جاء في “معجم البلدان” لياقوت الحموي أن مكان دمشق كان دارا لنوح -عليه السلام-، في حين كان منشأ خشب السفينة في جبل لبنان، وأنّ ركوبه في السفينة يوم الطوفان كان في ناحية البقاع، وقد رُوي عن كعب الأحبار أن أوّل حائط وُضع في الأرض بعد الطوفان حائط دمشق وحرّان.

وكما اتصلت جغرافيا الشام قديما، اتصلت حديثا رغم تقسيمها إلى دول وحدود سياسية، لكنها لم تمنع أن تتردد أصوات التغيير شمالا وجنوبا في خط متصل لا تعوقه الحدود الحديثة، فكان أول حائط ينقض بعد طوفان الأقصى هو حائط دمشق المنيع الذي احتمى به حكم عائلة الأسد طيلة 54 عاما، ليلحق بحائط غلاف غزة الذي انقض صبيحة السابع من أكتوبر ليُفجِّر زلزالا يبدو أنه سيُعيد صياغة هلال المشرق من غزة إلى طهران، وربما أبعد من ذلك مما قد تُسفر عنه الأيام. وتمثل قدرة القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع ورفاقه في صناعة فلك السياسة الخارجية الجديدة والإبحار بها بين جنبات جغرافيا سيّالة مطوّقة بحلقات من نار.

وفي تجلٍّ لظلال الجغرافيا الواسعة التي تغرق فيها الشام، وفي مقابلة مع قناة محلية تركية، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إنه أجرى مجموعة من الاتصالات مع نظرائه الروس والإيرانيين لإقناعهم بعدم اعتراض التحرك العسكري الذي بدأته المعارضة السورية.

على ما يبدو فقد كان هذا مفتاحا ضروريا لنجاح الحملة العسكرية التي شنَّتها قوى المعارضة السورية صبيحة السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، فيمكنك فقط أن تُلقي نظرة على الخريطة السياسية لسوريا قبل ذلك التاريخ لتُدرك مدى أهمية النفوذ الخارجي في حسم مصير سوريا، إذ كانت الحدود الداخلية المرسومة على خريطتها ليست للحدود الإدارية للمحافظات أو المدن، بل كانت لمناطق النفوذ المقسمة بين مجموعات محلية ترعاها أطراف خارجية، على رأسها روسيا وإيران.

ففي حين كان النظام يسيطر على العاصمة دمشق ومحافظات الساحل وبعض مدن الوسط، وتنتشر على أراضيه قوات روسية تضم ضباطا وطائرات وسفن راسية على موانئ طرطوس واللاذقية، بالإضافة إلى قوات من الحرس الثوري الإيراني وعناصر من حزب الله وجماعات مسلحة أخرى قادمة من مناطق مختلفة، تنقسم باقي الأراضي بين المعارضة المدعومة بدرجات متفاوتة من تركيا في الشمال والشمال الغربي، وأخرى مدعومة من الولايات المتحدة في مناطق من الجنوب، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المتمركزة في الشرق مع قوات أميركية تدربها وتقدم لها السلاح والمشورة، وأخيرا تتمركز إسرائيل في مرتفعات الجولان التي تحتلها منذ عقود.

قد تبدو الخريطة مشبعة بالوجود الدولي، ومع ذلك فإن هذا النفوذ يُعد أقل كثافة مما كان عليه الحال منذ 2013 حين تشرذمت الخريطة السورية وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية وتعددت التدخلات الدولية، وصولا إلى 2020 حين وقَّعت روسيا مع تركيا اتفاق وقف إطلاق النار، لتستقر خريطة سوريا على النحو الأخير الذي انهار سريعا بعد عملية “ردع العدوان”.

تبلغ مساحة سوريا نحو 187 ألف كيلومتر مربع، وتحيط بها تركيا شمالا بحدود تبلغ 900 كيلومتر مربع، ثم العراق والأردن في الشرق بحدود 600 و400 كيلومتر، وإلى الجنوب تتماس مع “إسرائيل” بحدود 83 كيلومترا، ثم لبنان بحدود 400 كيلومتر، ويمتد شريط ساحلي في منتصف الجهة الشرقية منها بطول 190 كيلومترا، يُمثِّل خط اتصالها البحري بالدول الأكثر نفوذا بها، فرنسا سابقا ثم روسيا.

هذه الجغرافيا التي تقع على خطوط التماس الجيوسياسي بين قوى إقليمية وعالمية مَثَّلت عبر تاريخها إحدى أهم ساحات الصراع على النفوذ، فما الذي يميز الجغرافيا السياسية السورية فيجعلها محط أنظار قوى خارجية؟ وكيف أثَّر عامل الجغرافيا في مسار الثورة السورية؟

قدرُ الجغرافيا السورية

“ربما تكون الجغرافيا صماء أحيانا، ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها، ولقد قيل بحق إن التاريخ ظل الإنسان على الأرض بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان”.

بهذه الكلمات المفتاحية العميقة عبَّر المفكر المصري الراحل جمال حمدان عن أثر الجغرافيا في صناعة أحداث التاريخ، ويُنسب للقائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت أنه قال: “الجغرافيا قدر الأمم”، وتلك حقائق متكررة، فلطالما حددت الجغرافيا مصائر أمم وشعوب.

بيد أنه لا توجد نظرية واحدة تشرح التفاعل بين الجغرافيا والسياسة، بل كان هذا السؤال دائما مجالا للجدل الواسع الذي أنتج العديد من التفسيرات والتصورات. ويقدم أستاذ العلوم السياسية فيل كيلي أطروحة تحاول جمع شتات الفرضيات المتعلقة بالجيوبوليتيك في مجموعة من المنصات. والمنصة، بحسبه، هي صندوق افتراضي يضعه المحللون لتوصيف منطقة معينة.

فمثلا تصف منصة “قلب الأرض” المنطقة الوسطى للدولة أو القارة، التي تُمثِّل مركز السيطرة السياسية. وتصف منصة “رقعة الشطرنج” وجود خليط بين أطراف متحالفة وأخرى متصارعة (دول أو جماعات) في منطقة واحدة، ما يعني تميزها بالصراع والانقسام المستمر الذي لا يتوقف إلا بخلق ديناميكية توازن قوى للحفاظ على استقلالية المنطقة أمام التدخل الخارجي.

وتصف منصة “رقعة الشطرنج” عادة نمط العلاقات بين الدول في منطقة ما، لكن عند تطرُّقه لوصف نمط العلاقات بين جماعات محلية داخل إطار الدولة، قدَّم مصطلح “الحزام المتداعي” (Shatterbelt) الذي يميز ديناميكية الصراع في المستوى الداخلي، بسبب الانقسام السياسي أو الطائفي أو الطبقي، الذي قد يؤدي إلى تدخل قوى خارجية.

وعودا إلى سوريا، تُعد العاصمة دمشق بمنزلة “قلب الأرض” في الحالة السورية، وهي وفق الباحث في شؤون الشرق الأوسط آراش رايزنيجاد تظهر في الخريطة كأنها حصن صغير منعزل تربطه طرق متفرقة إلى بقية البلاد، ويحيط بها مجموعة من المناطق المختلفة عنها جغرافيا التي عادة ما ارتبطت تاريخيا بجهات خارجية أكثر من ارتباطها بدمشق.

وتقع حلب في أقصى الشمال، وهي بوابة تجارية طبيعية جاذبة للقوى الخارجية عن طريق البر، مما أكسبها مكانة منافسة لدمشق، وفي الغرب ثمة شريط ساحلي عُدَّ في فترات تاريخية متعددة ملجأً للأقليات الدينية في البلاد، وعادة ما كان نقطة الاتصال مع القوى الأجنبية المهيمنة في سوريا، مثل فرنسا خلال فترة الانتداب ثم روسيا عام 2015. وفي الشرق ناحية نهر الفرات، ارتبطت مناطق الرقة ودير الزور والحسكة تاريخيا بالموصل أكثر من ارتباطها بدمشق.

أما جنوبا فقد كانت الجبال ملجأ أيضا لبعض الطوائف الدينية. هذا التشرذم الجغرافي والهوياتي في آنٍ واحد، فضلا عن وقوع سوريا بين قوى كبرى عبر التاريخ، جعلها -وفق رايزنيجاد- تعاني غالبا من صعوبة في تكوين هوية وطنية شاملة، وسهولة في تعرضها للتدخل الخارجي.

خارطة توضح توزع السيطرة في سوريا (الجزيرة)

وتقع سوريا أساسا على منصة رقعة الشطرنج، حيث العديد من دول الجوار التي تجد فيها مصالح حيوية تريد الحفاظ عليها، وتحولت لاحقا إلى منصة الحزام المتداعي، حين انفجرت التناقضات الداخلية لفسيفساء المجتمع السوري، المقسمة على أساس ديني وعِرقي بين السنة والشيعة والعلوية والعرب والأكراد والدروز وغيرهم، وخارجيا بتحالفها مع بعض جيرانها في مواجهة إسرائيل، ومشكلاتها مع لبنان، واختلاف نظامها السياسي عن القائم في الأردن، إلى جانب علاقاتها المتأرجحة مع تركيا، خاصة بعد عام 2011، فضلا عن التدخل الإيراني ثم الروسي بعد الثورة.

وهذا ليس مستغربا، فموقع سوريا الجغرافي جعلها منذ ولادة النظام الإقليمي الحديث في أعقاب الحرب العالمية الأولى في موقع القلب من الصراع على الشرق الأوسط.

ثم بعد نشأة النظام العسكري في سوريا في الخمسينيات وإلى سنوات الثورة، كانت سوريا أيضا ساحة صراع دولي وإقليمي على النفوذ، انخرطت فيه في أوقات مختلفة الولايات المتحدة ودول أوروبية والاتحاد السوفياتي ثم روسيا وإسرائيل وتركيا ومصر والعراق وإيران والسعودية والأردن وغيرها.

من الجهات الأربع، ثمة حدود ملتهبة قابلة للاشتعال، في الشمال تشترك تركيا مع سوريا في حدود تفصل بين مناطق تقطنها أغلبية كردية، ومنذ انهيار الدولة العثمانية ورسم الحدود السياسية الحديثة تصاعدت المسألة الكردية، وتنامى نشاط الحركات الانفصالية حتى باتت تُمثِّل مصدرَ توترٍ مستداما لكلا البلدين.

ثم الحدود مع العراق الذي كان في عهد صدام حسين الخصم اللدود لنظام الأسد (الأب)، ثم بعد سقوط صدام أصبحت الحدود بين البلدين في حالة سيولة، تارة أمام الميليشيات الشيعية، وتارة أمام تنظيم الدولة الإسلامية الذي أزالت جرافاته الحدود بين البلدين في ذكرى توقيع اتفاقية سايكس بيكو في يونيو/حزيران عام 2014، ثم الجولان المحتل وخطوط التماس مع إسرائيل، ثم لبنان الذي لم تهدأ علاقاته مع سوريا ولم تبتعد عن عهد التوتر منذ تأسيس البلدين.

خارطة سوريا (الجزيرة)

الثورة السورية: تفجير التناقضات

في خضم رحلة بشار الأسد لتأمين نفسه ونظام حكمه وتعزيز سلطته، اعتمد سردية مواجهة التدخلات الخارجية لمنح نفسه حق إسقاط كل المحاذير السياسية والقانونية والدولية، فضلا عن الأخلاقية، من أجل الحفاظ على “الدولة”، لكن المفارقة أنه في سبيل ذلك ضحَّى باستقلالية الدولة وبمقدراتها، وبنيتها التحتية، ومنازل المواطنين وممتلكاتهم، وجزء كبير من الشعب نفسه.

وأدى استعمال القتل الوحشي من قِبَل النظام، الذي بلغ حد إسقاط الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة على المناطق المدنية، إلى خلق حلقة مفرغة من انعدام الأمن. فممارسة النظام للعنف دفعت بالمعارضة إلى ممارسة عنف مضاد، ثم اتخذه النظام ذريعة إضافية لتصعيد العنف مرة أخرى، وعودة المعارضة للرد بعنف مقابل، نتج عن ذلك تآكل شرعية النظام وتراجع قدراته العسكرية بسبب صعوبة التجنيد أو نفاد الإمدادات، ما مهَّد الأرضية لاستدعاء أطراف خارجية بُغية حسم الصراع لصالح النظام.

واستغلالا للتناقضات المجتمعية لصالحه، اعتمد النظام في استدامة بقائه على نخبة من الأقلية العلوية والبعثيين الموالين له في الأجهزة العسكرية والأمنية، وهو ما كان يحتاج إلى رافعة دولية تعزز نفوذ تلك الأقلية وتُعوِّض تهاوي الدعم الجماهيري الذي كان قائما بفعل القبضة الأمنية المُحْكَمة، منحته إيران بصورة كبيرة هذه الرافعة، كما لجأ إلى ما يسمى دبلوماسية “الأبواب الخلفية”، فعلى سبيل المثال اتخذ من تصنيع وتجارة الكبتاغون، التي قادها ماهر الأسد شقيق الرئيس، أداة للضغط على دول عربية لإعادة تأهيله دوليا وإرجاعه إلى “الحضن العربي”.

وفي مقالة بعنوان “العوامل الجيوسياسية في الحرب الأهلية السورية”، يقول الباحثان كيم هوا تان وأليروبندي بيرودين إن ما حدث في سوريا كان مرتبطا بتداخل عوامل تتعلق بالوضعية السياسية الداخلية وتداخلها مع الأوضاع الإقليمية ثم الدولية، في مزيج معقد ومركب كانت الجغرافيا الفريدة لسوريا عاملا رئيسيا فيه.

فبعد تحول الثورة السورية إلى صراع مسلح، واجه نظام الأسد نقصا حادا في العامل البشري بسبب الإصابات والانشقاقات والتهرب من الخدمة العسكرية. كما أسهم التراجع الحاد للاقتصاد السوري في عدم قدرة النظام على حكم المناطق التي يسيطر عليها وتمويل جهوده العسكرية، ما جعل من الصعب على النظام حسم الحرب لصالحه.

كما أن تصلُّب النظام ورفضه إنهاء الصراع عبر المفاوضات، بوصفه نظام أقلية يرى تسليم السلطة سلميا خطوة انتحارية، إلى جانب تفكك المعارضة وتعدد مطالبها، زاد من تعقيد المشهد الداخلي، ما أطال عمر الصراع وفتح الباب أمام لجوء النظام للاستعانة بالدعم الخارجي لضمان بقائه ومسارعة دول أخرى لإسناد قوى المعارضة، كلٌّ حسب مصلحته.

كما خلط ظهور تنظيم الدولة أوراق الساحة الإقليمية، بوصفه جماعة مسلحة مرتبطة بالصراع في عدة مناطق أخرى بخلاف سوريا، ما شتَّت أهداف بعض الداعمين الدوليين وحوَّل هدفهم الأول من مساندة قوى المعارضة إلى القضاء على التنظيم.

ووجدت هذه الأوضاع الداخلية والإقليمية المعقدة صداها على الساحة الدولية، فإحجام الغرب عن دعم قوى المعارضة والدخول مباشرة في الصراع رغم انتقادهم لمنظومة تحالفات الرئيس السوري يرجع جزء منه إلى الخوف من وقوع أسلحة إستراتيجية بيد مجموعات لا يثق الغرب في موقفها المستقبلي تجاه إسرائيل، مما أنتج في المحصلة انفساح المجال أمام روسيا لتعزيز حضورها في الشرق الأوسط وأمام إيران لاستكمال بناء ما سمّته محور الممانعة.

وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف (يمين) ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (وسط)، ووزير خارجية سوريا السابق وليد المعلم (رويترز)

سوريا البعيدة عن الحدود القريبة من المصالح

التعقيد الذي فرضته الجغرافيا السورية لم يقف عند بنيتها الداخلية أو حدود دول الجوار، بل ثمة أصداء ترددت حتى بلغ مداها نقاطا بعيدة في جغرافيا العالم، حيث تقع سوريا في القلب من الشرق الأوسط، وهي منطقة تماس بين قارات العالم، من آسيا برا نحو تركيا وأوروبا، وبحرا نحو الساحل الجنوبي لأوروبا وشمال أفريقيا.

كما أنها كانت ولا تزال مركزا تجاريا مهما، يتحكم في ممرات ومضائق بحرية إستراتيجية على طول البحر الأحمر وفي غرب المتوسط. هذه الوضعية الخاصة للشرق الأوسط جعلت الفاعلين الدوليين والقوى العظمي تعتبره مجالا رئيسيا لحسم النفوذ وتسوية الصراعات ومعايرة موازين القوى.

بالنسبة للولايات المتحدة، كانت سوريا أحد أهداف العقيدة الخارجية الأميركية لحفظ أمن إسرائيل عبر دعم حكومة أقلية، أو إشغالها في صراع الهيمنة مع العراق أو مع مصر، وأخيرا بتوظيفها بوصفها منصة لابتزاز الخصوم في المنطقة. وتحركت روسيا بالمقابل من الولايات المتحدة على عدة أصعدة، فلطالما حرصت أن تقدم نفسها “شريكا نزيها” لدول الشرق الأوسط لتحسين سمعتها الدولية، لكن حرصها على مواجهة النفوذ الأميركي في حوض البحر المتوسط الذي تعتبره الخاصرة الجنوبية الرخوة للبحر الأسود دفعها لكسر تلك الصورة والتحرك عسكريا لإسناد النظام السوري.

ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة ابن خلدون التركية، علي أصلان، إن روسيا كانت تهدف من وراء دعم النظام السوري للوصول إلى المياه الدافئة ومنها إلى أفريقيا، وهو ما يُعد حيويا بالنسبة لها خاصة بعد خسارة حليفها الليبي في شمال أفريقيا، معمر القذافي، إبان ثورة فبراير/شباط 2011.

ويضيف أصلان أن روسيا عرضت على النظام القديم في سوريا حمايته أمام شعبه مقابل حصولها على قواعد عسكرية برية والسماح لقطعها البحرية بالرسو على موانئ الساحل الغربي لسوريا.

أما في إيران، فعلى ما يبدو أن دروس التاريخ لا تزال ماثلة أمام أنظار صناع السياسة الخارجية، فخسائر بلادهم في القرن التاسع عشر لصالح الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية تُشكِّل حافزا لاستعادة مكانتها في المنطقة. ومن أجل ذلك صنع النظام الإيراني مزيجا معقدا من الإرث الفارسي القديم والقومية الإيرانية الحديثة إلى جانب السردية الشيعية من أجل التعبئة لاستعادة نفوذها في الشرق الأوسط والقوقاز، كما يقول أستاذ دراسات الشرق الأوسط أمين تارزي.

ومع اندلاع الثورة في سوريا، وتزايد حاجة النظام السوري إلى حلفاء من الخارج، سارعت إيران لملء الفراغ في سوريا وخلق عمق إستراتيجي ووصْل نفوذها في العراق بلبنان عبر سوريا، مما يُسهِّل عملية إمداد الأسلحة إلى حزب الله وتعميق حصارها لإسرائيل من جهة، وتثبيت مكانتها إقليميا من جهة أخرى، دون تصدير حدودها للخطر.

وتقاطعت السياسة الخارجية الإيرانية مع نظيرتها التركية في المنطقة، فقد فرضت الجغرافيا على الدولتين مساحات للتنافس الجيوسياسي تاريخيا، كانت سوريا دائما واحدة منها. يقول أصلان إن السياسة الخارجية التركية تحولت منذ قدوم حزب العدالة والتنمية من العزلة التي فرضتها الأنظمة العسكرية خلال القرن الماضي إلى الانفتاح على محيطها الحيوي ومجالها التاريخي.

وترى تركيا في سوريا مساحة لاحتواء النفوذ الإيراني واحتواء التوسع الإسرائيلي المحتمل في المنطقة نحو حدودها، كما أن عملية الانفتاح التي سعت لترسيخها خلال العقدين الماضيين تقوم أساسا على إيجاد حكومات صديقة، خاصة في سوريا القريبة منها جغرافيا.

تتشابه سوريا إذن في طبيعتها الجيوسياسية بالنسبة للشرق الأوسط مع بولندا بالنسبة لأوروبا، فهي أرض منبسطة دون حدود طبيعية محاطة بمجموعة من الدول الصديقة والعدوة، وتقع في تقاطعات قوى كبرى ترى فيها عمقا إستراتيجيا داخل أوروبا. وحتى تتغلب سوريا على خصائص جغرافيتها السياسية كان عليها دائما الاستعانة بحليف موثوق أو التحول إلى قوة عسكرية تفرض نفوذها بالقوة، وكما كانت الجغرافيا السورية عبئا على نظام الأسد وعلى الثورة، فهي لا تزال عبئا أيضا على السلطة الجديدة وأحد أهم التحديات التي ستواجهها.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version