الفاشر- في ظل الصراع المستمر الذي يمزق السودان وإقليم دارفور بشكل خاص، برزت ظاهرة مقلقة ومؤلمة بقيام بعض الأطفال في قرى النزوح ومراكز الإيواء بصناعة مجسمات أسلحة وآليات عسكرية من الطين والخشب، في محاولة لتقليد الحقيقية.
وتثير هذه الأسلحة المفترضة قلق الأهالي على سلامة الأطفال، إذ تبدو بعضها -من بعيد- وكأنها حقيقية، وقد يحسبها البعض أسلحة أصلية من دون أن يكتشفوا حقيقتها إلا عند الاقتراب منها.
وتعكس هذه الظاهرة المعاناة النفسية والاجتماعية التي يعيشها هؤلاء الأطفال في ظل الصراع والنزوح المستمر. فبدلا من أن يكونوا في المدارس، باتوا يحاولون التعبير عن واقعهم المؤلم من خلال صناعة هذه المجسمات المفترضة.
ظاهرة مقلقة
ووفقا لخبراء في علم الاجتماع، فإن هذه الممارسة الخطرة تعكس مدى تأثير الصراع المستمر في السودان على نفسية وسلوك الأطفال، فبدل أن يكونوا في بيئة آمنة ويتلقوا التعليم والرعاية اللازمة، يضطرون إلى التكيف مع واقع قاسٍ ومؤلم، مما يدفعهم إلى التعبير عنه بطرق غير آمنة وخطرة.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول المواطن صالح محمود من منطقة “طويلة”، الواقعة على بعد 60 كيلومترا غربي مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، إن ظاهرة صناعة الأطفال للأسلحة الطينية تفشت بصورة كبيرة في منطقته، وهي انعكاس مباشر لحالة الخوف والانعزال التي يعيشها سكان الإقليم.
وأضاف أن أطفالهم يشعرون بالضعف والعجز أمام العنف المستمر، فيلجؤون إلى هذه الطريقة لاعتقادهم أنها وسيلة للدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم، وأن هذا الواقع المرير -بوصفه- أثر بشكل كبير على سلوكهم وتفكيرهم، مما قد ينعكس سلبا على مستقبلهم، إذ أصبحوا يتأثرون بثقافة الحرب ويقلدونها بأشكالها المختلفة.
من جانبها، قالت ربة المنزل عواطف حامد إن “مشاهدة أطفالنا وهم يصنعون هذه الأسلحة تبعث على الحزن والقلق، فهم بحاجة إلى الأمن والحماية والرعاية، لا أن يكونوا مضطرين لصناعة أدوات للقتال والتنادي بأسماء الجنود المقاتلين”. وأكدت للجزيرة نت أن هذا “الواقع المؤلم” يستدعي تدخلا عاجلا من قبل الجهات المعنية لإيجاد حلول جذرية للنزاع وتوفير الأمن والرعاية اللازمة لأطفال دارفور والسودان ككل.
بينما قالت حواء آدم، وهي نازحة من منطقة “شقرة” غربي الفاشر، إن الأطفال في منطقتهم يرددون كل صباح أغاني المقاتلين وهم يحملون مجسمات السلاح المصنوع من الطين، في حين يرتدي بعضهم قناع “الكدمول” (عِمة سودانية تغطي الوجه أيضا)، ويحمل آخرون مسدسات مصنوعة من الطين والخشب.
وأضافت للجزيرة نت أن الأُسر تنزعج من هذه السلوكيات، فلا يزال الأطفال صغارا، لكنهم يحملون هذه الأسلحة بشكل دائم طوال ساعات النهار.
أدوار جديدة
طبقا للباحث في علم الاجتماع محمد سليمان أتيم، فقد أثرت الحرب بشكل كبير على حياة الأطفال في السودان، لا سيما في إقليم دارفور، وأوضح أن تنامي ثقافة الحرب لديهم يمكن أن يؤدي إلى زيادة ميلهم نحو الحياة العسكرية، وأن الأطفال في دارفور هم الأكثر تضررا نتيجة الحرب المستمرة في المنطقة.
وأشار للجزيرة نت إلى أن إغلاق المدارس سيؤدي إلى تفاقم مشكلة الأمّية في الإقليم إذا استمرت الحرب لفترة طويلة، مما قد يُسبب “تمردا” آخر في المنطقة نتيجة الجهل والحرمان الذي يعاني منه الأطفال.
وأضاف الباحث أنهم يواجهون الموت يوميا وقد يفقدون أهلهم أو أجزاء من أجسادهم، وهم محرومون من الذهاب إلى المدرسة والحلم بمستقبل أفضل. وشدد على ضرورة اتخاذ إجراءات فورية لحمايتهم من آثار الحرب المدمرة، وإعادة تأهيلهم نفسيا واجتماعيا.
وفي تصريحها للجزيرة نت، تؤكد اختصاصية علم النفس أحلام إبراهيم أن لهو الأطفال بالأسلحة الطينية هي طريقة للتعبير عن مشاعرهم وتجربة أدوار جديدة لهم. وأنه ينبغي توجيههم نحو أنشطة إبداعية أخرى تساعدهم على التنفيس عن مشاعرهم بطريقة إيجابية، مثل الرسم والنحت والموسيقى.
وأشارت إلى قلق المجتمع حيال هذه المسألة مع تدهور الحياة المدنية في المنطقة. وقالت إن الأطفال يشعرون بالخوف والقلق والاكتئاب، وقد يعانون اضطرابات نفسية، مثل الكوابيس والنوم المضطرب، ومن المهم توفير العلاج النفسي المناسب لهم لمساعدتهم على التعافي من هذه الآثار السلبية.
ولفتت اختصاصية علم النفس إلى أن العلاج النفسي في هذه الحالات يشمل استخدام أساليب مثل العلاج بالفن والموسيقى والقصص التي تساعدهم على التعبير عن مشاعرهم وتخفيف الضغوط النفسية، وإشراكهم في أنشطة اجتماعية وترفيهية لمساعدتهم على إعادة بناء حياتهم الطبيعية.
وشددت على ضرورة توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأُسر والمجتمعات المتضررة من الحرب، لمساعدة الأطفال على التعافي بشكل أفضل وإدماجهم في المجتمع والمدارس، وعلى التكيّف مع الحياة المدنية مرة أخرى.
تدمير مستقبل
بدورها، تصف الناشطة من مدينة الفاشر زحل عباس، هذا الأمر بـ”الخطير للغاية”. وأوضحت أن انتشار هذه الثقافة يعكس مدى تغلغل ثقافة الحرب وعدم الاستقرار والوضع الأمني المتردي الذي تعاني منه المنطقة، حيث ينشأ الأطفال وسط بيئة مليئة بالعنف، فينظرون إلى الأسلحة على أنها وسيلة للعب واللهو وليس أداة للقتال.
وتقول -للجزيرة نت- إن لهذا الوضع انعكاسات خطيرة على مستقبل الأطفال، إذ إنهم قد ينشؤون على ثقافة عنف، مما قد يؤدي إلى زيادة معدلات الجريمة في المستقبل.
وشددت على ضرورة دعم المبادرات المحلية التي تهدف إلى إعادة تأهيل الأطفال وإبعادهم عن ثقافة العنف. وتحدثت عن منظمات غير حكومية عديدة عاملة في هذا المجال تقدم برامج تدريبية وترفيهية للأطفال لتنمية مهاراتهم وقدراتهم على التعامل مع هذه المشكلة، و”لكن ينقصها الدعم الكافي”.
وأكدت أن الحل الجذري لهذه المشكلة يكمن في إيقاف الحرب، وبدونه ستظل ثقافة العنف مستمرة، ولن يتمكن الأطفال من بناء مستقبل أفضل.
الوطأة الأشد
وبعد زيارة قامت بها إلى بورتسودان بنهاية يونيو/حزيران الماضي، حذرت المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” كاثرين راسل من أن الأطفال في جميع أنحاء السودان يتحملون الوطأة الأشد للنزاع الذي يمزق البلد.
وقالت إن أكثر من نصف أطفال السودان البالغ عددهم 24 مليونا -أي نحو 14 مليون طفل- في حاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية، كما أن جميع أطفال البلد تقريبا غير ملتحقين بالمدارس حاليا.
في حين ذكرت مصادر إعلامية أن أكثر من 400 طفل في مدينة الفاشر وحدها وقعوا بين قتيل وجريح خلال شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضيين، وكل هذا بينما يستمر شبح الجوع في تهديد أطفال البلد.