ما بين القتل والسجن والهروب من البلاد انتهى مصير حكام بنغلاديش، منذ تأسيس الدولة قبل ما يزيد عن 5 عقود. فمجيب الرحمن -أول رئيس للبلاد وقائد الانفصال عن باكستان- قتل عام 1976 مع عدد من أفراد أسرته، ومطيع الرحمن قتل في 1981، وحسين إرشاد سجن عام 1990، ولم يغادر السجن إلا في 1997، والشيخة حسينة واجد هربت إلى الهند عام 2024.
وقد تركت عمليات العنف والقتل التي صاحبت عملية انفصال بنغلاديش عن باكستان، آثارها على كافة مكونات المجتمع، وبخاصة على الساحة السياسية، التي تعاني من ظاهرة الثأر السياسي حتى اليوم.
ومنذ انفصال بنغلاديش عن باكستان عام 1971، شهدت البلاد عدة انقلابات عسكرية بعد مقتل مؤسس الدولة الشيخ مجيب الرحمن، ولم تعرف تداول السلطة عبر الانتخابات البرلمانية إلا منذ عام 1991.
وبعد الإطاحة بنظام الجنرال حسين إرشاد في عام 1990، عاشت البلاد مرحلة انتقالية لمدة عام، وأجريت انتخابات برلمانية أتت بخالدة ضياء رئيسة للوزراء في عام 1991.
ومنذ ذلك التاريخ والبلاد تشهد حالة من تبادل المواقع على منصب رئاسة الوزراء، بين السيدتين، خالدة ضياء التي ترأس الحزب الوطني البنغلاديشي، والشيخة حسينة التي تتولى رئاسة حزب رابطة عوامي.
واللافت للنظر أن كلتا السيدتين، بعد وصولها للسلطة، اجتهدت في الحرص على البقاء في المنصب، ولو كان ذلك عبر العبث بالانتخابات. ففي عام 1996 حرصت ضياء على إجراء انتخابات وصفت بأنها غير نزيهة، وقاطعتها أحزاب المعارضة، مما عجل بإجراء انتخابات مبكرة، ومجيء الشيخة حسينة لأول مرة رئيسة للوزراء في نفس العام.
وتولت ضياء رئاسة الوزراء مرتين، في الفترة من 1991 إلى 1996، وبين 2000 و2005. في حين تولت الشيخة حسينة رئاسة الوزراء للمرة الأولى في الفترة بين 1996 و2000، ثم من 2009 إلى 2024.
وعاشت البلاد دوما مواجهات دامية في إطار العمل السياسي، ويساعد على ذلك وجود التنظيمات الشبابية داخل الأحزاب، والتي تتخذ من الجامعات منطلقا لها، وهي عادة ما تكون مسلحة بالعصي والأسلحة البيضاء، وفي بعض الأحيان الأسلحة النارية البسيطة، وغالبا ما يسقط قتلى في المواجهات بين التكوينات الشبابية للأحزاب.
فحزب رابطة عوامي (رابطة الشعب)، والذي يصنف على أنه حزب يساري، لديه تنظيم شبابي يسمى “الساترو ليك”، ولدى الحزب الوطني البنغلاديشي تنظيم شبابي يسمى “الساترو دول” ولدى حزب الجماعة الإسلامية تنظيم شبابي يسمى “الساترو شابير”.
ولا يقتصر العنف السياسي على الممارسات البينية للأحزاب وتنظيماتها الشبابية، ولكن غالبا ما تمارس قوات الشرطة العنف تجاه المتظاهرين، الذين كثيرا ما يخرجون لأسباب اقتصادية واجتماعية، كما حدث في المواجهات التي شهدتها بنغلاديش على مدار الأشهر القليلة الماضية.
الإرث السياسي
يرتبط الرمزان السياسيان الكبيران، الشيخ حسينة وخالدة ضياء، بإرث سياسي واضح، فالأولى هي ابنة مؤسس الدولة وقائد الانفصال عن باكستان عام 1971، الشيخ مجيب الرحمن. وكعادة الشرق، الحزب الذي كان ينتمي إليه الشيخ مجيب، وجد في ابنته القيادة التي يلتف حولها.
ومنذ عام 1991 وعودة الشيخة حسينة لممارسة الحياة السياسية والبرلمانية، وهي تتبوّأ رئاسة الحزب، وبالتالي التربع على كرسي السلطة في حالة فوز الحزب بالانتخابات البرلمانية.
وعلى ما يبدو فإن أن الجذور التاريخية ما زالت ممتدة ولها تأثيرها، فحسينة واجد، البالغة من العمر 77 عاما، حينما أحسّت بالخطر بعد الاضطرابات التي شهدتها البلاد خلال الأشهر الأخيرة، وكذلك تدخل الجيش لمحاولة إعادة الهدوء للبلاد، قررت أن ترحل إلى الهند، وهي الدولة التي ساندتها منذ أول يوم لوصولها للسلطة، وكانت من قبل سندًا لأبيها في سعيه للانفصال عن باكستان.
ولم تكن خالدة ضياء -البالغة من العمر 79 عاما- لتختلف عن غريمتها الشيخة حسينة، فهي زوجة رئيس الدولة مطيع الرحمن الذي قتل في عام 1981، لتتولى ضياء رئاسة الحزب الوطني البنغلاديشي بعد وفاة زوجها، وكانت أول سيدة تتولى رئاسة الوزراء بالبلاد، وثاني سيدة على مستوى العالم الإسلامي تتولى منصب رئاسة الوزراء بعد بينظير بوتو في باكستان.
وقد أتيحت الفرصة لضياء بتولي رئاسة الوزراء بعد فوز حزبها بالانتخابات البرلمانية عام 1991، والتحالف مع حزب الجماعة الإسلامية، الذي منحها الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة، وكان الثمن أن حصل حزب الجماعة الإسلامية على 8 حقائب وزارية.
وبعد الإطاحة بالشيخة حسينة، هل ستسمح عائلتا الرمزين الكبيرين، بصعود وجوه سياسية حزبية جديدة بعيدا عن العائلتين؟ قد يكون الأمر صعبا، وبخاصة أن كلتا الأسرتين، حرصت على مشاركة الأبناء في إدارة البلاد إبان وجودها في السلطة.
الثأر السياسي
حينما أتت ضياء إلى السلطة في عام 1991، حرصت على محاكمة الرئيس المقال حسين إرشاد، وظل بالمعتقل طوال فترة بقاء ضياء في السلطة، وذلك بسبب قضايا فساد، وشبهة مشاركته في مقتل مطيع الرحمن زوج ضياء. وخرج إرشاد من سجنه عام 1997 بعد تحالف حزبه “جاتيا” مع حزب رابطة عوامي برئاسة الشيخة حسينة.
بينما الشيخة حسينة، كانت الأكثر انغماسا في ملف الثأر السياسي، حيث عمدت إلى تصفية حساباتها مع من تراهم شاركوا في مقتل والدها عام 1976، أو حتى من كانوا معارضين لانفصال بنغلاديش عن باكستان.
فأطلقت العنان لإجراء محاكمات للعديد من رموز وقادة الجماعة الإسلامية وأعدمت عددا منهم، بعد المحاكمات التي وصفت بأنها سياسية ولا تعبر عن أداء قضائي نزيه، وكان أبرز من أعدموا من قادة الجماعة الإسلامية مطيع الرحمن نظامي، الذي كان برلمانيا سابقا وشغل منصب أمير الجماعة.
ماذا بعد إزاحة حسينة؟
بعد مضي أكثر من 5 عقود على تأسيس الدولة، ومضي أكثر من 3 عقود على حياة برلمانية اتسمت بالمنافسة الحزبية وإن شابتها العديد من الممارسات السلبية، هل ستطوى صفحة الإرث السياسي للأحزاب الرئيسة في بنغلاديش؟
ظاهرة الإرث السياسي ممتدة في الشرق بشكل عام، وفي شبه القارة الهندية بشكل خاص، فالزعيم والارتباط بشخصه لا يزال مكونا رئيسيا في الثقافة السياسية والشعبية، يؤثر في الانتخابات وفي النظر إلى العديد من القضايا العامة.
ولكن بعد مضي هذه العقود جرى في النهر ماء كثير، وتغيرت ملامح المعادلة الاجتماعية في بنغلاديش، كما أن خريطة التحالفات الإقليمية تشهد معادلات جديدة، وعلى وجه الخصوص العلاقة مع كل من الهند والصين وباكستان.
فقد بات من المرجح بعد الأداء السلبي لحزب رابطة عوامي على مدار نحو 15 عاما في ظل رئاسة الشيخة حسينة، أن تكون حظوظه قليلة في الانتخابات القادمة، المنتظر إجراؤها بعد مرحلة انتقالية سوف يحددها قادة الجيش.
ويبدو أن السؤال الأصعب هو هل سيكون البديل مجيء خالدة ضياء؟ علما أنها كانت رهن الاعتقال مع قيادات أخرى من المعارضة، منذ بدء حركة الطلاب ضد حكومة الشيخة حسينة، وقد أفرج عنهم مؤخرا.
فحركة الشباب التي أطاحت بالشيخة حسينة وحكومتها، ولدت من رحم مطالب اجتماعية واقتصادية، وقد يكون من المناسب أن تسفر الانتخابات القادمة عن قيادات تعبر عن الشباب، وتغير من طبيعة التركيبة السياسية بالبلاد، التي قامت على الإرث السياسي الذي فشل بنسبة كبيرة في إخراج البلاد من الفقر، وكرس صراعًا لم يَجن ثماره إلا قادة الجيش والرموز السياسية الكبيرة وعائلاتهم، وكذلك طبقة رجال الأعمال.
على صعيد الثأر السياسي، من الصعب أن تمر الممارسات السلبية خلال سنوات حكم الشيخة حسينة دون حساب، سواء على مستوى التقاضي أو على المستوى المجتمعي، فقد تشهد البلاد حالات من التصفية الجسدية والانتقام، وبخاصة تجاه بعض القضاة الذين اتهموا بتسييس أحكامهم أو قادة حزب رابطة عوامي.
وبطبيعة الحال، سوف تشهد ساحة القضاء خلال الفترة القادمة، فتح العديد من القضايا ضد الرموز السياسية لحزب رابطة عوامي، بمن فيهم الشيخة حسينة، بتهم الفساد المالي والسياسي، وكذلك ما يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان.
خريطة سياسية تقليدية
تتمتع بنغلاديش بوجود انتخابات حرة، شأن العديد من التجارب في الدول النامية، ولكنها غير نزيهة، بسبب الفقر وسيطرة المال على شراء الأصوات عبر المساعدات، وبخاصة في القرى، أو مع سكان الشوارع الذين يبلغ عددهم الملايين.
تشارك الأحزاب السياسية في الانتخابات، وتشكل الحكومات، ولكن تبقى قبضة الجيش على مقدرات البلاد، ولذلك يفضل الجيش بقاء الأحزاب التقليدية التي يسهل التعامل معها، للحفاظ على مصالح الجيش الاقتصادية والاجتماعية.
ولكن مناخ الحرية المتاح، وفي ظل مساهمة الطلاب في إزاحة الشيخة حسينة واجد عن السلطة، قد يسمح بتكوين قوى سياسية وأحزاب جديدة، بعيدا عن الأحزاب التقليدية، وتحالفاتها القائمة مع قادة الجيش أو رجال الأعمال الكبار، على أن فرص هذا السيناريو تبقى ضئيلة.