مخيم الدهيشة – في مخيم الدهيشة بمدينة بيت لحم جنوب القدس، تعيش الفنانة البصرية شذى صافي في “المحطة المؤقتة” التي تصر على مغادرتها يوما ما للعودة إلى قريتها المقدسية المهجرة عام 1948 “جرَاش”.
بعد 4 عقود من عام النكبة، ولدت صافي في الأردن لأب مناضل وأم تنحدر من القرية ذاتها، وكان عام 1996 هو الفارق في حياتها عندما زارت منزل جدتها لأمها في مخيم الدهيشة لأول مرة.
وهناك استمعت لحكايات النكبة التي انسابت على لسان جدّتها غزلان التي انقسم أبناؤها بين أسير ومطارد، ولعبت مع أبناء أقرانها في أزقة المخيم ما لم تلعبه يوما في طفولتها خارج فلسطين مثل “عرب ويهود” و”وقعت حرب بيننا وبينهم”، وتتركز على عمليات الكر والفر بين أبناء المخيم وجيش الاحتلال الإسرائيلي.
تعلمت شذى صافي الفن بنفسها، مستوحية إلهامها من التاريخ والتراث والمقاومة الفلسطينية والنكبة، التي لم تعشها لكنها عاشت فيها وظهرت في أعمالها الفنية.
نكبة في كل زاوية
في منزلها -الذي تبرز النكبة وقضية اللجوء في كل زاوياه وعلى جدرانه- استقبلت صافي الجزيرة نت، وتحدثت عن اكتشاف والدها موهبتها عندما أنجزت أولى رسماتها للقائد “أبو جهاد” (القائد في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) الشيهد خليل الوزير)، وتوالت بعدها الرسومات التي اتضحت فيها بشكل أعمق ملامح النكبة وآلامها وآمال اللاجئين الذين اكتووا بنارها.
تقول “رأى والدي النور عام 1945 في قرية جراش، واستقر به الحال في مخيم الدهيشة، وفيه عاش طفولة قاسية لطالما حدثني عنها؛ تحدث عن الفقر المدقع وملابس الأطفال الممزقة التي لم تقهم برد الشتاء القارس، وحدثني أن حساء العدس كان وجبة أطفال المخيم اليومية التي توزع عليهم في مدارس الوكالة” (وكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين “أونروا” [UNRWA]).
وتعرب صافي عن امتنانها لأن والدها قرر العودة إلى مخيم الدهيشة عام 2004 بشكل نهائي بعد رحلة اغتراب طويلة جال فيها كطالب علم وموظف في كل من ألمانيا ولبنان وتونس والأردن، ورغم قسوة العيش في مخيمات اللجوء، فإن صافي تشعر بالأمان في هذه البقعة الجغرافية المكتظة مع نحو 13 ألف لاجئ يعيشون في المخيم ولا يحلمون إلا بالعودة إلى قراهم المهجرة.
تطورت مسيرتها الفنية ولم تعد تقتصر على الرسم، ففي عام 2016 دخلت عالم تشكيل منحوتات من الصلصال لإعادة إنتاج أشكال مألوفة للثوب الفلسطيني، في محاولة لحفظ الذاكرة.
بنت الشمس
وأطلقت شذى صافي اسم “بنت الشمس” على مجموعتها المصنوعة من الطين، وقالت “يمثل الطين أرضي وبيتي وقريتي المهجّرة وشجرة الزيتون التي استظلت بها جدتي لسنوات وهي تغزل وتطرّز ثوبها، وتعبّر الشمس التي جففت المجسمات عن حريتنا وأملنا وقوتنا وحلمنا بالعودة”.
أثواب جدتيْها غزلان وخيرية ووالدتها عدلة كانت مصدر إلهام أعمالها الصلصالية، ومنها انطلقت لسبر أغوار أثواب مسنات المخيم اللاتي هجّرن من القرية ذاتها والقرى المجاورة لها.
في أزقة المخيم رافقناها إلى منزل الحاجة خضرة التي تنحدر من القرية ذاتها، وهناك أصغينا لحديث ذي شجون قادته المسنة التسعينية التي خرجت من جراش حاملة 12 ثوبا تراثيا خاطتها لنفسها بيديها.
“هذا يا ستي عِرِق الغزالة، وهذا عِرِق قصب السكر، وذلك عرق الورد، وتلك القُرَن والمناجل”، بإسهاب تشرح خضرة تفاصيل أثوابها، وبتمعن تصغي صافي وتسأل عن هذا الثوب وذاك، وعن عشرات قطع “التطريز الفلاحي” المنتشرة في منزل الجدّة.
في صور أخرى ومصادر عديدة أيضا، بحثت شذى صافي عن تراث الجدّات وأسباب ظهور هذه “الغُرزة” أو تلك في المدن والقرى الفلسطينية المختلفة، حتى صنعت مئات الأثواب الصلصالية.
النكبة تعيش فيها
على مقاعد جامعة بيت لحم، درست شذى صافي تخصص الخدمة الاجتماعية، وكان للاجئين الحصة الكبرى من مسيرتها التعليمية؛ إذ أعدت مشروع تخرجها تحت عنوان “ما بعد صدمة اللجوء في مخيمي الدهيشة وشاتيلا”.
وتأمل هذه الشابة أن تتحرر يوما من الوظيفة المكتبية لتتفرغ بشكل كامل للفن الذي كرسته لخدمة قضيتها وقصتها التي تشبه قصص ملايين اللاجئين حول العالم.
خلال الخروج من المخيم، يتسلل إلى أنف الزائر مزيج من الروائح المنبعثة من مطابخ المنازل المتلاصقة، وكان آخر ما وقع بصر الجزيرة نت عليه هو أشجار اللوزيات المختلفة وشجرة العنب التي حرص خليل صافي -والد شذى- على زراعتها حول منزله المؤقت، لأنها الأشجار التي امتازت بها قرية جراش التي تغطيها اليوم الأعشاب المتسللة على بقايا المنازل المدمرة، بالإضافة لصمود عدد من أشجار الخروب والتين والزيتون.