كما تتفشى الفيروسات في أفريقيا سريعا، تتفشى الانقلابات العسكرية فيها بسرعة أيضا.

ففي منتصف سبتمبر/أيلول 2021، أطاح مامادي دومبويا ورفاقه بالرئيس الغيني ألفا كوندي، وقبله بـ5 أشهر أُعلن في تشاد عن مقتل رئيس البلاد إدريس ديبي إتنو في ظروف غامضة، وفي مطلع 2022، أطاح العقيد بول هنري سانداوغو داميبا ورفاقه برئيس بوركينا فاسو، وبعد 8 أشهر أطاح النقيب إبراهيم تراوري بالرئيس العقيد، ثم وصلت العدوى إلى النيجر التي انقلب فيه الجيش على الرئيس محمد بازوم، ثم أطاح الجيش في الغابون بالرئيس علي بونغو أونديمبا بعد إعلان فوزه بولاية ثالثة.

مركز الجزيرة للدراسات نشر ورقة تحليلية للصحفي المختص بالشؤون الأفريقية محفوظ ولد السالك، حملت عنوان “المراحل الانتقالية بأفريقيا: السيادة مسار آمن نحو تجذير حكم العسكر“، حاول فيها رصد ما تتسم به آفاق المسارات الانتقالية الحالية في أفريقيا، من خلال تعامل الجيش مع السلطة وتغيير الدساتير وتنظيم العلاقات الخارجية، خاصة مع فرنسا.

انتقال طويل الأمد

لا يبدو رؤساء المجالس العسكرية الانتقالية في أفريقيا على عجلة من أمرهم في تسليم السلطة للمدنيين، فبعضهم مدَّد لنفسه وبعضهم الآخر يتجه لذلك، ومنهم من بقي في الحكم إثر انتخابات تقول معارضته: إنها كانت على قياسه!

ففي مالي دعا المجلس العسكري الحاكم إلى حوار سياسي قاطعته الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، اقترح فيه تمديد المرحلة الانتقالية عامين إلى 5 أعوام. وفي بوركينا فاسو اتفق المشاركون -في حوار مشابه- على تمديد فترة حكم إبراهيم تراوري 5 سنوات إضافية، وتغيير صفته من رئيس انتقالي إلى رئيس للبلاد.

أما في النيجر فقد حدد الرئيس الانتقالي عمر عبد الرحمن تياني الفترة الانتقالية بـ3 سنوات، ومن غير المستبعد أن تسلك البلاد نفس المسار الذي سلكته جارتاها مالي وبوركينا فاسو. وفي غينيا كوناكري حددت الفترة الانتقالية بـ3 سنوات أيضا، لكن المجلس العسكري الانتقالي تجاوزها من دون إعلان رسمي عن تمديدها.

وفي الغابون، لم يستبعد رئيس الوزراء الانتقالي ريمون ندونغ تمديد الفترة الانتقالية المقررة بعامين، “بشكل طفيف”، إذا تطلب الأمر. أما في تشاد فقد انتهى المسار الانتقالي بعد تمديده مرتين، الأولى كانت لعامين والثانية لـ18 شهرا، بات على إثرها الجنرال محمد إدريس ديبي رئيسا للبلاد بعد انتخابات رئاسية في مايو/أيار 2024.

لا أولوية للانتخابات

يضع النظامان العسكريان الانتقاليان في مالي وبوركينا فاسو “إحلال الأمن والاستقرار” أولوية على إجراء انتخابات، ويتذرعان بالجماعات المسلحة التي تحول دون إجراء انتخابات على كامل تراب البلاد. ففي مقابلة مع التلفزيون الرسمي، أعلن الرئيس الانتقالي الشاب لبوركينا فاسو أن الاستحقاقات التي كان مقررا إجراؤها في يوليو/تموز 2024 “ليست أولوية، عكس الأمن”.

وكذلك أعلن في مالي عن تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في فبراير/شباط 2024 لأسباب فنية، لكن الوزير الأول صرّح في لقاء مع دبلوماسيين أن “الانتخابات ليست أولوية”.

أما في غينيا كوناكري، فيرى رئيس المجلس العسكري مامادي دومبويا أن مواجهة الأوضاع الاقتصادية في البلاد أولى من تنظيم الانتخابات. ومثلها تشاد التي أعلنت حالة طوارئ غذائية جعلت -إلى جانب الأمن- تنظيم الانتخابات في درجة متأخرة على سلم الأولويات.

لأجل عيون السيادة

من أجل تحصين رتبهم وكراسيهم، عمد مختلف الرؤساء الجنرالات في أفريقيا إلى اتخاذ إجراءات مختلفة، تقوم بالأساس على الرغبة في نيل ثقة الشعب باعتباره المصدر الأول لبقائهم؛ لأن معظم الانقلابيين وصلوا السلطة على أنقاض مظاهرات شعبية ضد الحكام المدنيين.

وكانت “السيادة” الخيط الناظم بين مختلف الإجراءات. ففي مالي حددت السلطة الانتقالية في 14 يناير/كانون الثاني من كل عام يوما وطنيا للسيادة. وفي النيجر، أعادت السلطات تسمية الشوارع والساحات بأسماء شخصيات وطنية بدل سابقتها الفرنسية، لترسيخ السيادة. وفي بوركينا فاسو أنشأت الحكومة الانتقالية صندوقا للسيادة الغذائية، لدعم المزارعين وصيادي الأسماك.

وفي الغابون، حث الجنرال الشاب على “العمل المشترك من أجل تحقيق السيادة المنشودة”، أما في غينيا كوناكري فقد ألزم الرئيس شركات التعدين الأجنبية ببناء مصاف للبوكسيت وتقسيم الإيرادات “على نحو عادل”. وفي تشاد، قدم الرئيس محمد ديبي نفسه بوصفه ضامنا للسيادة الأمنية عبر اتخاذ “تدابير مبتكرة وشاملة، تهدف إلى إشراك المجتمع التشادي في مكافحة انعدام الأمن”.

دساتير تمهّد للحاكم

وإلى جانب مبادراتها التشريعية خلال الفترة الانتقالية، عملت معظم المجالس العسكرية على وضع دساتير تكرس “السيادة” وتشرع بقاءها في السلطة. ففي مالي وضعت السلطة الانتقالية رابع دساتير البلاد منذ 1992، وشددت فيه على “السيادة” وخفض اللغة الفرنسية من رسمية إلى لغة للعمل فحسب، والسماح للعسكريين بالترشح للرئاسة، وحظي الدستور بتأييد 97% من الأصوات رغم تحفظات المعارضة.

وفي تشاد وضع تاسع دستور للبلاد منذ الاستقلال عن فرنسا، مهد الطريق لمحمد ديبي عبر السماح بترشح العسكريين للرئاسة “شريطة التفرغ للمنصب”، وخفض سن الترشح من 40 إلى 35 عاما. أما في بوركينا فاسو، فصوت البرلمان على تغيير شعار البلاد من “وحدة، تقدم، عدالة”، إلى شعار الرئيس الأسبق توماس سانكارا “الوطن أو الموت.. سننتصر”.

وفي حين لم يعلن عن دستور جديد في بوركينا فاسو، كما هو الحال في النيجر، فإن المجلس العسكري في غينيا كوناكري قدم مسودة دستور ينص على فصل السلطات واستحداث مجلس شيوخ والسماح بالترشح المستقل للانتخابات. وفي الغابون، نص الدستور الجديد على إنهاء حكم أسرة بونغو وإلغاء منصب رئيس الوزراء، لتعزيز سلطة الرئيس.

ضبابية

تتسم آفاق المسارات الانتقالية الحالية في أفريقيا بمستوى كبير من الضبابية، بفعل عدم احترامها للآجال المحددة للبقاء في السلطة، وقد أسهمت عدة عوامل في تحقيق ذلك، منها ضعف الوعي، واتخاذ “السيادة” ذريعة لتسويغ كثير من التوجهات، وتقويض دور الأحزاب السياسية، فضلا عن ارتماء بعض المعارضين في أحضان العسكريين.

ورغم أن القادة العسكريين الحاكمين حاليا انقسموا بين مناهض لفرنسا، ومحافظ على البقاء تحت مظلتها، ومن لم يغير أي شيء على صعيد خارطة شراكاته الخارجية؛ فإن “السيادة” تشكل خيطا ناظما بينهم جميعا، كآلية لتعزيز أركان سلطتهم.

إن مثل هذه الشعارات قد تصلح لبعض الوقت، لكن لا يمكن الرهان عليها على المدى البعيد، لأنها سرعان ما تتآكل في ظل استمرار الأزمات البنيوية التي تعاني منها هذه البلدان، ويعجز العسكريون حاليا عن حلّها كما عجز المدنيون من قبلهم.

[يمكنكم الاطلاع على الورقة التحليلية كاملة في موقع مركز الجزيرة للدراسات]

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version