خلال مدة قصيرة، قاد الطلاب في بنغلاديش انتفاضة شعبية زلزلت نظام رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد الذي بدا لوهلة أرسخ من أن يهتز. في الظاهر، كان المُحفز وراء الاحتجاجات هو عودة نظام الحصص “الكوتا” المعني بمنح امتيازات في الوظائف لعائلات قدامى المحاربين في “حرب الاستقلال” عن باكستان الذين لا يتجاوز عددهم 0.2% من إجمالي تعداد السكان. لكن كما تبيَّن لاحقا، لم يكن ذلك هو السبب الوحيد أو حتى الأكبر للغضب الشعبي، لذا حتى بعد أن خفَّضت المحكمة العليا نسبة “الكوتا” من 30% إلى 5%، لم يكن هذا الإجراء كافيا لاحتواء الغضب والغليان في الشارع البنغالي، خصوصا بعد مقتل المئات على يد الشرطة والأجهزة الأمنية.

سقط نظام الشيخة حسينة، وهربت رئيسة الوزراء بالطائرة إلى الهند، لتُفتح صفحة جديدة في سياسة بنغلاديش الداخلية، وتُطرح معها أسئلة حول مستقبلها الجيوسياسي وسط محيط إقليمي معقد، حيث تتمركز البلاد وسط ثلاث قوى رئيسية تتنازع السيطرة الإقليمية هي باكستان والهند والصين، ومن خلفها الولايات المتحدة التي تخوض معركة جيوسياسية في مواجهة الصين في جنوب وشرق آسيا وفي منطقة المحيطين الهندي والهادي. ووسط هذا التنافس المحتدم، تجد بنغلاديش نفسها مضطرة إلى ممارسة رقصة سياسية تنطوي على خيارات صعبة.

وبالنسبة إلى نظام حسينة واجد السابق، فإنه اختار الارتماء في أحضان الهند، والابتعاد تماما عن باكستان، والحفاظ على شعرة معاوية مع بكين وتقوية العلاقات معها دون الوصول للحد الذي يخاطر بزعزعة العلاقات مع نيودلهي، حليف دكا الرئيسي. ومن خلال الاقتراب من الهند، غازل نظام حسينة واجد من بعيد الولايات المتحدة المهتمة بشكل رئيسي بعدم سقوط بنغلاديش في شباك بكين.

لكن مع رحيل نظام حسينة واجد، تتبعثر الأوراق الجيوسياسية فوق الطاولة مجددا في انتظار ترتيب جديد لا تزال ملامحه قيد التشكل. ومبدئيا، يمكن القول إن الانتفاضة طوت صفحة مشرقة في تاريخ العلاقات بين دكا ونيودلهي التي طالما نُظر إليها بوصفها داعما رئيسا وشريكا فاعلا في حركة استقلال بنغلاديش، وبدأت صفحة جديدة أقل إشراقا كُتب في أول سطورها أن الهند هي مَن استقبلت رئيسة الوزراء الفارّة، ولا يعني ذلك أن النظام قيد التشكيل في بنغلاديش سوف يكون معاديا للهند بالضرورة، لكنه على الأرجح لن يضاهي في صداقته لها النظام الراحل. أما الصين فتبدأ علاقاتها الجديدة مع بنغلاديش بصفحة بيضاء نظريا، في حين تراقب باكستان الأمور من بعيد، وتحرص على عدم إبداء انحيازات صريحة احتراما للحساسية التاريخية بين البلدين.

مشكلة الحدود.. ومغامرة غاندي

يتمتع مثلث “الهند – باكستان – بنغلاديش” بارتباط تاريخي وسياسي وثيق تعود جذوره إلى زمان “الهند البريطانية” أو “الراج البريطاني”، حين خضعت المنطقة التي تضم اليوم البلدان الثلاثة، بالإضافة إلى ميانمار، لسلطة الاستعمار البريطاني منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. وفي أعقاب رحيل الاستعمار، قُسمت الهند في أغسطس/آب 1947 إلى دولتين على أساس ديني، وهو ما عنى بالتبعية تقسيم إقليمَيْ البنجاب والبنغال. عُرفت الدولة المسلمة الجديدة باسم باكستان، بينما احتفظت الدولة الأكبر باسم الهند، وصاحب عملية التقسيم تلك أحداث دموية تسببت في مقتل 200 ألف إلى مليونَيْ شخص على اختلاف التقديرات، ونزوح أكثر من 15 مليون إنسان احتشدوا في طوابير امتدت لأميال طويلة على امتداد الحدود الناشئة للبلدين. وقد ترك التقسيم أثرا لا يُمحى من الوعي الجمعي لسكان المنطقة، ولا تزال الأجيال تتناقل حكاياته وتُكابد إرثه إلى اليوم.

تسبَّبت خطوط التقسيم التي خطَّها المستعمر البريطاني سيريل رادكليف اعتباطا في ولادة قيصرية لجمهورية باكستان الإسلامية، التي تعاني تقسيما جغرافيا وعِرقيا بين غرب يهيمن عليه البنجاب وتتمركز فيه السلطة السياسية، وشرق يسيطر عليه البنغال عانى من تهميش كبير، والسبب في ذلك أن البريطانيين كانوا يخشون من تحول مناطق البنغال إلى مركز لحركة الاستقلال الهندية، في ظل ذكريات حركة سواديشي التي ظهرت عام 1905 وقادت مقاطعة ضد المنتجات البريطانية لتعزيز الصناعات المحلية ومقاومة الحكم الاستعماري، لذا عمد الاستعمار إلى تجزئة أراضي البنغال وتقسيمها ودمجها ضمن حدود سياسية غير متجانسة عِرقيا.

منذ السنوات الأولى لتأسيس باكستان، شهد البلد صراعا محتدما بين شطرَيْه الشرقي والغربي، وساهمت الإدارة الباكستانية في تلك الفترة للإقليم الشرقي في تعزيز هذا الصراع. فمع احتكار السلطة السياسية والفرص الاقتصادية في الغرب، تعمق الانقسام العِرقي بين البنجاب والبشتون من جهة وبين البنغال على الجهة الأخرى، ووضعت البذور الأولى للانفصال بين الشطرين. وكانت “حركة اللغة” في خمسينيات القرن الماضي، وهي حركة احتجاجية دعت لجعل اللغة البنغالية لغة رسمية لباكستان بجانب اللغة الأردية، هي شرارة البداية للانفصال المُنتظَر بين الشطرين.

وقد قوبلت تلك الحركة بقمع كبير من الحكومة والجيش الباكستانيين، ما أجج شعور القومية العِرقية البنغالية وترك شرخا عميقا يصعب جسره. وكان انقلاب الجيش في إسلام أباد سنة 1958 بقيادة الجنرال أيوب خان نقطة سوداء جديدة في تاريخ العلاقة بين الشطرين، حيث ساهم الانقلاب في إضعاف المؤسسات المدنية على حساب المؤسسة العسكرية، وعزز مركزية السلطة في الغرب على حساب الشرق الذي عانى من المزيد من التهميش السياسي والاقتصادي.

الكاتب: فرض التاريخ ودواعي الجغرافيا السياسية على بنغلاديش إدارة علاقات صعبة وسط ثالوث من الدول المسلحة نوويا، وهي الصين والهند وباكستان. (الجزيرة)

في تلك الأجواء، برز نجم الشيخ مجيب الرحمن، والد حسينة واجد، وحزب رابطة عوامي بوصفهم ممثلين قوميين عن الباكستانيين الشرقيين، وسرعان ما تحول النضال من أجل التمثيل العادل للشرق إلى دعوات واضحة للاستقلال، بعد أن حُرمت رابطة عوامي من تشكيل حكومة شرقية رغم فوزها بالأغلبية في انتخابات عام 1970. أعقب ذلك قيام السلطات الباكستانية في مارس/آذار 1971 بحظر الحركة ثم اعتقال قائدها مجيب الرحمن، ما تسبب في نشوب حرب أهلية استمرت 9 أشهر.

منذ اللحظة الأولى، كانت الهند شريكا أساسيا في حرب البنغال ضد باكستان. وقد سعت نيودلهي لتصوير مشاركتها تلك على أنها “مهمة نابعة من ضرورة إنسانية”، خاصة بعد نزوح قرابة 10 ملايين لاجئ خلال الأشهر التسعة لـ”حرب الاستقلال”، لكن الحقيقة هي أن التدخل الهندي في باكستان يعود إلى ما قبل ذلك بكثير. ففي أعقاب خسارة الهند لحربها مع الصين في جبال الهيمالايا عام 1962، والمعروفة باسم “الحرب الصينية الهندية الثانية”، سارعت البلاد لمراجعة أدائها الأمني والعسكري، وهو ما أثمر إنشاء وكالة الاستخبارات الهندية في سبتمبر/أيلول عام 1968 مع مهمتين رئيسيتين فقط على جدول أعمالها: جمع المعلومات الاستخباراتية حول الصين وباكستان، والاستعداد للقيام بعمل سري في شرق باكستان.

في ذلك الوقت، وجدت رئيسة الوزراء الهندية إنديرا غاندي فرصة سانحة لـ”تقليص مساحة باكستان” من خلال تدريب وتجهيز “العصابات المسلحة البنغالية” بهدف فصل شرق باكستان عن غربها. وهدفت هذه المرحلة من الخطة إلى توفير المزيد من الوقت للهند لتهيئة قواتها للغزو بينما تستنزف المدافعين الباكستانيين وتغلق طرق إمداداتهم. وبحلول أوائل عام 1971، بدأ الجيش الهندي في تنفيذ عملية “جاكبوت”، وهي خطة لتدريب وتجهيز ما يصل إلى 100 ألف من قوات المتمردين البنغال في شرق باكستان، المعروفين باسم “موكيتي باهيني” في الهند، على استخدام الأسلحة الصغيرة والأسلحة الأوتوماتيكية الخفيفة وقذائف الهاون والمتفجرات والعمليات البحرية.

قُسِّمت قوات “موكيتي باهيني” إلى فرق تقليدية وعناصر حرب العصابات، وكانت النواة الصلبة لهذه القوة عشرة آلاف شاب ينتمون إلى منظمة طلاب رابطة عوامي. وعلى مدار أشهر، شنت هذه القوات المدعومة هنديا حرب عصابات ضد الجيش الباكستاني، انتهت بهزيمة مُذلة للجيش في دكا إثر هجوم على ثلاثة محاور، ومشاركة واضحة من القوات الجوية الهندية المتفوقة والقوات البحرية أيضا، لتعلن باكستان في نهاية المطاف استسلامها بعد أسر قرابة 90 ألفا من جنودها خلال الحرب، وتحصل بنغلاديش على استقلالها بفضل دعم عسكري واضح وصريح من الهند.

في خضم هذه الأحداث الملتهبة، كانت الصين تراقب المشهد بتحفظ بينما تخوض تحولا سياسيا دراميا في الداخل. فمنذ نهاية الحرب الصينية الهندية، أصبحت بكين حليفا افتراضيا لإسلام أباد، وبحلول مطلع السبعينيات، استخدمت الصين باكستان قناة خلفية للتقارب مع نظام نيكسون في الولايات المتحدة بعد أكثر من عقدين من القطيعة والنبذ العالمي للصين منذ استيلاء الشيوعيين على السلطة، وهو ما أثمر الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية عضوا دائما في مجلس الأمن عام 1971.

استخدمت الصين حق الفيتو لأول مرة دعما لباكستان في حربها ضد الهند في بنغلاديش، لكن الصين آثرت الابتعاد عن التورط المباشر في هذه الحرب. واحتراما لعلاقاتها القديمة مع باكستان، وبالنظر للتقارب الأوّلي بين الدولة البنغالية الجديدة والاتحاد السوفياتي في زمان الانقسام الصيني السوفياتي، توسعت الهوة بين دكا وبكين التي رفضت عضوية بنغلاديش في الأمم المتحدة حتى عام 1974، على النقيض من موقفها الداعم لمنح عضوية المنظمة الدولية للدول حديثة الاستقلال حول العالم.

تغير الوضع بشكل كبير بُعيد الانقلاب العسكري في بنغلاديش عام 1975، الذي أثمر إبعاد بنغلاديش لنفسها عن الحرب الباردة في جنوب آسيا، وهو ما تُوِّج بإقامة العلاقات الرسمية بين بكين ودكا مطلع عام 1976 وتبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين. وبحلول الثمانينيات، توثقت العلاقات بين البلدين سياسيا وتجاريا وعسكريا، ووقَّع البلدان على تسع اتفاقيات ثنائية على الأقل لتعزيز العلاقات المتبادلة.

 

مناورة وسط الثالوث النووي

فرض التاريخ ودواعي الجغرافيا السياسية على بنغلاديش إدارة علاقات صعبة وسط ثالوث من الدول المسلحة نوويا. وللتغلب على هذه المعضلة، عزلت بنغلاديش نفسها مبكرا عن الانخراط في أي شكل من أشكال الصراع الجيوسياسي بعد حقبة قصيرة من الاكتواء بنيران الحرب الباردة، مُفضِّلة التركيز على التنمية الاقتصادية في ظل معاناة عشرات الملايين من الفقر وانعدام الفرص.

على مدار العقود الخمسة الماضية، خضعت دكا لتحول اقتصادي ملحوظ، حيث تقدمت من واحدة من أفقر دول العالم في عام 1971 إلى دولة متوسطة الدخل من الشريحة الدنيا بحلول عام 2015. ويتجاوز حجم اقتصاد البلاد اليوم 400 مليار دولار أميركي، ومن المقرر أن تخرج بنغلاديش من قائمة الأمم المتحدة للدول الأقل نموا بحلول عام 2026. وبحكم التقارب السياسي بين البلدين، أصبحت الهند شريكا رئيسيا للتحول الاقتصادي في باكستان، إذ بلغت قيمة صادرات بنغلاديش إلى الهند نحو مليارَيْ دولار عام 2022-2023، مقابل 13.8 مليار دولار هو إجمالي واردات الهند من بنغلاديش، بمعدل نمو يقترب من 10% سنويا.

تنامت هذه العلاقات الاقتصادية بصورة ملحوظة خلال العقد الأخير تحت قيادة كلٍّ من حسينة واجد في بنغلاديش وناريندرا مودي في الهند، اللذين يُعتقد أنهما تمتعا بعلاقة شخصية وثيقة. في الحقيقة، تشترك حسينة واجد مع مودي في نظرتهما للكثير من الملفات، لكن أكثر ما يجمعهما هو خصومتهما المشتركة مع باكستان والعداء السياسي للتنظيمات الإسلامية الذي غذّى قمعا داخليا واسع النطاق لنظامين لطالما تفاخرا علنا برعاية ديمقراطية مزدهرة. لا عجب إذن أن أحزاب المعارضة في بنغلاديش، ولا سيما الحزب القومي البنغلاديشي وحليفه السابق الجماعة الإسلامية التي أعدم النظام البنغالي السابق العديد من قياداتها، تُكِنُّ نظرة ازدراء إلى الهند التي يعتبرونها شريكا في قمع المعارضين البنغال.

رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي (يمين) ورئيسة وزراء بنغلاديش السابقة حسينة واجد (رويترز)

ويُعتقد أن المعارضة البنغالية غذَّت حملة اقتصادية ذات دوافع سياسية لمقاطعة البضائع الهندية العام الماضي ومطلع العام الحالي. وفي حين أن الحملة نشأت في جوهرها تعبيرا عن استياء شعبي من الدور الذي تلعبه الهند في السياسة البنغالية، فإن المعارضة رأت في استهداف الهند طريقة لإضعاف شرعية حسينة واجد وحكمها، خاصة في أعقاب الانتخابات العامة التي قاطعها حزب بنغلاديش الوطني والعديد من أحزاب المعارضة الأخرى، وشهدت تلميحات حول تدخل هندي للتأثير على النتائج بهدف إبقاء حزب رابطة عوامي الحاكم في السلطة.

وعلى النقيض من الهند تماما، نبذ نظام حسينة واجد باكستان، لدرجة أنه استخدمها دميةً لوصم معارضيه السياسيين الذين لقَّبهم النظام بـ”الرازاكار”، وهو الاسم الذي أُطلق على الأشخاص الذين تعاونوا مع باكستان خلال حرب التحرير. في غضون ذلك، حافظ نظام حسينة واجد على علاقات اقتصادية قوية مع الصين التي تصدرت مصاف الشركاء التجاريين لبنغلاديش.

وقد استثمرت بكين أكثر من 25 مليار دولار في مشاريع مختلفة في دكا، وهي ثاني أعلى حصيلة في منطقة جنوب آسيا بعد باكستان. كما أكملت الصين العديد من مشاريع البنية التحتية في بنغلاديش، في مقدمتها سبعة مشاريع للسكك الحديدية، و12 طريقا سريعا، و21 جسرا، و31 محطة طاقة. ورغم المساهمة التنموية التي تقدمها تلك المشاريع، فإنه يُنظر لها بقلق شديد خشية التعثر في سداد ديون الصين المقدرة بنحو 17.5 مليار دولار، ما يعادل نحو 8% من إجمالي ديون بنغلاديش الخارجية.

بعيدا عن الاقتصاد، برزت الصين بوصفها حليفا عسكريا مهما لبنغلاديش. وتُعد الصين المورد الرئيسي للأسلحة للبلاد، ويتجهز الجيش البنغالي بأصول عسكرية صينية مختلفة، بما في ذلك الدبابات القتالية، وقاذفات الصواريخ، والطائرات المقاتلة، والسفن البحرية، وأنظمة الدفاع الجوي المحمولة، فيما تتوالى صفقات التسليح المبرمة بين البلدين. مثلا في عام 2016، زوَّدت بكين القوات البحرية في بنغلاديش بغواصتين مجددتين بسعر مخفض بلغ 205 مليون دولار، وفي عام 2022، تلقَّت بنغلاديش شحنة صينية حوت 150 وحدة لمنظومات الدفاع الجوي المحمولة. وفي عام 2023، استثمرت الصين 1.2 مليار دولار في بناء أول قاعدة غواصات بنغلاديشية في كوكس بازار قبالة ساحل خليج البنغال، التي يمكنها استيعاب ست غواصات وثماني سفن حربية.

تنبع العلاقة العسكرية المعززة بين الصين وبنغلاديش، وخاصة في المجال البحري، من اتفاقية التعاون الدفاعي لعام 2002، التي تغطي التدريب العسكري والإمدادات الدفاعية. وقد تُوِّجت هذه العلاقات في مايو/أيار الماضي (2024) بإجراء بنغلاديش والصين أول مناورات عسكرية مشتركة بينهما، وهو ما أثار مخاوف واسعة في كلٍّ من الهند والولايات المتحدة.

ورغم أن بنغلاديش والهند أجرتا 11 تدريبا عسكريا بين عامي 2009-2023، فإن التدريبات مع الصين أثارت تساؤلات حول إذا ما كانت بنغلاديش تُعيد النظر في علاقتها “غير المتوازنة” مع الهند، أو أن الاستثمار الاقتصادي لبكين في البلاد يوشك أن يُحرز نصرا سياسيا. لكن السيناريو الأرجح أن هذه المناورات كانت جزءا من سياسة حكومة حسينة واجد للتحوط السياسي، حيث ظلت علاقات بنغلاديش مع الصين مسقوفة دائما بعلاقتها الأكثر إستراتيجية مع الهند. بعبارة أخرى، لم تكن بنغلاديش لتُغامر في مياه العلاقات الصينية بالشكل الذي يُسبِّب اضطرابا لسفنها السياسية الراسخة على شواطئ الهند.

ما بعد “حسينة واجد”.. بنغلاديش في العالم الجيوسياسي

في النهاية، رحلت حسينة واجد بتوازناتها السياسية الخاصة عن السلطة تحت ضغط الغضب الشعبي، وتركت بنغلاديش تتلمس الخطى في مياه إقليمية مضطربة، لكنها تتسلح في الوقت نفسه بمؤهلات جيوسياسية ربما تحتاج إلى إعادة استكشافها. وبشكل رئيسي، تلعب جغرافية بنغلاديش دورا حاسما في مكانتها الإستراتيجية والجيوسياسية، حيث تتمتع البلاد بموقع إستراتيجي بين جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، وتشترك في الحدود مع الهند وميانمار، ولها إمكانية الوصول إلى خليج البنغال.

وهذا الموقع يجعل من بنغلاديش حلقة وصل حيوية للتعاون التجاري والإقليمي بين الكتل الاقتصادية الكبرى، مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، ورابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (SAARC). وتمتلك بنغلاديش ثلاثة موانئ رئيسية هي: شاتوغرام، ومونجلا، وبايرا، من بين الموانئ الاثني عشر الموجودة في خليج البنغال، التي تُعد حيوية للتجارة والأمن البحري.

يؤهل هذا الموقع الإستراتيجي بنغلاديش للعمل بوصفها “قوة متوسطة” في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وبناء شراكات متوازنة مع اللاعبين العالميين الرئيسيين، بما في ذلك الولايات المتحدة واليابان والصين والهند وروسيا، ما يزيد من تعزيز نفوذها الجيوسياسي في إقليم يشهد اضطرابات متصاعدة بين الصين وأميركا. خلال العقود القليلة الأولى بعد استقلالها، ابتُليت بنغلاديش بمشكلات مختلفة، على رأسها عدم الاستقرار السياسي، والكوارث الطبيعية، والانقلابات العسكرية، والفساد، وهو ما جعلها تحوم كالأسيرة تحت ظل الهند، وبالتأكيد كانت التبعية المفرطة للهند أحد العناصر التي راكمت غضبا شعبيا وتململا بحثا عن الخروج من عباءة الهند، وحيازة موقع جيوسياسي أفضل.

في ضوء ذلك، من المرجح أن تكون الهند أكبر الخاسرين من رحيل نظام حسينة واجد، حيث ستحتاج نيودلهي إلى إعادة استكشاف العلاقات مع قوى جديدة تنظر إليها بارتياب في أدنى الأحوال، وفي مقدمتها الحزب الوطني البنغلاديشي الذي يأمل في الوصول إلى السلطة بعد الفترة الانتقالية، وربما الجماعة الإسلامية التي قد تُعيد تشكيل الديناميكيات السياسية في البلاد وعلاقاتها الإقليمية، خاصة مع الهند التي ستشعر بقلق بالغ تجاه احتمالية صعود مكوّن إسلامي في دولة تُغلِّفها الأراضي الهندية جغرافيًّا مثل فكَّيْ كماشة.

في غضون ذلك، سوف يتعين على نيودلهي أن تقلق بشأن بعض المخاطر الأمنية، بما ذلك زيادة المشاعر المناهضة للهند، واحتمالية تدفق اللاجئين عبر الحدود خاصة مع انشغال الجيش داخليا. ومع السياسة المناهضة للمسلمين التي تتبنَّاها حكومة مودي الهندية، سوف يكون عليها أن تخشى من ردود أفعال مضادة تجاه الهندوس في بنغلاديش، فضلا عن إمكانية أن تحفز الانتفاضة البنغالية تحركات مناهضة للنظام من قِبَل الأقليات المضطهدة في الهند. وعلى نطاق أوسع، ربما تبدأ الهند في الشعور بالقلق من تقلُّص نفوذها في محيطها، بل وحصارها من قوى صغيرة (معظمها صديقة للصين) تمتد غربا وجنوبا مُشكِّلة حزاما حولها، يبدأ من باكستان، ويمر بجزر المالديف وسيرلانكا، وينتهي في ميانمار وبنغلاديش.

بالنسبة للصين، تُعد الإطاحة بالنظام المقرب من الهند في بنغلاديش فرصة لجني عوائد استثماراتها السياسية والاقتصادية الكبيرة، وشغل مكانة الهند بوصفها راعيا سياسيا يمتلك قوة مالية كبيرة. لكن المرجح أن السلطات الجديدة في دكا ستسعى لعلاقات أكثر توازنا، ولن تُقوِّض علاقتها مع الهند بشكل كامل. الأهم من ذلك أن هناك ملفات عالقة مهمة من المرجح أن تتحدى مسار العلاقات البنغلاديشية الصينية، أهمها قضية المسلمين الروهينغا في ميانمار.

تنظر بكين إلى نايبيداو باعتبارها شريكا رئيسيا لتأمين حدودها الجنوبية الغربية والوصول إلى الموارد الحيوية، وهو ما يفسر الدعم الذي يتلقاه المجلس العسكري في ميانمار من الصين منذ استحواذه على السلطة في انقلاب دامٍ عام 2021. من جانبها، لدى بنغلاديش قلقها الخاص تجاه الاضطهاد المتواصل للروهينغا الذي يدفع موجات متتالية من المهاجرين نحوها، فضلا عن مشاعر التضامن التي يُكِّنها الشعب البنغالي المسلم للأقلية المضطهدة، وفي حال واصلت بكين دعمها للسلطات في ميانمار متجاهلة قضية الروهينغا، فإنها ستخاطر بإذكاء المشاعر المضادة نفسها التي حفَّزها اضطهاد نظام مودي للمسلمين في الهند.

سوف يكون ملف المياه كذلك إحدى القضايا الرئيسية في رسم مستقبل العلاقات بين الصين والهند وبنغلاديش جميعا، حيث أصبح نهر براهمابوترا ساحة معركة بالوكالة للتوترات الصينية الهندية البنغلاديشية. ويُنظر إلى مشاريع البنية التحتية في الصين، بما في ذلك بناء السدود، على أنها محاولات لتأكيد الهيمنة على موارد المياه، فيما تُلام الهند هي الأخرى على تقاعسها في توقيع اتفاقيات المياه مع بنغلاديش وخططها المترددة لتحويل مسار النهر.

هذا ويُعد نهر براهمابوترا مسألة حيوية لكلٍّ من الهند وبنغلاديش، حيث يوفر نحو 30% من موارد المياه العذبة في الهند، ونحو 70% في بنغلاديش، وأي تحويل لمسار النهر يمكن أن يؤثر بشدة على إمدادات المياه الزراعية والمنزلية، وهو ما يجعل من قضية النهر والتدفقات المائية أمرا حاسما بالنسبة لدكا سواء في علاقتها مع الصين أو الهند.

وبعيدا عن بكين ونيودلهي، تتابع باكستان المضطربة سياسيا واقتصاديا الانتفاضة البنغالية وتداعياتها بشغف تاريخي، أملا في استعادة شيء من نفوذها السابق بعد خمسة عقود من الهزيمة المذلة، لكنها قلقة أيضا من أن تتسبب تلك الثورة في تأجيج مشاعر الباكستانيين ضد الجيش المتحكم في المشهد السياسي. ومن المؤكد أن باكستان تريد الاستفادة من تغيير النظام في بنغلاديش لإحياء علاقاتهما الثنائية وربما إعادة تموضعها في المنطقة للرد على نفوذ الهند.

ومع ذلك، من المرجح أن ترغب الأحزاب القادمة إلى السلطة في بنغلاديش في تجنب الانطباع بأنها مدعومة من قِبَل باكستان، خاصة مع الدعاية الهندية المكثفة حول دور الاستخبارات الباكستانية في الانتفاضة، وهو ما يعني أن إسلام أباد سوف يكون عليها انتظار ما ستُسفِر عنه التحولات السياسية الجديدة في بنغلاديش دون الدخول في مغامرة سياسية ربما تكون لها نتائج عكسية.

على نطاق أوسع، ومع استقرار الأمور في بنغلاديش، سوف يراقب المجتمع الدولي من كثب لمعرفة الاتجاه المستقبلي الذي ستتخذه البلاد وعملية إعادة التنظيم المحتملة للتحالفات الإقليمية، ونوعية الفرص والتهديدات التي قد يقدمها النظام الجديد والمشهد السياسي للبلاد. وتبقى الحقيقة المؤكدة في كل ذلك أن تداعيات سقوط نظام حسينة واجد لن تقف عند حدود بنغلاديش، وسوف تُلمس آثارها الإقليمية الواسعة في وقت ليس ببعيد.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version