إذا سألت الناس عن الحاسة التي لا يمكنهم العيش بدونها، فسيجيب معظمهم بأنها البصر، لكن الأدلة تشير إلى أن ما لهُ تأثير أكبر علينا هو حاسة الشم. بل إن فقدناها قد يقود إلى مصائب، كما يقول مايك شيلر الأستاذ المساعد في قسم علم النفس جامعة دورهام بإنجلترا “هناك معدل عال جداً في التفكير بالانتحار بين الذين يعانون من فقدان الشم، لأنه إحساس يرتبط بقوة بمشاعرنا”.

وإذا ما علمنا أنّ الشم قد يكون أولى الحواس التي أضعفتها التكنولوجيا ومنصات التواصل، فما بالك بنتائج ذلك، وماذا عن بقية الحواس ومراكز التفكير والإدراك؟

وقبل الإجابة عن السؤال، يجب أن نفهم في البدء كيف تعمل الحواس وما مدى ارتباط بعضها ببعض؟

الجهاز الحسي يعمل بتناغم وتكامل

يصنف العديد من علماء النفس حواسنا الرئيسية على أنها إما عقلانية أو عاطفية، فَمثلاً ترتبط حاستا الشم والذوق بشكل مباشر بمناطق المعالجة العاطفية بالدماغ، في حين تتم معالجة الحواس العقلانية مثل السمع والرؤية في القشرة الدماغية.

ويبين العلماء أنّ أكثر من نصف القشرة المخية الحديثة -وهي في حد ذاتها أكثر من نصف حجم الدماغ- مكرس لمعالجة ما نراه، وهذا ما يُفَسِّر أننا مخلوقات بصرية، وهذا أحد أسباب كون وسائل الإعلام لدينا سمعية وبصرية في المقام الأول.

لكن ذلك لا يعني إهمال حاسة دون غيرها، فالجهاز الحسي لدينا مصمم للعمل بصورة متكاملة كي يبني الدماغ انطباعا وتصورا كاملا، مثلاً عندما نفكر في تناول الطعام فالحواس التي تخطر على بالنا في تأدية المهمة هي التذوق، لكن شكل طعامنا ولونه ورائحته ودرجة حرارته وملمسه ووزنه يجذب رؤيتنا ويُفَعِّل حواس الشم والسمع واللمس.

إن إزالة واحدة فقط من تلك الحواس يمكن أن يكون لها تأثير على التجربة بأكملها. على سبيل المثال، عندما يأكل الناس الآيس كريم في الظلام، فمن غير المرجح أن يستمتعوا به، أو حتى يكونوا متأكدين من مذاقه.

ويساوي تأثير التكنولوجيا على حواسنا معدل ما يقضيه الفرد أمام الشاشات اليوم بمختلف أنواعها ما يقارب 7 ساعات، وقضاء الكثير من هذا الوقت زاد اعتمادنا المفرط على البصر والصوت، وقللّ استخدام باقي الحواس، وهذا له انعكاساته.

ولا يستطيع الناس ببساطة التعبير عن هويتهم بسهولة باستخدام المنتجات الرقمية. فمثلاً رؤية جميع أعمال شكسبير على جهاز لوحي لا تعطي نفس الشعور عند رؤيتها في الواقع، كذلك لا يمكن لِرسّام أن يُقيّم أي عمل فني عن بعد.

وعوداً إلى حاسة الشم، يقول شيلر “إن الرائحة إشارة مهمة حقاً للتواصل الاجتماعي، وهذا شيء لا يتم تطبيقه في أي تقنية نستخدمها اليوم”.

أمّا تشارلز سبنس أستاذ علم النفس التجريبي جامعة أكسفورد، فيقول “تبين أننا نميل إلى شم راحة يدنا دون وعي بعد مصافحة شخص ما. وهذا يعطينا تلميحات عن الأشخاص، بدءًا من صحتهم، إلى أعمارهم، وحتى شخصيتهم، وسنفقد قدراً لا بأس به من ذلك إذا كنا نتفاعل رقمياً فقط”.

وبالانتقال لِحاسة اللمس، حيث هي ضرورية لِحياتنا العاطفية، وبطرق لا يمكن أن تغني عنها لمس شاشات الأجهزة الذكية، فقد ثبت أن نوعا من المستقبلات العصبية المتوفرة بكثرة على الجلد يخلف مشاعر إيجابية عند تحفيزها.

أمّا الضرر الأكبر لتأثير التكنولوجيا، ذلك المتعلق بالذاكرة، فإنه يتطلب معرفة كيف يتم الأمر داخل الدماغ.

وفي حياتنا اليومية، نقوم عادةً بالتركيز على ما يهمنا، وهذا يتم في جزء من الدماغ يسمى القشرة الجبهية.

وتساعدنا تلك القشرة على تركيز الاهتمام على ما نحتاج إلى تعلمه ومعالجته بشكل هادف، والبحث عن الذكريات الموجودة في مكان ما، والحفاظ على دقة ذكرياتنا إذا أردنا تذكر الشيء الصحيح.

يُذكر أن الدماغ البشري مصمم للتعامل مع بيانات كبيرة مركزة بموارد أقل، فعندما نركز على “التوثيق” أكثر من “التجربة” فإننا لا ننتبه إلى ما هو مميز بهذه اللحظة، أي المشاهد والأصوات والروائح والمشاعر التي تجعل التجربة فريدة من نوعها.

وننشغل بدلا من ذلك في تسجيل كل لحظة وتوثيقها بالصور أو الفيديو، وهنا نحن لا نركز على أي جانب من جوانب التجربة بتفاصيل كافية لتكوين ذكريات مميزة سنحتفظ بها.

وفي عالم تتم فيه مقاطعة محادثاتنا وَأنشطتنا وَاجتماعاتنا بشكل روتيني عن طريق الرسائل النصية ورسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية، تضعف هذه المشتتات قدرات أدمغتنا، وغالباً ما نضاعف المشكلة عن طريق تقسيم انتباهنا بين أهداف متعددة. فَتعدد المهام يمكن أن يجعلنا نشعر بأننا أكثر كفاءة. ويفخر الكثير منا بالقدرة على التحول من مهمة إلى أخرى، ولكن ذلك يأتي بتكلفة.

وكل مرة يتم تشتيت انتباهنا بشكل روتيني أو التبديل عمداً بين تدفقات الوسائط المختلفة (مثل قراءة رسالة نصية مع الحفاظ على المحادثة) يتم امتصاص موارد الفص الجبهي لاستعادة تركيزنا. والنتيجة ألا يتبقى لنا سوى ذكريات ضبابية ومجزأة.

إن التأثير الآخر هو كيفية تأثير قدرة الأشخاص على تذكر المعلومات مع ظهور منصات مثل “شات جي بي تي” حيث ظهر تهديد لذاكرة الأشخاص وقدرتهم على التفكير النقدي لأنفسهم.

وتبدأ هذه العوامل في التأثير على كيمياء دماغ المستخدم، مما يجعل من الضروري أن تكون على دراية بكيفية استخدامك للمنصات المعلوماتية، للحفاظ على صحة دماغك ومستوى المهارات المعرفية.

وقد يؤدي الاعتماد على التكنولوجيا إلى فقدان نقاط الاشتباك العصبي للذكريات القديمة بسبب عدم استخدامها.

ومع ذلك، هناك فرق بين استرجاع المعلومات بشكل مستقل والاعتماد على الإنترنت لتزويدك بالمعلومات. وهذا يجعل من المهم أن تحاول في بعض الأحيان تذكر المعلومات بنفسك بدلاً من الذهاب مباشرة إلى الإنترنت.

شركات تحاكي حواسنا للتسويق والربح

بدأت كبرى شركات التكنولوجيا إضفاء تأثير الحواس على المنتجات من أجل زيادة مبيعاتها. ومثال ذلك ما أقدمت عليه “ديكستا روبوتيكس” الصينية والتي تضيف اللمس إلى الواقع الافتراضي باستخدام قفاز يطلق عليه اسم “ديكسومو”.

ويقول ألير جو الرئيس التنفيذي للشركة “يمكن لِديكسومو تقديم ردود فعل ملموسة وردود فعل قوية في نفس الوقت، وهذا يعني أنه عندما تمرر أصابعك عبر قالب افتراضي، يمكنك الشعور بملمس السطح. وعندما تمسك بالطوب وتنقله من نقطة إلى أخرى، يمكنك أن تشعر بالشكل المادي”.

ومثال آخر بدأت باتباعهِ بعض المتاجر، إذ اعتمدت على الدراسات التي تقول إن الأذواق الحامضة يمكن أن تجعلنا أكثر استعداداً للمشاركة في سلوكيات محفوفة بالمخاطر.

وقد بدأ أصحاب هذه المتاجر بنشر عطور الليمون قرب الرفوف التي يودون بيع بضاعتها كي تُحفز سلوك الشراء لدى الزبون فيقوم بِشراء المنتج.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version