باريس- بعد طول انتظار، كشفت الجبهة الشعبية الجديدة النقاب عن مرشحتها لرئاسة الحكومة الفرنسية، لوسي كاستيتس، لتبدأ التعريف بنفسها وبقدراتها لنيل منصب رئيسة الوزراء خلال الألعاب الأولمبية وفي عطلة الصيف حيث يصبح الخطاب السياسي نادرا.
وبينما بدأت المديرة المالية لبلدية باريس كاستيتس سلسلة من المقابلات الإعلامية والجولات الميدانية لفرض اسمها على الساحة السياسية، لم يعلق الرئيس إيمانويل ماكرون -الذي يملك السلطة دستوريا لتعيين رئيس الحكومة- على اختيار الجبهة لمرشحتها ولم يُبد أي نية لتعيينها حتى الآن.
ويمثل التحالف اليساري، الذي يضم 193 نائبا، أكبر قوة سياسية في الجمعية الوطنية (البرلمان) بعد نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها ماكرون، لكنه يظل بعيدا عن 289 مقعدا اللازمة لضمان الأغلبية المطلقة.
بديل ضعيف
تمكنت كاستيتس (37 عاما) -غير المعروفة لعامة الناس- من الجمع بين مختلف مجموعات الكتلة اليسارية للاتفاق حول ملفها الشخصي، ولا سيما الحزب الاشتراكي و”فرنسا الأبية” العالقان في خلافات داخلية منذ الجولة الثانية من الانتخابات.
وعن أهمية هذا الاتفاق، يرى المحلل السياسي إيف سنتومير أنه “اختيار حكيم” لعدة أسباب. فمن جهة، من الواضح أن كاستيتس حصلت على دعم جماعي من أحزاب اليسار وهو ما بدا تحقيقه شبه مستحيل من قبل.
ومن جهة أخرى، لأنها تتمتع بشخصية تكنوقراطية وسياسية كافية في التزاماتها في المجتمع المدني، كما أنها جادة وتمتلك موهبة معينة في التعبير، لكن من السابق لأوانه الحكم على الكاريزما التي تتمتع بها على المدى الطويل، وفق المحلل السياسي.
لكنه أشار -في حديث للجزيرة نت- إلى أن فرصة هذه المرشحة لتولي المنصب “ضعيفة جدا” وأنه من الصعب فرضها على ماكرون من الناحية الدستورية أو من وجهة نظر الأغلبية الحسابية في البرلمان.
ومن جانبها، ترى فيرجيني مارتن أستاذة العلوم السياسية وعلم الاجتماع كلية كيدج للأعمال أن تحالف اليسار لم يكن واضحا بشأن اختيار رئيس الوزراء منذ البداية، على عكس المعسكر الرئاسي من خلال رئيس الحكومة المستقيل غابرييل أتال أو جوردان بارديلا ممثلا عن أقصى اليمين.
وتعتبر أن اختيار كاستيتس كان مرهونا بقبول حزب “فرنسا الأبية” الذي لا يزال يسيطر على أحزاب الجبهة الشعبية الجديدة بشكل ملحوظ.
وتقول الأستاذة الأكاديمية -للجزيرة نت- إنه كان من الممكن أن تختار الجبهة شخصيات أخرى لتمثيلها، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق برنارد كازينوف الذي يستطيع إنشاء تحالفات جيدة، أو السياسي كريم بوعمران الذي يتميز بتوليفة استثنائية كونه رجل أعمال وعضوا في الحزب الاشتراكي.
ورغم أن نجاح كاستيتس في اختراق مساحة سياسية -مشبعة إلى حد ما- يمثل تحديا، خاصة وأنها شخصية لم تكن معروفة للشعب الفرنسي، إلا أن تكوينها في مؤسسة النخبة “المدرسة الوطنية للإدارة” جلب انتقادات كثيرة وقد يمثل مشكلة بالنسبة لناشط يساري.
أما في حال أصبحت رئيسة للوزراء، فسيكون عليها إقناع نواب جميع الأحزاب للتصويت أو الامتناع عن التصويت على المقترحات التشريعية في وقت يجد فيه اليسار نفسه أقلية داخل البرلمان.
موقف ماكرون
وبينما تتواصل ضغوطات الجبهة الشعبية الجديدة لترسيخ نفسها كأمر واقع وبديهي لماكرون واختراق حاجز التجاهل للوصول إلى قصر “ماتينيون” حيث مقر الحكومة، لا يزال رئيس الدولة يبحث عن خطط بديلة لعرقلة وصول مرشح هذا الائتلاف لمنصب رئيس الوزراء الشاغر.
وبهذا الصدد، لا تستبعد الباحثة استمرار ماكرون في المراوغة حتى انتهاء الألعاب الأولمبية في الثامن من سبتمبر/أيلول المقبل رغم كل الضغوط التي يمارسها اليسار لتشكيل الحكومة والفوضى السياسية التي تعيشها البلاد. وتضيف أن جميع الأحزاب لا تتفق على أي شيء فعليا، مثل الطاقة النووية والضرائب وأوروبا وملف المهاجرين وحرب أوكرانيا أو في قطاع غزة.
وتابعت “أوافق ماكرون الرأي هذه المرة في مسألة أن الفرنسيين صوتوا لتحالف اليسار لتجنب صعود أقصى اليمين ليس إلا. واليوم، لا يتحدث عن مرشحة هذا التحالف، بل ويتجاهلها، لأنه معروف بهذا النمط السياسي ولكن أيضا لأن لوسي ليست شخصية سياسية يُحسب لها ألف حساب”.
أما سنتومير، فيرى أن ماكرون “يتلاعب” -كما فعل منذ سنوات- بلعبته السياسية لأنه يعتبر أن قبول هذه المرشحة سيكون بمثابة مباركة لرؤية الجبهة، في الوقت الذي لا يزال فيه يرغب بتسمية رئيس وزراء يميني معتدل حتى يكون قادرا على الصمود لمدة عام إلى حين الدعوة لانتخابات جديدة.
وألقى المحلل السياسي اللوم على أحزاب الجبهة في ما آلت إليه الأوضاع لأنها أخذت الكثير من الوقت للتوصل إلى اتفاق حول اسم واحد لمرشحها. ويرى أن فرص تشكيل حكومة من هذا التحالف تقلصت أكثر وتسببت في خيبة الأمل بين المتعاطفين الذين صوتوا لصالحهم بالانتخابات التشريعية المبكرة.
سلاح ذو حدين
وقد أعلنت كاستيتس أنها مثلية الجنس ومتزوجة من امرأة وأم لطفل يبلغ من العمر عامين ونصف العام، في مقابلة مع مجلة “باريس ماتش” الثلاثاء الماضي. وفي حال تم تعيينها رئيسة الحكومة المقبلة، ستصبح ثاني شخص مثلي الجنس -بشكل علني- يتولى هذا المنصب بعد أتال.
وبشأن تصريحاتها التي لاقت آراء متباينة بين الفرنسيين، وصف سنتومير ذلك بـ”سلاح ذي حدين” موضحا أن المجتمع الفرنسي قد يرى جرأتها كمشكلة لكنها قد تتحول إلى ميزة أيضا، إضافة إلى أن أتال وعمدة باريس السابق برتراند دلانوي كانا مثليين بشكل علني، فضلا عن الأخبار المتداولة حول “ميول ماكرون الجنسية”.
أما الأستاذة مارتن فقد انتقدت كاستيتس بشدة، مشيرة إلى أن الفرنسيين “لا يهتمون لحياتها الشخصية بقدر كفاءتها، ورغم أن سيرتها الذاتية جيدة من حيث الشهادات العالية لكن مشوارها المهني يعتبر عاديا جدا”. ولكنها تقول “منذ ما شاهدناه في حفل افتتاح الأولمبياد من مشاهد جنسية فاضحة، يبدو أن مناقشة هذا الموضوع إعلاميا أصبحت أمرا مقبولا للأسف”.
وبحسب مارتن، فإن كاستيتس لا تتحدث عن مهاراتها ولا تستعرض قدراتها السياسية، ولا تخبرهم -مثلا- عن رؤيتها للحرب في أوكرانيا، ولا تشرح لهم خفايا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كما أنها لا تفهم شيئا وليس لديها أي اتصال دولي مع المرشحة الأميركية الديمقراطية كامالا هاريس ومنافسها الجمهوري ودونالد ترامب، ولا تتحدث حتى عن المسائل الداخلية مثل الديون أو كيفية تحسين ميزانية فرنسا المدمرة.
ويرى سنتومير أن الوضع السياسي الحالي لا يمكن أن يظل على ما هو عليه لفترة طويلة حتى مع عدم وجود حالة طوارئ مطلقة في البلاد ووسط دورة الألعاب الأولمبية وعطلة الصيف، مرجحا احتمال تشكيل حكومة جديدة في غضون أيام أو أسابيع قليلة، أو أن يلعب رئيس الدولة في الوقت الإضافي ويؤجل الأمر حتى منتصف سبتمبر/أيلول المقبل.