غزة- تقلّب أم إسلام بطاقات ملونة مرسوما عليها صور فواكه، تردد على مسامع ابنها “هذه موزة”، تبدّل البطاقة “وهذا بطيخ”، يومئ إسلام (3 أعوام) برأسه بعد تمعّن، وهو يتعرّف على شيء جديد لم يبصره يوما منذ بدء تمييز الأشياء حوله.

حين صار الغذاء الطبيعي رفاهية حرمت الحربُ أطفال غزة منها، حربٌ لم تكن فاتورتها الحرمان من الحقوق البشرية فحسب، بل ارتفعت تكلفتها لتكون سببًا مباشرا في إصابة المئات منهم بأمراض السرطان على اختلاف أنواعها.

كان إسلام المصاب بسرطان الدم “اللوكيميا” أحد ضحايا الحرب، إذ شخّص الأطباء إصابته في الشهر التاسع منها، مرجحين أن تكون إشعاعات الصواريخ والفسفور والغازات السامة هي سبب ما أصابه.

تقول أم إسلام النبيه في مقابلة مع الجزيرة نت “شخّص الأطباء مرض ابني دون أجهزة، لا إمكانيات في غزة لفحص خزعة النخاع ليُعرف نوع السرطان ولا العلاج الكيماوي اللازم له، لذا فهو بحاجة عاجلة للتحويل للعلاج خارج القطاع”.

يحتّم مرض إسلام بقاءه بعيدا عن الاختلاط بالأطفال لانخفاض مناعته واحترازا لعدم التعرض لإصابة أو أذى جسدي أو نزيف تتدهور على إثره صحته، لذلك فهو يقضي معظم وقته على سرير المشفى، فيما تحاول والدته قضاء وقت معه وبيدها رضيعها “سند” الذي وضعته قبل 10 أيام فقط.

تتسارع دموع إسلام وهي تقول “لو كنّا في عالم يحترم الإنسان لكان من المفترض أن يخرج ولدي للعلاج منذ اللحظة الأولى لاكتشاف المرض لكي يتلقى الجرعات الكيماوية المناسبة وزراعة النخاع، لكننا في عالم يرانا خارج تصنيف البشر”.

تلفت أم إسلام إلى أن عددا من التحويلات المرضية رُفضت دون مبررات، وتضيف “استغربت جدا من أن اسم ولدي يقابل بالرفض الأمني عدة مرات دون أي مبررات. تبين أن اسمه (إسلام) يمكن أن يكون سببا في الرفض، حاولنا تغيير الاسم لكن هذا الإجراء بالغ الصعوبة اليوم”.

يحتّم مرض إسلام بقاءه بعيدًا عن الاختلاط بالأطفال لانخفاض مناعته واحترازًا لعدم التعرض لإصابة (الجزيرة)

عزلة ومرض مستعص

أما في مدرسة الزيتون شرق مدينة غزة، وفي جزء من غرفة مقسمة بستائر قماشية، فتجلس المصابة بسرطان الثدي حنان الحصري (46 عاما) وحدها، فأمها متوفاة وعائلتها نازحة في جنوب القطاع، وترعاها جارة النزوح في الغرفة.

تأخرت حنان في تشخيص المرض، فقد تمكنت من تصوير الورم بعد ظهور الأعراض الجسدية بـ4 أشهر، فحصار المشافي وخروجها عن الخدمة لم يتح لها إمكانية الفحص المبكر، هذا الوقت كان كافيا للمرض لكي يتفشى ويؤدي لظهور الدمامل والنزف الدموي المستمر، مما دفع الأطباء لوصف حالتها “بالمستعصية”، كما أن خروجها من القطاع للعلاج والتعامل مع الورم ضرورة ملحة لا تحتمل التأخير كما يقول الأطباء.

وعن اعتماد الغزيين على تناول المعلبات في طعامهم، تقول حنان “في كل مرة أتناول المعلبات أشعر بالإجهاد الشديد، إلى أن وصلت اليوم لفقدان الشهية، وقد يمر يومان لا يدخل جسدي شيء إلا الماء، كما أن وجودي في مكان يكتظ بالنازحين ويفتقر لأدنى مقومات الرعاية الصحية يزيدني مرضا”.

تجولت الجزيرة نت في قسم الأورام في مستشفى الحلو الدولي، وسط نساء هزيلات على أسرّة المشفى، تتكدس أسماؤهن على قوائم انتظار إسرائيل للسماح لهن بالخروج للعلاج، وإلى ذلك الحين يتلقين جرعات كيميائية مخففة، في محاولات من الأطباء لإبطاء تفشي المرض في الجسم، لكنه ليس العلاج المناسب ولا الأمثل كما يقولون.

تقول مريضة السرطان إيمان العشي (60 عاما) إنه وبالرغم “من أخذها للجرعة الثامنة من الكيماوي المخفف إلا أن حجم الورم يتزايد يوما بعد يوم، فبعد أن كان محصورا بالقولون فقط، انتقل اليوم إلى المبايض والرئتين ثم وصل الكبد مؤخرا”.

فقدت الحاجة إيمان 22 كيلوغراما من وزنها حتى لم يعد جسدها يحتمل الجرعات المخففة فأصيبت بجلطة وتعاني من هزال حاد ومزمن يضاعفه انعدام الغذاء الصحي والفيتامينات اللازمة لتقوية جسدها لاحتمال الجرعات.

تقول الحاجة إيمان للجزيرة نت “رغم أن حالتي مصنفة بأنها طارئة وعاجلة إلا أنني كلما قدمت لطلب تحويلة للعلاج في الخارج أُقابل بعدم الرد”، وتعلق ابنتها “أكثر ما أخشاه أن نخسر أمي ونحن ننتظر الموافقة”.

مصابة السرطان حنان الحصري وصف الأطباء حالتها بالمستعصية وبحاجة للسفر العاجل (الجزيرة)

أرقام مقلقة

وكشفت وزارة الصحة للجزيرة نت وجود أكثر من 13 ألف مصاب بمرض السرطان في قطاع غزة، أكثر من 3 آلاف منهم اكتشفت إصابتهم خلال حرب الإبادة.

وقال المصدر إن 1500 مريض فقط تمكنوا من السفر للعلاج في الخارج، كما أن معظم المرضى بحاجة للخروج من القطاع إما لاستئصال الأورام، أو لاستكمال العلاج، أو للمتابعة الدورية للمتعافين من المرض، محذرا من أن أكثر من ألف مريض سيفقدون حياتهم إن لم يحولوا للعلاج في الخارج بشكل عاجل.

وهو الأمر نفسه الذي حذر منه جراح الأورام الأردني، الدكتور فادي علاونة، الذي قدم إلى مدينة غزة مع وفد طبي تابع لمؤسسة الرحمة، والذي مكث في المدينة 4 أيام تمكن فيها من إجراء 20 عملية معقدة لاستئصال الأورام في مستشفييْ الخدمة العامة والمعمداني، مطالبا بضرورة فتح باب التحويلات في أسرع وقت حتى لا يصل المرض إلى مراحل لا يمكن علاجها.

وقال علاونة في مقابلة مع الجزيرة نت إن القطاع الصحي في غزة يخلو من العلاج الشعاعي وفحوصات المستقبلات الهرمونية المرتبطة بأمراض الثدي، كما يخلو من العلاجات الموجهة والبيولوجية واليود المشع، وتابع “لذا أجزم أن جميع مرضى السرطان في القطاع بحاجة للسفر إلى الخارج للحصول على العلاج المتكامل الذي يحترم إنسانيتهم”.

ولفت علاونة إلى أن سوء التغذية ينعكس بشكل مباشر وغير مباشر على الحالة المرضية ويفاقم من صعوبة التئام الجروح، كما يضاعف من المشاكل المرتبطة بالتوصيلات المعوية والتعافي ما بعد العمليات الجراحية.

جرّاح الأورام الأردني فادي علاونة في مشافي مدينة غزة أجرى 20 عملية لاستئصال الأورام خلال 4 أيام (الجزيرة)

صبر على الوجع

يقول علاونة إن أكثر ما أثّر فيه خلال وجوده في غزة هو صبر المرضى على أوجاعهم، ويروي قصة سيدة كانت تعاني من آلام غير محتملة في البطن ونزول حاد في الوزن، كانت تظن أن سبب تردي حالتها الصحية هو حالة المجاعة العامة التي يعيشها شمال القطاع، ليتبين فيما بعد وجود ورم سرطاني في المعدة في المرحلة الرابعة، وهي مرحلة لا جدوى فيها من العلاج الجراحي.

وتابع علاونة “حين عاتبت السيدة قالت لي إن الناس تصبر على الموت والحرب، كيف لا أصبر على وجع المعدة”، وختم علاونة مقابلته بقوله “لم تمنح هذه الحرب الغزيين الموت بإنسانية”.

وفي هذا السياق كشف الدكتور فضل نعيم مدير مستشفى المعمداني عن افتتاح عيادة لمرضى السرطان تعتمد على تقنية الطب الإلكتروني مع مستشفى المطلع في مدينة القدس، بحيث يُستدعى المرضى وتحضَّر الفحوصات الكاملة وتُرسل إلكترونيا لمناقشتها مع المختصين في القدس لتشخيص المرض ووضع الخطة العلاجية.

وقال نعيم إن هذه الخطوة تأتي في إطار التخفيف من حالة الضغط التي يشكلها الاحتلال في ابتزاز المرضى ورفضه السماح لهم بالسفر للعلاج، كما قال إنها جزء من مشروع إستراتيجي متكامل يعمل المستشفى الأهلي العربي عليه من خلال التركيز على مراحل الوقاية والتوعية والكشف المبكر وعمل الفحوصات ووضع الخطط العلاجية.

وفيما يحاصر الاحتلال أكثر من 11 ألف مريض بالسرطان في قطاع غزة، يمنعهم من السفر للعلاج خارجه ويكمل مهمته في الداخل.

فقد أخرج مستشفى الصداقة التركي وهو مستشفى الأورام التخصصي الوحيد فيه عن الخدمة، وقتل أهم المختصين في مجال قراءة العينات وهما الدكتور حسام حمادة والدكتور محمد الدبور، ويمنع إدخال العلاجات والمستلزمات الضرورية للمرضى، ويفرض عليهم مجاعة تتفاقم يوما بعد يوم.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version