تونس- لم تعد ساحة محمد علي في تونس أو “القلعة الحمراء” -حسبما يلقبها منخرطو الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة عمالية في البلاد)- كما كانت إبان الثورة عام 2011، فقد تراجعت التحركات الاجتماعية التي كانت تملأ المكان بالحياة وبالحركة، وأصبح المشهد في هذه القلعة، التي كانت تُوصف بالقلب النابض، أكثر هدوءا وصمتا.
تراجع حضور اللافتات في الشوارع، وتلاشت ألوان اللافتات الزاهية بمرور الوقت، وأصبح الهواء مشحونا بصمت عميق. صدى الصوت الوحيد الآن هو همسات الرياح أو وقع الخطوات القليلة للمارين النادرين بين الأزقة الضيقة، مما يروي قصة التغيرات والتراجع في النشاط الاجتماعي والسياسي.
وباستثناء بعض التحركات المساندة لفلسطين، برز اتحاد الشغل بموقفه المتحفظ، إذ تجنب الدخول في مواجهات مباشرة مع الحكومة، رغم حجم الوضع المطلبي، فلم يتغير في المشهد سوى واجهة مقره الفاخر، التي بدت بعيدة عن الواقع الذي يعيشه الكادحون.
ضغوط سياسية
اتحاد الشغل هو أحد الأطراف الأربعة الحاصلة على جائزة نوبل للسلام لسنة 2015 لرعاية الحوار الوطني لإخراج البلاد من أزمة سياسية، وكان له دور بارز في تعيين الوزراء وتحديد السياسات الحكومية، لكن بريقه خفت منذ وصول الرئيس قيس سعيد إلى سدة الحكم عام 2019.
واحتكر سعيّد كامل الصلاحيات منذ 25 يوليو/تموز 2021، كما عدّل الدستور في استفتاء أجري صيف 2022، واعتبره امتدادا لعملية “تصحيح المسار”، إذ منحه الدستور صلاحيات أوسع، ممّا يخالف النظام البرلماني المعمول به منذ عام 2014.
ويرى مراقبون أن هذا التراجع كان نتيجة التحديات الداخلية التي يواجهها الاتحاد، مثل المشاكل التنظيمية والانقسامات، بالإضافة إلى الضغوط السياسية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد، في حين يتهم أنصار الرئيس التونسي بعض قادة الاتحاد بالتورط في ملفات فساد.
في السياق، يقول القيادي باتحاد الشغل سمير الشفي -للجزيرة نت- إن المنظمة النقابية لم تُخف، في أكثر من مناسبة، انزعاجها من خطط الرئيس قيس سعيد، الذي يرى أن الإصلاحات السياسية يجب أن تُنفذ وفق رؤيته الشخصية، بعيدا عن تأثير القوى التقليدية مثل النقابات والأحزاب السياسية.
ويضيف أن اتحاد الشغل غيّر من مواقفه التي تدعم خطوات الرئيس التونسي للإصلاح في البداية إلى أن أعلن دخوله في مواجهة مفتوحة معه، وأصبحت خلافاته حادة مع الرئاسة بشأن ملفات يرى الاتحاد أن مشاركته فيها ضرورية.
ويوضح الشفي أن هذه الخلافات تصاعدت مع زيادة حملات التوقيف ضد النقابيين، ورفض السلطة استئناف التفاوض مع النقابات، فضلا عن رفض سعيد مبادرات تقدم بها اتحاد الشغل تهدف إلى حل الأزمة السياسية في البلاد.
التفرغ النقابي
هذا التباين في الرؤى بين الرئيس واتحاد الشغل زاد من الخلافات المستمرة بين الاتحاد والحكومة، حيث يتبادل الطرفان الاتهامات ويسعى كل منهما لتعزيز موقفه أمام الرأي العام في عدة قضايا، لعل أبرزها محاربة الفساد والتفرغ النقابي.
والتفرغ النقابي يعني أن يترك الموظف الحكومي وظيفته ويتفرغ لدوره النقابي، بينما تستمر الدولة في سداد راتبه وتضيف إليه الزيادات والعلاوات التي يحصل عليها زملاؤه في المهنة التي ينتمي إليها.
ويتهم أنصار سعيد قادة اتحاد الشغل بالتورط في ملفات ثقيلة الحجم وهي الآن بيد السلطة، مما جعلهم يتخذون موقفا أكثر تحفظا وتجنب التصادم مع الحكومة، في حين يرى مراقبون أن هذه الاتهامات تأتي في سياق الصراع السياسي الجاري، إذ يسعى كل طرف إلى تعزيز موقفه وإضعاف خصومه.
ومع ذلك، يؤكد قادة الاتحاد أن قرارهم بتجنب التصادم ينبع من حرصهم على استقرار البلاد وعدم قدرتها على تحمل مزيد من الأزمات، ويقول الشفي “من له ملفات فساد ضد قيادات الاتحاد، فإن أبواب القضاء مفتوحة”، مؤكدا أن “تلك الاتهامات ليس لها أي أساس من الصحة، وهدفها تشويه صورة الاتحاد”.
ويعتقد القيادي باتحاد الشغل أن “التفرغ النقابي حق من حقوق المنظمة ومنصوص عليه بالاتفاقيات الدولية”، مشيرا إلى تواتر حملات التشويه في شرعية التفرغ النقابي واتهام النقابيين بالفساد وإحالة بعضهم إلى التتبع الجزائي، وهو ما يعد مخالفا لتلك الاتفاقيات، وهو ضرب للعمل النقابي.
ويضيف “كلما وقع خلاف مع السلطة له علاقة بالخيارات السياسية الكبرى، ومنها ما كان مرتبطا بالشأن الاجتماعي، استُعملت مسألة التفرغ النقابي وسيلة ضغط على الاتحاد، وجره إلى التنازلات، حيث عمدت الحكومات المتعاقبة إلى التهديد بإلغائها كلما توترت علاقتها بقيادات الاتحاد”.
في المقابل، يرى المحل السياسي سالم بولبابة -في حديثه للجزيرة نت- أن قادة اتحاد الشغل تحوم حولهم كثير من ملفات الفساد، وهذه الورقة ساهمت في إخماد صوت الاتحاد العام التونسي للشغل وفي تراجع عدد الإضرابات العمالية التي شنها ضد الحكومات المتعاقبة.
وتقبع نحو 20 شخصية سياسية معارضة للرئيس قيس سعيّد في السجون بعد حملة اعتقالات -اتهم خلالها بعضهم بالتآمر ضد أمن الدولة- شملت عديدا من المعارضين، بمن فيهم قياديون من اتحاد الشغل وزعماء سياسيون، فضلا عن عدد من الوزراء السابقين ورجال الأعمال وصحفيين.
خلافات داخلية
وبخصوص تخلي الاتحاد العام التونسي للشغل عن بعض أدواره التقليدية، يرى مراقبون في الشأن السياسي أنه يعود لعدة عوامل متشابكة، من بينها الانقسامات والخلافات الداخلية التي أثرت على قدرة المركزية النقابية على اتخاذ قرارات حاسمة.
ويعتقد المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي أن الدور المتحفظ للاتحاد العام التونسي للشغل قد يكون ناتجا عن التباين في المواقف بين قادة الاتحاد، بسبب انتماءاتهم المختلفة إلى أحزاب تدعم الرئيس قيس سعيد، مثل حركة الشعب وبعض القوى اليسارية كحراك “تونس إلى الأمام”.
وأكد أن الفسيفساء النقابية، التي تحتوي على مختلف التوجهات الفكرية والسياسية داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، تعكس تنوع الأعضاء واختلاف انتماءاتهم، لكن يصعب أيضا الوصول إلى توافق حول الإستراتيجيات والإجراءات الواجب اتخاذها، مما أضعف قدرة الاتحاد على اتخاذ موقف موحد وحاسم تجاه سياسات الحكومة وجعل موقفه مرتبكا.