ من العمر 12 عاما خائفا جدا من النوم ليلا، وأغمض عينيه فقط عندما استيقظ الآخرون في الصباح. عبد الرحمن البالغ من العمر 9 سنوات، والذي اختير برتبة أفضل قارئ في المدرسة، كان يتوسل من أجل أي شيء لإبقائه هادئا في الليل. قامت شيراز بتهويته حتى نام، “لماذا يقاتلون؟” تذكرت سؤال الأصغر، “متى سيوقفون هذا؟”.

في اليوم الخامس أصاب صاروخ منزلا في الجهة المقابلة للميدان، فقتل 3 من جيرانهم. في اليوم السادس، في محادثة واتساب في الحي، رتب السكان لمهندس لإصلاح خطوط الكهرباء المتضررة، رفضت قوات الدعم السريع السماح له بالعمل.

واقتنعت شيراز وياسر بضرورة المغادرة.

في منطقة أخرى بالخرطوم، كانت قريبتهما مصممة المجوهرات سارة علي (26 عاما) تخطط للهروب بنفسها. ومن خلال صديقة يمتلك والدها شركة حافلات، نظمت سارة حافلة يمكنها نقل أكثر من 50 شخصا إلى مصر. ستكلف أجرة الحافلة 12 ألف دولار، قرابة 250 دولارا لكل فرد، أي 5 أضعاف السعر العادي.

لم يمض وقت طويل حتى امتلأت المقاعد بالمعارف والأقارب، ومنهم شيراز وياسر.

بريطانيون يسيرون إلى طائرة تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني أثناء الإجلاء إلى قبرص في مطار وادي سيدنا في شمال أم درمان بالسودان في 26 أبريل/نيسان 2023 (الأناضول)

ما خف وزنه وغلا ثمنه

قرروا أن يأخذ كل منهما كيسا واحدا، ويقوم الأولاد بأخذ ثالث. لقد جمعوا جميع وثائقهم أولا، ومنها تلك التي تثبت ملكيتهم لمنزلهم.

ثم قاموا بتعبئة بعض الملابس المريحة تاركين كل شيء وراءهم. قامت شيراز بتعبئة ذهبها، متوقعة أنها ستحتاج إلى بيعه لتعيش من دون عمل في مصر. وحزم عبد الرحمن كتابا وجائزة المدرسة التي فاز بها لقراءة 51 قصة في عام واحد. وحاول عمار ضغط كرة قدم حتى تسهل إضافتها لما سيأخذونه. وأضافت شيراز بعض الصور العائلية إلى حقيبتها.

أخرج ياسر الصور فقد كانت لديهم نسخ رقمية، وكذلك الكرة لأنه يعلم أن بإمكانه شراء بديل لها في مصر؛ كان يعتقد أنهم كلما سافروا أخف كانت الرحلة أسهل.

مع دوي الانفجارات من حولهم، انتظرت الأسرة مع الأقارب وغيرهم من الركاب اليائسين وصول الحافلة. قالت سارة “عمري 26 فقط وكنت مسؤولة عن 53 شخصا، بينهم رجال”.

قرار مؤلم

كانت سارة ووالدتها وشقيقاها وأقارب على متن الحافلة أيضا، ومنهم زحل محمد الأمين أستاذة القانون البارزة التي ساعدت في كتابة مسودة دستور السودان والتقت الأطراف المتحاربة قبل يوم واحد فقط من بدء القتال. اتخذت زحل القرار المؤلم بالمغادرة من دون زوجها المصاب بالشلل الذي سيبقى مع أبنائه، كانت آخر من ركب الحافلة.

عند نقطة التفتيش الأولى التي يسيطر عليها الجيش السوداني نصحهم الجنود بإخفاء مجوهراتهم قبل المحطة التالية التي ستديرها قوات الدعم السريع. أخفت شيراز خاتم زواجها تحت قميصها وشدّت حجابها بإحكام لإخفاء قرطيها.

عند نقطة تفتيش قوات الدعم السريع، صعد الجنود إلى الحافلة وفتشوا الرجال. جلست شيراز ترتجف خوفا من أن يجدوا أموال ياسر.

لماذا تترك بلدك وراءك؟

“إلى أين تذهب؟” تذكرت سؤال قوات الدعم السريع، “ألا تخجل؟ السودان بلدك.. لماذا تترك بلدك وراءك؟”.

السودانيون يستقلّون الحافلات للخروج من العاصمة الخرطوم إما إلى الحدود المصرية أو إلى بورتسودان (الأناضول)

قال ياسر “تشعر كأنهم يقولون ذلك بطريقة ساخرة”.

مروا بنحو 20 نقطة تفتيش على طول الطرق التي شوّهها حرق معدات الجيش والمنازل المدمرة. بعد 15 ساعة، الساعة 11 مساء، وصلوا إلى الحدود.

ناموا ليلتين في الشارع أو على مقاعد الحافلة. وجد عبد الرحمن أن أفضل صديق له من المدرسة ينتظر أيضا في الطابور. تعانقا وخططا لمقابلة بعضهما في القاهرة. ومُنع بعض الركاب، ومنهم أشقاء سارة، من الدخول بسبب قيود التأشيرة.

قال ياسر “كانت فوضى شديدة”. وعندما ساد الغضب وسط الحشد خشي أن يفقد جواز سفره.

مرهقون لكنهم في أمان

بعد 3 أيام، خُتم على جوازاتهم للدخول إلى مصر. كانوا مرهقين، لكنهم كانوا بأمان.

توجه أكثر من 10 أفراد من العائلة الممتدة إلى فندق على النيل في أسوان، تفقدت الأسرة الأخبار الواردة من الخرطوم ونامت.

سرعان ما سيغادرون جميعا إلى القاهرة ويشرعون في البحث عن أماكن للإقامة. إلى متى سيكونون هناك؟ بدا الأمر كأنه حلم سيئ.

زحل المحامية التي تربطها صلة قرابة بشيراز تبكي وهي تتذكر أسبوع القصف الذي عانته. أنفقت المبلغ النقدي الوحيد الذي كانت تملكه على الدواء، والذهب الذي كانت تأمل أن تمنحه لأطفالها سيُستخدم لدفع ثمن الطعام والسكن.

قالت إنها حاصلة على شهادتي دكتوراه، وأمضت حياتها تعمل من أجل سودان أفضل وعلى أمل حل الخلافات ذاتها التي تمزق بلدها الآن.

تفقد بقية أفراد الأسرة الممتدة أمتعتهم وأدركوا مدى ضآلة ما حملوه. أعربت وفاء، إحدى القريبات، عن أسفها لعدم إحضار بطاقة التأمين أو الشهادات الخاصة بها. أدرك عمار أن كرة القدم اختفت، تمنى لو أنه أحضر كتابا.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version