بيروت – دخلت قضية ملاحقة حاكم مصرف لبنان (البنك المركزي) رياض سلامة، داخليا وخارجيا، منعطفا جديدا مع إصدار القاضية الفرنسية أود بوريزي المكلفة بالتحقيق في قضية أموال وممتلكات سلامة مذكرةَ توقيف دولية بحقه.

وتأتي المذكرة بعدما تغيب سلامة عن المثول أمام القضاء الفرنسي، في جلسة كانت مقررة أمس الثلاثاء، للاستماع إلى أقواله حول شبهات تتعلق بالاختلاس وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع.

ويستعد محامي سلامة في فرنسا إلى تقديم طعن في المذكرة، التي وصفها حاكم مصرف لبنان -الذي يحمل أيضا الجنسية الفرنسية ويبلغ 72 عاما- بأنها غير قانونية وتكيل بمكيالين، معتبرا في بيان أن “الأحداث المرافقة للتحقيقات الفرنسية تعاكس مبدأ قرينة البراءة في تعاملها وفي تطبيقها الانتقائي للنصوص والقوانين”.

وخلال الأيام الماضية، لم يتسلم سلامة الإخطار الموجه إليه للمثول في فرنسا، رغم محاولة القضاء اللبناني تسليمه إياه نحو 4 مرات.

وسبق أن قدم وكلاء الدفاع عن سلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريان الحويك دفوعًا شكلية أمام النيابة العامة التمييزية، طلبا لإرجاء المساعدة القضائية الأوروبية، معتبرين أنها تتعارض مع التحقيقات الجارية في لبنان.

اتهامات مالية

تعود الدعوى القضائية المقدمة ضد سلامة في فرنسا إلى يوليو/تموز 2021، وترتكز على شبهات بتحويل ملايين الدولارات إلى مصارف أوروبية بطريقة غير نظامية.

وتأتي المذكرة الدولية بعد 3 زيارات إلى بيروت قامت بها وفود قضائية أوروبية من ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ، استكمالا لتحقيقات تجريها مع مصرفيين ومسؤولين ماليين، ومع حاكم مصرف لبنان وشقيقه ومساعدته.

وفي مارس/آذار 2022، جمدت وحدة التعاون القضائي الأوروبية في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية، إثر تحقيق حول تبييض أموال استهدف 5 أشخاص، بينهم رياض سلامة، إضافة إلى شقق وممتلكات أخرى.

ومن الاتهامات الموجهة إلى سلامة، شبهات حول تضخم حساباته في بنك الموارد اللبناني من نحو 15 مليون دولار عام 1993 لأكثر من 150 مليون دولار بحلول 2019.

داخليا، وإضافة إلى الملاحقات والدعاوى بحق سلامة، تأتي المذكرة الفرنسية بعد ادعاء القضاء اللبناني على سلامة في فبراير/شباط 2023 بتهم عدة كالإثراء غير المشروع وغسل الأموال والتهرب الضريبي والتزوير والاختلاس.

وذلك بعد نحو عام من تحقيقات ارتكزت على مراسلات بين القضائَين اللبناني والأوروبي حول علاقة المركزي مع شركة “فوري أسوشياتس”، التي يملكها شقيقه رجا والمسجلة في الجزر العذراء.

وثمة شبهات بأن رجا سلامة كرّس الشركة للعب دور الوسيط بغية تلقي عمولات، وذلك عند اكتتاب المصارف في سندات خزينة وسندات يوروبوند التي يصدرها المركزي اللبناني.

ويزداد المشهد القضائي والمالي تعقيدا مع اقتراب نهاية ولاية سلامة في يوليو/تموز 2023، دون الاتفاق السياسي على بديل له لتعيينه من قبل الحكومة في ظل الشغور الرئاسي.

ماذا تعني المذكرة الدولية بحق سلامة؟

عمليا، لم تختر القاضية الفرنسية تحديد موعد جلسة ثانية لسلامة للمثول أمامها في فرنسا بعد تغيبه أمس الثلاثاء، بل سارعت للادعاء عليه موجهةً لائحة اتهامات مرفقة بمذكرة توقيف غيابية بحقه، وطلبت تعميمها بواسطة الشرطة الجنائية الدولية “إنتربول” (Interpol).

ويرى فريق الدفاع عن سلامة أن قرار القاضية يخالف الأصول القانونية لجهة عدم التبليغ رسميا في لبنان قبل اتخاذ الإجراءات بحقه. في حين يتوقع خبراء أن يأخذ مسار الطعن بالمذكرة والدفوع الشكلية أو تنفيذها أشهرا عديدة.

قانونيا، يوضح الخبير الدستوري وفي القانون الدولي بول مرقص أن المذكرة صادرة عن القضاء الفرنسي وليس عن الإنتربول، لكنها مذكرة دولية وملزمة للدول المتعاونة مع فرنسا لناحية تسليم وتبادل المتهمين.

وفي حديثه للجزيرة نت، يربط مرقص الخلفيات القانونية للمذكرة بالاتهامات أو الشبهات القائمة حول التعاملات المالية لسلامة، والتي تجاوزت لبنان إلى تحويلات وعمليات مصرفية خارجية، وهناك تساؤلات عن مشروعية مصدرها والرابط مع الحسابات التي حولت منها الأموال والغاية منها؛ خصوصا أنها تزامنت مع انفجار أزمة مالية واقتصادية ونقدية غير مسبوقة في تاريخ البلاد منذ خريف 2019.

مصير سلامة

يشير مرقص إلى أن الجهات الملزمة بتنفيذ المذكرة متمثلة في مختلف الدول الأوروبية وعدد من الدول الموقعة على اتفاقيات التبادل والتسليم والتعاون القضائي الدولي. أما لبنان، عقب تسليم المذكرة، فيتوجب على قضائه دراسة مضمون المذكرة، والتدقيق في التهمة المستندة إليها.

ويضيف المحامي والخبير القانوني أنطوان سعد أن مذكرة التوقيف الفرنسية على المستوى الدولي قانونية، لأنها صادرة بحق لبناني يحمل الجنسية الفرنسية تتعذر ملاحقته في لبنان، ولأن ثمة دعاوى عالقة بحقه في فرنسا ودول أوروبية أخرى من قبل أفراد ومجموعات لبنانية وفرنسية وأوروبية.

وفي المسار المنتظر -بحسب سعد- يمكن تسليم المذكرة بواسطة الإنتربول إلى وزارة العدل اللبنانية، ويمكن أن تتخذ الحكومة قرارا بملاحقة سلامة أو الامتناع عن ذلك.

لكن “لدى المدعي العام للتمييز صلاحية بوقف الملاحقة إذا ما رأى أنها بخلفيات سياسية، وإذا لم يقتنع بالحجج المسندة إليها، وهو ما يمكن أن يستفيد منه سلامة الذي يملك الحق في مراجعة المذكرة”، وفقا للخبير القانوني اللبناني أنطوان سعد.

كذلك يقول بول مرقص إن لدى سلامة الحق في تقديم الدفاع القانوني المناسب لإثبات أن إصدار المذكرة والتبليغات خالفت الأصول والمهل.

وإلى حين انتهاء ولايته، فإن بقاء سلامة بمنصبه -حسب مرقص- لا يتعارض مع المذكرة، إذ لا يوجد في قانون النقد والتسليف نص صريح يجيز للحكومة إقالته إلا في حالات محدودة للغاية تحتاج لتثبت قضائي. أما إذا أقدمت الحكومة على إقالته بسبب المخاطر حول سمعة لبنان المصرفية والنقدية، فالأمر يعود حينها لتسوية مع القضاء.

تغطية سياسية وأزمة اقتصادية

في هذا الإطار، يرى الصحافي المتخصص بالشأن القضائي يوسف دياب أن المذكرة الفرنسية بمثابة إجراء عقابي قاس لحاكم مصرف يمارس صلاحياته، في وقت قررت فيه القاضية كسر حصانته، و”هذه ضربة معنوية كبيرة له”.

ويقول للجزيرة نت: طالما لم يتسلم لبنان المذكرة رسميا، فهو غير ملزم بتنفيذها وبالتحقق من التهم المستندة إليها، وحين يستلم المذكرة سيطلب القضاء اللبناني من فرنسا تسليم الملفات والأدلة للتحقق منها، متوقعا أن ترفض فرنسا الطلب اللبناني باعتبار أن التحقيقات جارية لديها، مع التشكيك باستقلالية القضاء اللبناني.

ويذكر دياب أن لبنان حسب قوانينه لا يسلم مواطنا لبنانيا لدولة أجنبية، رغم تعاونه في إطار المذكرات، وما يفعله هو ملاحقة المتهم داخليا فسحب.

ويرى أن سلامة، الذي يحظى بتغطية سياسية لبنانية واسعة وصلبة نظرا لتقاطع المصالح، تتلاشى أمامه فرص التجديد له مع اقتراب انتهاء ولايته، “خصوصا أن المذكرة الدولية بحقه نسفت احتمال التمديد لولايته”؛ مرجحا أن يتفاقم الوضع تعقيدا نقديا وقضائيا وسياسيا ومع القضاء في الخارج، إذا لم يتم سريعا حل أزمة حاكمية المركزي.

وتعدّ الأزمة المصرفية بلبنان وجها لأسوأ الانهيارات الاقتصادية التي شهدها العالم منذ 1850، وفق البنك الدولي.

وتتصاعد أصوات المودعين اللبنانيين مع عرب وأجانب للمطالبة باسترداد أموالهم، مما يعزز شرعية التحركات القضائية الخارجية بنظر المتضررين، بعد أكثر من 3 سنوات لم يستعيدوا فيها أموالهم المحتجزة بصورة غير قانونية عبر القضاء اللبناني.

كما تستمر أزمة الخسائر المتراكمة بالقطاع المصرفي التي قدرتها الحكومة بنحو 73 مليار دولار، وهي الفارق لما يترتب على القطاع للمودعين المقيمين وغير المقيمين بالعملة الصعبة وما يملكه من موجودات سائلة وقابلة للتسييل، وهذه الفجوة هي صلب الأزمة.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version