أزاح علماء جامعة غلاسكو بأسكتلندا الستار عن سر مدفون منذ آلاف السنين، وهو أقدم محاولات البشرية لإقامة حكم مركزي في موقع “شاخي كورا” الأثري بكردستان العراق، وذلك باستخدام تقنيات علمية حديثة.

وخلال الدراسة المنشورة في دورية “أنتكويتي”، أعلن الباحثون بمشروع “سيروان الإقليمي للمناظر الطبيعية الأثرية” في منطقة كردستان العراق، عن توظيف 3 أدوات علمية دقيقة، هي التحليل الكيميائي للبقايا العضوية، والتنقيب الدقيق عبر طبقات الزمن، والكربون المشع، إذ أسفرت هذه الأدوات عن اكتشاف أن الأوعية الفخارية المكتشفة في الموقع لعبت دورا محوريا في نظام اقتصادي مركزي، حيث كانت تقدم فيها وجبات الطعام كأجر للعمال، مما يشير إلى أن حضارات بلاد ما بين النهرين القديمة كانت تنظم حياتها الاقتصادية والاجتماعية، وفقا لنظام سلطوي مركزي.

وتعد هذه الأوعية، التي امتلأت يوما بوجبات لذيذة، شاهدة على لحظة فارقة في التاريخ البشري، فقد سعى البشر آنذاك إلى تنظيم مجتمعاتهم عبر نظام مركزي، إلا أن المفاجأة تكمن في أن هذا النظام لم يدم طويلا، إذ تشير الأدلة إلى أن سكان الموقع تخلوا عن هذا الشكل من الحكم في نهاية المطاف، ربما رفضا للسلطة المركزية، لتبقى هذه الأوعية رمزا لصعود وزوال واحدة من أقدم التجارب الإنسانية في الحكم.

ما “التحليل الكيميائي للبقايا العضوية”؟

ويعرف التحليل الكيميائي للبقايا العضوية، وهو أبرز الأدوات العلمية المستخدمة، بأنه عملية تستخدم لفحص ودراسة المواد العضوية المتبقية في القطع الأثرية مثل الأوعية أو الأدوات القديمة، بهدف فهم طبيعة المواد المخزنة أو المستخدمة فيها، ويعتمد هذا التحليل على تقنيات علمية متقدمة لاستخلاص وتحديد المركبات الكيميائية العضوية مثل الدهون، والبروتينات، والكربوهيدرات التي قد تبقى في الأوعية أو الأدوات الأثرية.

وتعتمد هذه العملية على عدة أساليب مثل:

  • تحليل الدهون: يهدف إلى تحديد نوع الدهون المتبقية سواء كانت حيوانية أو نباتية، مما يساعد في معرفة إذا ما كانت الأوعية قد استخدمت لتخزين أو تقديم اللحوم، أو الحليب، أو غيرها من المنتجات.
  • تحليل النظائر المستقرة: يكشف عن النظام الغذائي للكائنات الحية من خلال دراسة نسب النظائر، مثل الكربون والنيتروجين.
  • التحليل الطيفي الكتلي: يستخدم لفحص المركبات العضوية بدقة، حيث يوفر معلومات تفصيلية عن تركيب المواد الكيميائية.
  • التحليل الكروماتوغرافي: يفصل المركبات المختلفة في عينة واحدة، مما يساعد على تحديد أنواع المواد العضوية.
  • تحليل البروتينات: يركز على تحليل بقايا البروتينات لتحديد الأنواع الحيوانية أو النباتية الموجودة في الأوعية.

ومن خلال توظيف هذه الأدوات العلمية، تمكّن العلماء من تحليل بقايا الطعام داخل الأوعية، التي أظهرت أنها كانت تحتوي على وجبات غذائية غنية باللحوم، ربما على شكل حساء أو يخنة، وهذا التحليل كشف عن أن هذه الوجبات كانت توزع بشكل جماعي على العمال، مما يشير إلى وجود شكل مبكر من السلطة التي تدير توزيع الطعام مقابل العمل.

التنقيب عبر طبقات الزمن

ولتحديد تاريخ هذا الشكل المبكر من السلطة، تم استخدام تقنيتي التنقيب الدقيق عبر طبقات الزمن والكربون المشع، وتعتمد التقنية الأولى على دراسة الطبقات الأثرية المختلفة التي تراكمت عبر الزمن، والتي تحمل آثارا للأنشطة البشرية أو البيئية.

ويقول جمال العشيبي، باحث ما بعد الدكتوراه في الجيوأركيوجي بجامعة إكس- مرسيليا، للجزيرة نت “تعتمد هذه التقنية على مبدأ أن الطبقات الأثرية الأعمق هي الأقدم، بينما تكون الطبقات العليا أحدث، وباستخدام التنقيب الدقيق عبر هذه الطبقات، يمكن تحديد الفترات الزمنية التي تعود إليها الأشياء المكتشفة، مثل الأدوات، الأوعية، والبقايا العضوية، ومن ثم ربط هذه الاكتشافات بالأحداث التاريخية”.

وتتم عملية التنقيب عبر عدة خطوات تبدأ بتمييز الطبقات وفقا للعمق والمحتوى، حيث تُقسم الطبقات من الأحدث إلى الأقدم، بعد ذلك، يتم تنفيذ التنقيب التدريجي لإزالة الطبقات بدقة دون الخلط بين الآثار التي تنتمي إلى فترات زمنية مختلفة، ثم يتم تحليل محتويات الطبقات.

تأثير حضارة أوراك

ومن خلال الطبقات المختلفة، تم تحديد انتقالات ثقافية من تقاليد محلية بسيطة إلى تأثيرات من حضارة أوراك، والتي تُعد واحدة من أقدم وأهم الحضارات في جنوب بلاد الرافدين، وظهرت في الألفية الرابعة قبل الميلاد.

وتقول عالمة الآثار بجامعة غلاسكو كلوديا غلاتز، والباحثة الرئيسية بالدراسة، في بيان صحفي رسمي نشره موقع الجامعة: “ظهرت تأثيرات حضارة أوراك في الطبقات العليا، حيث تم الكشف عن المباني المؤسسية التي تحتوي على الأواني الطينية أوما تعرف بـ(أواني الحافة المشطوفة)، وهي أوان رخيصة الصنع تشير إلى تقديم وجبات طعام لعدد كبير من العمال في إطار نظام مركزي”.

وتضيف أن ” تحليل بقايا الطعام كشف عن أن هذه الوجبات كانت تحتوي على اللحوم، مما يعزز الفرضية القائلة بأن الأواني كانت جزءا من نظام إداري لتقديم الطعام كأجور للعمال”.

وعثر الباحثون أيضًا على أدلة تشير إلى أن أجزاء أخرى من الموقع كانت تستخدم لأغراض طقسية ودينية، مما يعزز الفكرة بأن الموقع كان مركزا مهما لأنشطة دينية وإدارية في آن واحد.

وعند فحص الطبقات المتتالية، أظهرت الأدلة أن الموقع قد تم تركه أو هجره في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، من دون وجود دلائل على الثورات أو ضغوط بيئية، ويشير ذلك إلى أن المجتمعات المحلية لم تكن دائمًا تستجيب للنموذج الهرمي للحكم.

وتختتم غلاتز قائلة إن “المجتمعات المحلية وجدت طرقا لمقاومة ورفض السلطة المركزية، وهذا الاكتشاف يعيد النظر في فرضيات تاريخية حول حتمية ظهور الحكومات الهرمية في المجتمعات المبكرة، ويشير إلى أن المجتمعات قد اختارت رفض الهيكل الحكومي المركزي”.

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version