يعرف علم الجينوم (Genomics) بأنه الدراسة الشاملة لتسلسل الحمض النووي (المادة الوراثية) للكائنات الحية، وقد أدى تطور هذا العلم إلى ثورة في فهمنا للأنظمة البيولوجية، حيث توفر المعلومات الجينومية المخزنة في الحمض النووي للكائنات الحية فكرةً عن الآليات الأساسية التي تكمن وراء العمليات البيولوجية الأساسية، بما في ذلك آليات النمو والأمراض وغيرها.

بالإضافة إلى ذلك، قد تكون دراسة الجينوم مفيدة في فهم كيفية تأثير العوامل البيئية على التركيب الوراثي والتفاعل بين الجينات والبيئة، ويمكن استخدام هذه المعرفة في تحسين الزراعة وتربية الحيوانات وتطوير أدوية جديدة لعلاج الأمراض.

ويواجه مجال سَلسَلة الجينوم (ترتيبه ترتيبا متتابعا) وتحليله تحديات عديدة منها مشاكل الخلل الوراثي، والأخطاء التي تحدث عند تجهيز ومعالجة العينات، وأخطاء السَلسَلة نفسها التي تنشأ خلال معالجة الأجهزة المعملية لعينات المواد الوراثية.

كما يمثل تحليل البيانات الضخمة الناتجة من أجهزة التحليل الوراثي تحديا مستقلا يمثل أحد المحاور الرئيسية لعلم المعلوماتية الحيوية. وفي حالة البشر، تضاف أيضا مشكلة الخصوصية، حيث يمكن أن يكشف التركيب الوراثي للشخص الكثير عن صحته وأصله وتاريخه المرضي وغير ذلك من المعلومات الحساسة التي يجب التعامل معها بما يحفظ السرية والخصوصية.

مشاريع ضخمة لتحليل الجينوم

ومنذ ظهور تقنية سَلسَلة الجينوم (genome sequencing technology) في صورتها الأولى في سبعينيات القرن الماضي، تراكمت التطورات الداخلة على هذه التقنية حتى الوصول للجيل الثاني منها في أواخر التسعينيات من القرن الـ20، والذي مثل طفرة في السرعة وانخفاض التكلفة.

لذا ظهرت أجهزة معقولة السعر عالية الكفاءة والسرعة ساهمت في تحوّل هذه التقنية إلى موجة عالمية لدراسة الكائنات الحية على مستوى غير مسبوق من الدقة.

وتشير إحصائيات قاعدة بيانات جينوم أونلاين (Genome OnLine Database – GOLD) إلى وجود أكثر من 520 ألف مشروع جينوم تسعى لدراسة ما يربو على نصف مليون كائن حي.

كما تم استخدام هذه التقنية في دراسات موسعة للجينوم من خلال العديد من المشاريع الضخمة مثل مشروع الجينوم البشري الذي استمر لما يقرب من 13 عاما وكلّف نحو ملياري دولار.

ومشروع الألف جينوم الذي يهدف إلى إنشاء خريطة مفصلة للتباين الجيني البشري من خلال الحصول على التسلسل الجيني لأجيال من آلاف الأشخاص من جميع أنحاء العالم.

ومثله مشروع الألف جينوم آسيوي، الذي يهدف إلى تقديم دراسة عميقة للجينوم البشري لسكان قارة آسيا التي يقطنها أكثر من نصف سكان العالم.

مشاريع تتعدى دراسة البشر

لم تتوقف مشاريع الجينوم على دراسة البشر، بل إن الواقع يشير إلى أن أغلب المشاريع التي تدرس كائنا حيا واحدا أو مجموعة صغيرة من الكائنات الحية تركز بشكل أساسي على الكائنات الدقيقة كالبكتيريا والفيروسات المسببة للأمراض، والتي أصبح على رأسها فيروس كورونا المسبب لجائحة كوفيد-19 بعد أن تم تحليل جينومه لأكثر من 15 مليون مرة من خلال عزلات مختلفة من كل أنحاء العالم.

كما تمت دراسة مجموعات كبيرة من الكائنات الحية في مشاريع جينوم ضخمة مثل مشروع جينوم الفقاريات ومشروع العشرة آلاف جينوم، استهدفت دراسة جينومات أكثر من 10 آلاف نوع من الفقاريات لتقدّم فهما دقيقا على المستوى البنيوي للاختلافات والعلاقات بين هذه الأنواع، وتلقي ضوءا على آليات تكيفها مع بيئاتها ووظائفها.

وامتدت مشاريع الجينوم الضخمة لدراسة جينومات البشر المصابين بالأمراض. ففي عام 2020 نُشرت نتائج أكبر مشروع لدراسة جينومات خلايا مرض السرطان، وهو المشروع الدولي لجينوم السرطان والذي شمل جهودا تعاونية شارك فيها باحثون من جميع أنحاء العالم بهدف تحديد التحولات الجينية الكامنة وراء 38 نوعا مختلفا من السرطان، ومشروع دراسة جينوم الأمراض الوراثية المندلية ومشروع جينوم التوحد، الذي يهدف إلى فهم الأبعاد الوراثية لمرض التوحد عن طريق تحليل جينومات 6 آلاف حالة محتملة من 1600 أسرة.

مشروع جينوم جديد لدراسة الثدييات

ومؤخرا نشرت مجلة “ساينس” (Science) تغطية خاصة ومجموعة من الأبحاث التي كانت مخرجات لأحد مشاريع الجينوم العملاقة الجديدة. والمشروع الجديد هو مشروع “زونوميا 240” (Zoonomia 240) الذي استهدف سَلسَلة وتحليل جينومات 240 كائنا من الثدييات.

والثدييات هي واحدة من أكثر مجموعات المملكة الحيوانية تنوعا، تتراوح في أحجامها وأشكالها وطرق معيشتها وبيئاتها من الحيوانات الضخمة كالأفيال والحيتان، إلى الصغيرة جدا كالقطط والفئران، ومن التي تعيش في بيئات استوائية رطبة، أو صحراوية حارة، إلى التي تعيش في بيئات شديدة البرودة أو متجمدة.

ويعد فهم متى وكيف وتحت أي ضغوط حدث هذا التباين في القدرة على التأقلم والتكيف لغزا يستحق عناء البحث. وتفتح سَلسَلة الجينات الخاصة بالأنواع المختلفة من الثدييات آفاقا جديدة للبحث في صحة الإنسان والحيوانات ذات النفع الاقتصادي، كما تثري فروع علم الأحياء المختلفة.

ويمكن للعلماء، بمساعدة معلومات الجينوم، الكشف عن الأسس الجينية للأمراض الموروثة، وتحديد الجينات المستهدفة بالأدوية، والحصول على فهم أعمق للتفاعلات المعقدة بين الجينات والبيئة، وعلاقة ذلك بالصحة.

ويشتمل مشروع “زونوميا 240” على 240 حيوانا من الثدييات التي تمت سلسلتها لتمثل طيفا متنوعا من الثدييات، بما في ذلك كلب الزلاجات الشهير بالتو، الذي قادنا لنقل مصل لإنقاذ حياة مصاب في ألاسكا عام 1925، وقدمت قصته في فيلم رسوم متحركة شهير عام 1995.

وقد تم استخدام جينومه من عينة محفوظة، ومقارنته بالجينومات الأخرى، للكشف عن أصله الوراثي وتكيفاته، بالإضافة إلى توقعات لبعض من صفاته الشكلية بما في ذلك لون فرائه.

ليس المشروع الأول للثدييات

يعد مشروع زونوميا 240 الأكبر من نوعه لدراسة جينوم هذه الطائفة من الكائنات، لكنها ليست المرة الأولى التي تتم فيها دراسة جينوم الثدييات.

ففي السنوات السابقة تمت سَلسَلة وتحليل جينوم العديد من الثدييات ذات الأهمية الخاصة. وتمت دراسة جينومات العديد من حيوانات إنتاج اللحوم والألبان مثل الأبقار والأغنام والجاموس.

كما درست جينومات العديد من الحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب، وحيوانات المزرعة والرفاهية كالخيل والجمال.

لكن مشروع زونوميا 240 يختلف بكونه دراسة منظمة موحدة لعدد كبير ومتنوع من الثدييات تشمل العديد من الحيوانات غير الاقتصادية، التي لم يسبق دراسة جينومها من قبل، مما يمثل خطوة هامة نحو فهم الوظائف البيولوجية لطائفة الثدييات بشكل أفضل.

وبما أن الجينوم البشري يتشارك بشكل كبير مع جينومات للثدييات الأخرى، فإن دراسة جينومات للثدييات يمكن أن تساعد في تحديد المسببات الوراثية للأمراض البشرية، وتطوير أدوات تشخيص الأمراض وعلاجاتها، وبناء علاقات واضحة بين الجينات والصفات الشكلية.

وسوف تمهد الأساليب المستخدمة لإنتاج وتحليل هذا العدد الكبير من الجينومات الطريقَ لتحليلات ضخمة مماثلة للمجموعات الأخرى من الحيوانات، ولذا فإن مشروع زونوميا 240 يمثل مرحلة جديدة تفتح طرقا مختلفة لفهم الثدييات وتطورها، وأيضا فهمنا لأنفسنا.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version