في أبريل/نيسان 2017، بدأت صور عارضة أزياء في منتصف العشرينيات من عمرها تُدعى شودو غرام بالظهور على موقع إنستغرام. كانت تتمتع ببشرة بنية داكنة مضيئة وملامح متناسقة تمامًا، وفي سلسلة من الصور، كانت ترتدي حلقات العنق المرتبطة بقبيلة نديبيلي في جنوب أفريقيا.

وسرعان ما اجتذب جمالها الغريب المتابعين، حيث تمت مشاركة صورها على صفحات تحتفي بالنساء ذوات البشرة الملونة، مصحوبة بوسوم مدح مثل “الأسود جميل” (blackisbeautiful)، في إشارة إلى حركة ثقافية بدأت خلال ستينيات القرن الماضي على يد أميركيين من أصول أفريقية.

في صور نُشرت في أغسطس/آب 2017، ارتدت غرام قميصًا أصفر نابضًا بالحياة من ماركة الملابس “سول سكاي” (SOULSKY)، علامة تجارية للملابس الكاجوال والرياضية. وجاء في تعليق على إحدى الصور “لا أستطيع أن أصف مدى امتناني للعلامة التجارية سكاي سول لإرسالها لي هذا القميص الجميل”، مع الإشارة إلى مصمم الشركة الذي أعاد بعد ذلك نشر الصورة على موقع الشركة، وما زالت حتى اليوم تتصدر الصفحة الرئيسية للموقع.

 

أعرب معظم المتابعين على إنستغرام عن إعجابهم بجمال غرام، رغم وجود بعض الأصوات المعارضة. وكتب أحد المعلقين “أشعر بأنه يجب عليك أن تخبرني عندما يكون الأشخاص الذين يعرضون ملابسك ليسوا في الواقع أشخاصا”.

عرف هذا الشخص شيئًا لم يدركه العديد من آلاف متابعي شودو غرام: أنها لم تكن عارضة أزياء بشرية، بل شخصية تم إنشاؤها بواسطة الحاسوب.

منذ ذلك الحين، أخذت الصور المولدة بالحاسوب -التي تُعرف اختصارًا بـ”سي جي آي” (CGI)- في التحسن بشكل كبير، وصولا إلى الصور التي ينشئها الذكاء الاصطناعي، لدرجة أن الكثير من الناس غير قادرين على تمييزها عن الصور الحقيقية، ومع استمرار تطور هذه التكنولوجيا، أصبحت التحديات التي تواجه إدراكنا لما هو حقيقي هائلة، وتتآكل ثقتنا فيما نراه.

يغيّر هؤلاء الأشخاص الافتراضيون بالفعل صناعات مثل عرض الأزياء والتسويق، ولكن هل يمكنهم تقديم انعكاس للإنسانية أكثر تنوعًا مما كان متاحا تاريخيًّا أم أنهم مقدَّر لهم أن يعكسوا معايير الجمال الضيقة التي انجذبت إليها هذه الصناعات منذ مدة طويلة؟

الجمال في عصر الذكاء الاصطناعي

تغيرت معايير الجمال الأنثوي عبر الزمن، فإذا نظرنا إلى العصر الكلاسيكي اليوناني، تبرز عبارة “الجسد الجميل يعد بروح جميلة” لسقراط. في هذا الوقت، كان يُعتقد أن النسب المثالية هي المفتاح لامرأة جميلة.

في عصر النهضة، تمت الإشارة إلى قانون الجمال من خلال لوحة “ولادة فينوس” للفنان الإيطالي ساندرو بوتيتشيلي التي أنجزها في منتصف ثمانينيات القرن الخامس عشر، وكانت المعايير تنحصر في البشرة البيضاء، والخدود الوردية، والعيون الكبيرة الواضحة، والشفاه الحمراء.

بين عامي 1950 و1960، ظهرت الممثلة الأميركية مارلين مونرو بوصفها واحدة من أكثر رموز الجنس شعبية في الخمسينيات، وقامت النساء بتبييض شعرهن مثلها، كما حظي الجسم الشبيه بالساعة الرملية بشعبية كبيرة كأكثر الأجسام جمالًا وجاذبية، وارتدت معظم النساء المشدات و”الكورسيهات” لتحقيق هذا الشكل.

وفي أيامنا هذه، برز الذكاء الاصطناعي بوصفه تقدما تكنولوجيا قويا، مما أثار الانبهار والقلق، كما أحدث تطويره ثورة في كيفية عملنا وتواصلنا وحتى إدراكنا لأنفسنا، وأثار استخدمه مناقشات بشأن تأثيره المحتمل على تشكيل جوانب مختلفة من الحياة اليومية والمجتمع والتأثير عليها، أحد هذه المجالات هو إدامة معايير الجمال، التي غالبًا ما يتم انتقادها لأنها تروج للمعايير غير الصحية.

ويعمل الذكاء الاصطناعي عن طريق جمع كميات هائلة من البيانات من مصادر مختلفة مثل المنشورات الصحفية على الإنترنت والأوراق الأكاديمية والكتب والمدونات ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يستخدمها المطورون لتدريب برامج الذكاء الاصطناعي، وتمكينها من أداء المهام وإنشاء المحتوى.

وفي العصر الرقمي، حيث يريد الجميع إثبات أنه ليس لديهم عيوب، ساهمت وسائل التواصل في إدامة جميع أنواع معايير الجمال الوهمية على مر السنين، والآن يفعل الذكاء الاصطناعي ذلك من جديد حتى أصبح من الصعب تمييز “البشر” الذين يتم إنشاؤهم بواسطة الذكاء الاصطناعي عن البشر الحقيقيين، ونتيجة لذلك، أصبح الناس أقل تصديقًا لما تخبرهم به أعينهم.

على سبيل المثال، عندما يطلب المستخدم وصفة أو صورة، تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بتحليل البيانات المجمعة لتقديم استجابة مناسبة، ومع ذلك، فإن الاعتماد على مثل هذه البيانات يثير أيضًا مخاوف بشأن تحيزات المجتمع التي يمكن تضمينها في أنظمة الذكاء الاصطناعي.

لا معايير للجمال في عصر المؤثرين المزيفين

تتحسن الصور المولدة بالحاسوب حتى أصبحت في متناول الأشخاص الذين يرغبون في تجربة الفن الثلاثي الأبعاد بأنفسهم. بفضل التقدم التكنولوجي، أصبح المؤثرون موجودين الآن على وسائل التواصل، وهذا الاتجاه آخذ في النمو.

ويعمل هؤلاء المحبوبون الرقميون على طمس الخطوط الفاصلة بين الواقع والعالم الافتراضي، ويعيدون تعريف التسويق المؤثر، ويثيرون أسئلة رائعة حول الأصالة والاتصال في العصر الرقمي.

منذ ظهورها لأول مرة، أثارت عارضة الأزياء الرقمية شودو غرام نوعًا مختلفا من الجدل، ينبع من حقيقة مفادها أنها امرأة سوداء مبتكرها هو رجل أبيض يبلغ من العمر 28 عامًا، وهو المصور البريطاني والفنان الرقمي المقيم في لندن كاميرون جيمس ويلسون، مؤسس “ذا ديجيتالز” (The Diigitals)، أول وكالة عارضات أزياء رقمية بالكامل في العالم، ومبتكر 7 مؤثرين افتراضيين بما في ذلك “كوفي” (Koffi) و”برين” (Brenn) و”داجني” (Dagny) و”آسبن” (Aspen) و”غالكسيا” (Galaxia) وغيرهم.

كانت هذه الانتقادات الواسعة النطاق موجهة للوجه الرقمي الأسود، وتحمل شكلا من أشكال العنصرية، لكن كل هذا تغيّر بعد أن قدمت علامات تجارية، مثل “فنتي بيوتي” (Fenty Beauty) لمستحضرات التجميل و”سامسونغ” (Samsung) وشركة “سمارت كار” (Smart Car) ومجلة “كوزموبوليتان” (Cosmopolitan) الدولية، أعمالا للمرأة.

تحدت شودو غرام تصورات معايير الجمال في صناعة الأزياء، وتصدرت حملة دار الأزياء الفرنسية الفاخرة “بالمان” (Balmain) قبل خريف 2018، وحملة شركة الملابس الرياضية الإيطالية “أليس” (Ellesse). علاوة على ذلك، ظهرت على السجادة الحمراء في حفل توزيع جوائز الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون “بافتا” (BAFTA) لعام 2019، وفي تجربة فيديو في “دبي مول” لصالح مجلة “ڤوغ” المعنية بالموضة وأسلوب الحياة العربية، وأيضًا في صحيفة “ذا نيويوركر” وغيرها العديد.

قطعت غرام خطوات كبيرة في الدفاع عن الجنس البشري الافتراضي بعد أن كان هناك نوع من التحيز ضد عارضات الأزياء ذوات البشرة السوداء، ومن النادر اختيارهن للترويج للعلامت التجارية العالمية، لذا فهي تمثل السمراوات وتستلهم منهن، وكما يقول كاميرون، فإن الهدف من إنشاء غرام هو نشر التمكين والشمولية.

من خلال تصميمها، تقتدي غرام بعارضات أزياء حقيقيات، إذ إن عينيها مستوحاة من عيون عارضة الأزياء الصومالية زارا محمد عبد المجيد مع تجاويفها العميقة الجميلة، لكن مظهرها مستوحى من دمية باربي المسماة “أميرة جنوب أفريقيا”، التي ترتدي حلقات حول رقبتها، مثل غرام.

بدأت ردود أفعال وسائل التواصل تجاه شودو غرام تتغير، ومن الغريب أنه حتى أولئك الذين يبدو أنهم يعرفون أنها ليست بشرية يستمرون في التعبير عن إعجابهم بجمالها، وكان من بين معجبيها مشاهير سود مثل الممثل الأميركي مايكل بي جوردان، والملحنة أليسيا كيز، والممثلة الأميركية تايرا بانكس، وعارضة الأزياء البريطانية ناعومي كامبل، التي انتقدت في الماضي صناعة الأزياء بسبب افتقارها التاريخي إلى تمثيل السود.

ولم تكن غرام أول عارضة أزياء افتراضية اقترنت بالشخصيات المؤثرة في عالم الموضة والأزياء، فقد سبقتها الشابة البرازيلية الأميركية المنمشة ميكيلا سوزا، أو ليل ميكيلا، التي تعرض الملابس والإكسسوارات وتروِّج للقضايا الاجتماعية على وسائل التواصل منذ ظهور أول منشور لها على إنستغرام يوم 23 أبريل/نيسان 2016.

ميكيلا هي حاليًا أحد المؤثرين الافتراضيين الرائدين في العالم، ولديها الآن أكثر من 2.6 مليون متابع على إنستغرام، وأيضًا 1.1 مليون متابع على فيسبوك، و276 ألف مشترك على يويتوب، و3.5 ملايين متابع على تيك توك، وهي تنشر بشكل رئيسي مواضيع عن الموضة وأسلوب الحياة وحياتها الافتراضية.

كموسيقية، أصدرت ميكيلا العديد من الأغاني الفردية وبالتعاون مع المصدر الأول لموسيقى التمارين الرياضية في العالم “باور ميوزيك”. علاوة على ذلك، فإن موسيقاها متاحة على سبوتفاي وسوندكلاود ويوتيوب ميوزيك، وقد تم تشغيل أغنيتها “نوت ماين” (Not Mine) ما يقرب من 1.5 مليون على سبوتيفاي.

وبعد أن تم اختيارها كواحدة من أكثر الأشخاص تأثيرًا في مجلة “تايم” في عام 2018، ظهرت في إعلانات دار الأزياء الإيطالية الفاخرة “برادا” (Prada)، وبدأت مهنة الغناء، وظهرت في حملة دار الأزياء الأميركية “كلفن كلين” (Calvin Klein)، وعملت مع علامات تجارية مثل سامسونغ وسلسلة المتاجر الأميركية “بارنيز” (Barneys)، وشركة الأحذية الأميركية “يو جي جي” (UGG) المعروفة في المقام الأول بأحذية جلد الغنم، ودار الأزياء الفرنسية “بالنسياغا” (Balenciaga) وشركة “شانيل” (Chanel) الفرنسية لتصميم الأزياء الراقية، وشركة الملابس الأميركية “آوتدور فوايسيز” (Outdoor Voices).

كما تم تصويرها مع العديد من المشاهير بما في ذلك الممثلة وعارضة الأزياء البريطانية ميلي بوبي براون، والكوميدي الأميركي شين داوسون والموسيقي والملحن الأميركي نايل جريجوري رودجرز جونيور، علاوة على ذلك، فقد ظهرت في العديد من الصحف مثل “فوغ” و”الغارديان” و”ذا كت” (The Cut)، و”ريفاينري 29″ (Refinery29).

تم تصميم ميكيلا وشودو وغيرهما من المؤثرين الافتراضيين باستخدام رسوميات حاسوبية، ويمتلك منشئوهم حسابات خاصة بهم في وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكن أن يكون هؤلاء المبدعون أفرادًا أو شركات أو وكالات وسيطة أو علامات تجارية.

على سبيل المثال، ترددت شائعات عن عارضة الأزياء البريطانية إميلي بادور بأنها عارضة الأزياء والموسيقية ليل ميكيلا، لكن في عام 2018 أعلنت شركة “برود” (Brud)، وهي شركة ناشئة يوجد مقرها في لوس أنجلوس بقيادة تريفور ماكفيدريس، أنها هي مَن ابتكرت ميكيلا.

ويتصرف المؤثرين الافتراضيون مثل نظرائهم الحقيقيين الذين ينشرون الصور ومقاطع الفيديو من حياتهم، ويضمن منشئوهم منحهم حياة اجتماعية وحياة عمل وآراء شخصية وآراء سياسية وعلاقات وما إلى ذلك.

على سبيل المثال، تقضي غرام وقتها في التقاط الصور في مواقع التصوير الغامضة لعرض قطع الأزياء المبهرة، ولديها 240 ألف متابع على إنستغرام، من بينهم العديد من الأصدقاء الافتراضيين، وتبدو دائمًا في أفضل حالاتها.

وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، اقتحمت مؤثرة مغربية افتراضية مصنوعة بالذكاء الاصطناعي تدعى كنزة ليلى مجالي الموضة والجمال، وتعرف نفسها بأنها “روح افتراضية”، ووصل عدد متابعيها إلى أكثر من 190 ألف متابع منذ تدشين حسابها على إنستغرام.

وأصبحت كنزة حديث وسائل التواصل الاجتماعي في المغرب بعد مشاركتها صورا وفيديوهات ليومياتها بإطلالات ذات طابع مغربي، وساعدت قدرتها على الحركة والتفاعل مع جمهورها بلهجة مغربية محلية متقنة في جذب المعلنين إلى حسابها للترويج لماركات ومنتجات الموضة والجمال والمعالم السياحة المغربية، حتى إن المتابعين لم يصدقوا أنها مصنوعة بالذكاء الاصطناعي بسبب التلقائية التي تتحدث بها.

الكشف عن معايير الجمال المشوهة

لا يقتصر صعود الذكاء الاصطناعي في الموضة على عارضات الأزياء الافتراضيات اللاتي يعرضن الملابس، بل هناك أيضًا الشخصيات المؤثرة على وسائل التواصل والتي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي، والتي تأسر الجماهير بموجزاتها المنسقة وجمالها الخالي من العيوب، وكل ذلك يتم تقديمه بواسطة الخوارزميات.

ويصبح تأثير الذكاء الاصطناعي على معايير الجمال واضحًا بالنظر إلى دراسة أجرتها منظمة “مشروع البوليميا” (The Bulimia Project). في هذه الدراسة، طلب الباحثون من العديد من نماذج توليد الصور بالذكاء الاصطناعي الشهيرة -من مثل “Dall-E 2″، و”Stable Diffusion”، و”Midjourney”- إنشاء صور للحصول على رؤى حول صور الجمال والجسم المثالي لكل من الرجال والنساء، والتي يتم الترويج لها على وسائل التواصل الاجتماعي.

وكشفت النتائج التي استندت إلى صور الجمال من وسائل التواصل عن معايير بعيدة المنال تروج لها الخوارزميات، ويعزز انتشارها بين المستخدمين توقعات غير واقعية، ولهذه المعايير آثار كبيرة على الصحة العقلية، حيث تساهم في مشاكل مثل اضطرابات الأكل وتدني احترام الذات.

وكشفت الدراسة أيضًا عن بعض التحيزات التي يقوم عليها استخدام التكنولوجيا في قطاع التجميل. على سبيل المثال، تم تصوير النساء بشكل غير متناسب بشعر أشقر بينما يميل لون شعر الذكور إلى أن يكون أكثر قتامة، كما أظهرت الصور تحيزًا عاما تجاه العارضات ذوات البشرة الزيتونية والعيون البنية للنساء من الجنسين.

وتعكس هذه الصور تأثير كلا من تقنيات التصوير الفوتوغرافي الاحترافي واستخدام الفلاتر على وسائل التواصل مثل سناب شات، حيث أظهر ما يقرب من 40% من صور الرجال والنساء، التي تم إنشاؤها بواسطة مولدات الصور بالذكاء الاصطناعي التي يتم تدريبها على مثل هذا المحتوى، أنواعًا غير واقعية من الأجسام، مما أدى إلى إدامة معايير الجمال غير الواقعية.

ويشير الباحثون إلى أن هذا قد يكون انعكاسًا لميل خوارزميات الوسائط الاجتماعية التي يراها المستخدمون مدة أطول من الوقت ولكن الأمر الأكثر بروزًا هو المظهر المشوه إلى حد ما للعديد من الشخصيات التي تم إنشاؤها مع تحديد العضلات المبالغ فيه والجذوع الممدودة وملامح الوجه الحادة والمصطنعة بشكل غير طبيعي.

وكما يوضح “مشروع بوليميا”، فإن هذه الصور تقدم لمستخدميها معايير جمال غير واقعية ولا يمكن تحقيقها في الغالب، والتي يمكن أن تؤدي إلى مشكلات حادة تتعلق باحترام الذات بين المستخدمين الضعفاء.

في أعقاب هذا البحث، شجع “مشروع بوليميا” المستخدمين على تجنب مقارنة أنفسهم بالصور التي تصور معايير الجمال المثالية خاصة أنهم يدينون بوجودها إلى التلاعب بالصور بدلاً من أي منتج أو نظام تجميل.

ولطالما تعرضت وسائل التواصل الاجتماعي منذ مدة طويلة لانتقادات لعرضها أنواع الجسم المثالية التي غالبًا ما تكون بعيدة المنال بالنسبة لغالبية المستخدمين، ويتم تصويرها على حسابات وسائل التواصل مثل تيك توك وإنستغرام وسناب شات، وتسهم هذه الوسائل في إدامة معايير الجمال غير الواقعية، خاصة بين الأفراد الضعفاء بمن في ذلك الأطفال.

معادلة جديدة لمعايير الجمال

في السنوات الأخيرة، تركت التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي علامة لا تمحى على كل صناعة تقريبًا، حيث وصلت إيرادات السوق صناعة الذكاء الاصطناعي إلى 86.9 مليار دولار في عام 2022، وفقًا لمجلة “فوربس”، ويُتوقع أن تستمر مداخل الذكاء الاصطناعي في الزيادة لتصل حجم السوق إلى 407 مليارات دولار بحلول عام 2027.

ولم يكن قطاع التجميل استثناءً، فقد أحدثت التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تحولاً جذريا في كيفية تفاعل المستهلكين مع منتجات التجميل وتجار التجزئة، بدءًا من تطبيقات التجربة الافتراضية وحتى توصيات العناية بالبشرة المخصصة.

وتظهر مولدات الصور المجانية والمدفوعة عبر الإنترنت أشخاصًا غير موجودين يتم استخدامهم في الموضة والتسويق، وهم جميعًا منتشرون على وسائل التواصل الاجتماعي.

على سبيل المثال، وفقًا لصحيفة “الإندبندنت”، فإن “الناس مهووسون بشخصية مؤثرة افتراضية تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي تدعى ميلا صوفيا”.

الفتاة الافتراضية التي تبلغ من العمر 24 عامًا ويُشار إليها أحيانًا على أنها في عمر 19 عامًا، هي أحدث مؤثرة افتراضية في مجال الذكاء الاصطناعي، والتي تصدرت العناوين الرئيسية في الأشهر الأخيرة، وارتفعت شعبيتها على وسائل التواصل، حيث يشارك منشئها مظهرها المصطنع مع أكثر من 158 ألف متابع على إنستغرام، وحوالي 130 ألف متابع على تيك توك حتى الآن.

وتوثق مؤثرة الذكاء الاصطناعي في منشوراتها مغامراتها وحياتها اليومية التي تتضمن عددًا من الإجازات الفاخرة، وتعرض أيضًا مجموعة متنوعة من الأساليب المختلفة، بدءًا من البكيني الذي ترتديه على الشاطئ، وفساتين السهرة للخروج ليلا، أو السترات ذات اللون الداكن للمكتب، وتحملت مؤخرًا مسؤولية جديدةن وهي التعاون مع متجر فنلندي عبر الإنترنت يسمى تيليلوري (tyyliluuri).

وأثارت المؤثرة الصاعدة -ذات الشعر الأشقر الفاتح والعينين الزرقاوين- ردود فعل منقسمة للغاية حول سبب وجودها، وهي الآن في خضم “التفكير في العلامة التجارية التي ستصبح سفيرة للأزياء” لها، كما تصف نفسها بأنها عارضة أزياء “تجلب منظورًا مستقبليًا لا مثيل له إلى عالم الموضة”.

ومع ذلك، شكك آخرون في زملائهم من مستخدمي إنستغرام لأنهم على ما يبدو أصبحوا مهووسين بامرأة غير حقيقية، حيث كتب أحدهم “لا أستطيع أن أصدق عدد الرجال الذين أصبحوا مجنونين تمامًا بشأن إنشاء الذكاء الاصطناعي”.

وهناك مصدر قلق آخر بشأن ميلا تمت مناقشته على نطاق واسع في التعليقات على منشوراتها على إنستغرام، ويتمثل في كيف يمكن أن يؤثر مظهرها سلبًا على تصورات الجمال.

وفي الآونة الأخيرة، تصدر المطور الذي يقف وراء إنشاء المؤثرة الافتراضية الأخبار بعد أن سألته الصحيفة البريطانية عما إذا كانت الفتاة الشقراء تمثل مثالًا سيئا لتوقعات مظهر المرأة، وجاءت الأسئلة ردًا على تعليقات تشير إلى أن صوفيا تقدم مثالاً سيئًا للشابات.

وكان رد منشئ صوفيا أن معايير الجمال الحالية هي مشكلة مجتمعية وليست مشكلة تقنيات ناشئة، وأن المؤثرين على وسائل التواصل يقومون بتحرير المحتوى الخاص بهم وتعديله طوال الوقت، وتحظى “الفلاتر” المختلفة بشعبية كبيرة، مضيفًا أن العديد من العارضات والمؤثرات خضعن لعمليات تجميلية، لذا فقد تم تشويه فكرة الجمال بالفعل لمدة طويلة.

لم يكن وكيل ميلا ليس الوحيد الذي يواجه انتقادات بشأن مفهوم المؤثرين في مجال الذكاء الاصطناعي، ففي أغسطس/آب 2022، تعرضت العلامة التجارية الأميركية لبيع الملابس بالتجزئة “باك صن” (PacSun) لرد فعل عنيف بعد أن كشفت أن أحدث متحدث رسمي باسمها كانت المؤثرة الافتراضية ليل ميكيلا، وهي عارضة الأزياء والمغنية الأميركية الموجودة فقط على الإنترنت.

وفي عام 2021، قالت جينيفر ميلز، أستاذة علم النفس في جامعة يورك، والتي أكملت بحثها الخاص حول تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، لمجلة “فوربس” إنها قبل فترة طويلة من طفرة الذكاء الاصطناعي كانت “تسمع المرضى والطلاب يتحدثون عن شعورهم تجاه وسائل التواصل الاجتماعي والضغط الذي يشعرون به”، ليظهروا بطريقة معينة بناءً على مقارنة أنفسهم بما ينشره الآخرون.

وأضافت ميلز “كنت أسمع من العملاء الذين يعانون من اضطرابات الأكل أنهم سيشاهدون محتوى مؤيدًا لفقدان الشهية، ويشعرون بأنهم مجبرون على متابعة هذا النوع من الحسابات، حتى عندما يعلمون أنها ضارة جدًا بصحتهم”.

ليس هناك شك في أن متابعة مؤثري الذكاء الاصطناعي سوف يؤدي إلى تفاقم العديد من القضايا التي تتحدث عنها ميلز، ولكن في المرحلة الحالية، فإن الإشارة إلى أن المؤثرين الافتراضيين الشبيهين بالبشر سيؤثرون بشكل خطير على الشباب منحت الكثير من الفضل للمحتوى الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي.

الجوانب المظلمة للجمال الاصطناعي

في السنوات الأخيرة، حقق الذكاء الاصطناعي أيضًا نجاحات كبيرة في صناعة التجميل، وأحدث ثورة في كيفية رؤيتنا لأنفسنا، مما أدى إلى ظهور منتجات وخدمات مبتكرة تعد بتعزيز مظهرنا الجسدي، وتوفر هذه التطورات فرصًا جديدة ومثيرة للتعبير عن الذات والإبداع.

ومع ذلك، من ناحية أخرى، فإنها تثير أسئلة أخلاقية واجتماعية مهمة حول طبيعة الجمال، ودور التكنولوجيا في تشكيل صورتنا الذاتية، والمخاطر والأضرار المحتملة المرتبطة بالجمال بمساعدة الذكاء الاصطناعي.

مع تقدم التكنولوجيا، تزايد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ونشأت الحاجة إلى إظهار صورة مثالية للمتابعين. يريد الأشخاص عرض أفضل صورهم وأسعد اللحظات وأفضل الحالة المزاجية.

لعب الذكاء الاصطناعي دورًا أساسيًا في وسائل التواصل، حيث أنشأ “فلاتر تحسين الجمال” التي تعتمد على تقنية الواقع المعزز. تعمل هذه “الفلاتر” على تعديل مظهر الشخص لإنشاء بشرة أكثر نعومة وإشراقًا، وعيون أكبر، وشفاه ممتلئة، وأنف أفطس، ووجه أنحف، من بين أشياء أخرى. كل هذه التغييرات تزيل السمات الفريدة لكل شخص، وتجعل كل الوجوه تصل إلى مستوى الجمال الاصطناعي.

لا تقوم “الفلاتر” بتغيير مفهوم الجمال وتعديل سمات الوجه فحسب، بل تم استخدامها أيضًا على وجوه الأشخاص للترويج للعلامات التجارية، أو التشبه بالحيوانات (مثل فلتر الكلاب الشهير) أو تجسيد شخصيات القصص الخيالية.

تم إنشاء هذه الفلاتر من خلال تحليل الصور على نطاق واسع في وسائل التواصل، وعلى وجه التحديد، فهي نتيجة لتقنية الذكاء الاصطناعي التي تسمى شبكات الخصومة التوليدية أو الشبكات التوليدية التنافسية “جي إيه إن” (GAN)، لكن أحد الفلاتر الأكثر إثارة للجدل مؤخرًا هو فلتر “بولد غلامور” (Bold Glamour) على تيك توك، على عكس الفلاتر الأخرى، يلتصق هذا الفلتر بوجه المستخدم بحيث لا يختفي عندما يلمس المستخدم وجهه أو يضع يده أمامه.

من الطبيعي أن ترغب في إظهار صورة مثالية للمتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن دراسة أجراها باحثون في جامعة سيتي بلندن في عام 2021 كشفت أن “فلاتر التجميل” تشوه صورة الجسم، وتزيد من خطر تدني احترام الذات.

ومن نتائج الدراسة حول التأثيرات الضارة للفلاتر على تقدير الذات والصحة النفسية، أن 94% من المشاركات شعرن بالضغط لتقديم أنفسهن على أنهن مرحات وسعيدات واجتماعيات، فضلًا عن كونهن جميلات دون عناء، وقال أكثر من نصف المشاركين إنهم شعروا بضغط شديد، وشعر 70% بالضغط لإظهار “حياة مثالية”، وقال 86% إن ما أظهروه على وسائل التواصل لا يعكس حياتهم الحقيقية.

وعلى الرغم من ذلك، فإن للذكاء الاصطناعي أثرا إيجابيا في صناعة التجميل. على سبيل المثال، يمكن تنفيذ اختبارات الماكياج الافتراضية باستخدام تقنية الواقع المعزز لاختبار منتجات الماكياج المختلفة بدقة كبيرة. وينبغي أن نتبنى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بطريقة مفيدة، بدلاً من الامتثال لمعايير الجمال الضارة.

محاولة للتنوع

يلتزم الجميع بالأجسام النمطية ذاتها التي كانت شائعة دائمًا، في حين لا يوجد خيارات لإنشاء شخصيات بعينها أو منحهم ميزات غالبًا ما ترتبط بهم، وبالتالي لا يمكنهم رؤية أنفسهم ممثلين في هذه المساحات.

ويشير أنصار الذكاء الاصطناعي إلى قدرته على إحداث ثورة وإعادة تعريف نطاق التجربة الإنسانية، ولكنه يقوم حاليًا بعمل أفضل في عكس تحيزات العالم الحقيقي بدلاً من تحديها.

وتقدم هذه التكنولوجيا إمكانيات لا حدود لها على ما يبدو في المستقبل، وهناك شركات تستخدم بالفعل هذه التكنولوجيا للترويج لعلاماتها التجارية وزيادة الوعي بها وتعزيز الثقة بين الشركات والعملاء، وبالتالي القيام بوظائف كان يؤديها حتى الآن أناس حقيقيون، مثل عارضات الأزياء الحقيقيات.

على سبيل المثال، وصلت القيمة السوقية للشركة التي تقف خلف المؤثرة الأميركية ليل ميكيلا إلى 125 مليون دولار، وحصلت على عروض من مستثمرين بملايين الدولارات، مما يعني مزاحمة هذه الشخصيات للمؤثرين الحقيقيين في تحقيق أرباح دون جهد أو عناء، مع عدم الاضطرار بالضرورة إلى اتباع القواعد نفسها فيما يتعلق بالمحتوى المدعوم الذي يتبعه المؤثرون الحقيقيون، وهي ثغرة يمكن أن تستخدمها العلامات التجارية لصالحها.

ويجد بعض خبراء الإعلام والتسويق هذا الأمر مثيرًا للقلق، فمن ناحية، يكون الأشخاص الذين لا يدركون هذا الاتجاه عرضة للتلاعب بموجة جديدة من التسويق، ولكن من ناحية أخرى، تفتح التقنية شكلاً من أشكال الفن الذي يمكن من خلاله التعبير عن فئات متنوعة من المجتمع بطريقة جديدة ومثيرة.

وهناك بالفعل أمثلة لنماذج الذكاء الاصطناعي أكثر تنوعًا، ولكن في كثير من الأحيان لا يكون الأشخاص الذين يكسبون المال منها متنوعين مثل الصور التي يقدمونها، وهذا يعني أن هذا الواقع المزيف يقدم تحديات أساسية حول تنوع التمثيل والتنوع والشمول.

هذا التنوع يمكن أن يكون أفضل في عالم الذكاء الاصطناعي منه في صناعة النمذجة التقليدية، فإذا كنت ترى مجموعة متنوعة من الأجساد ولا ترى نفسك مُمثلًا، فسوف تكافح طوال حياتك لإظهار مثل هذه الأفكار الجمالية المصقولة والمولدة بالكامل بالحاسوب.

وفي محاولة لمعالجة قضايا التنوع، عمل كاميرون جيمس مع منظمة متلازمة داون الدولية لإنشاء “كامي”، وهي مؤثرة افتراضية عمل جميس مع أكثر من مئة امرأة مختلفة مصابة بمتلازمة داون من أجل إنشاء شخصيتها ووجهها وملامحها، تم عرضها منذ ذلك الحين في باريس.

لكنه في الواقع يخلق معايير للجمال ليست فقط غير قابلة للتحقيق، بل غير حقيقية تمامًا، وبينما تسعى شركات التكنولوجيا المتعددة لمعالجة هذه المشكلات، يبقى السؤال مطروحا: هل يمكن أن يكون التنوع الحقيقي مجرد تعديل خوارزمي؟

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © الإمارات اليوم. جميع حقوق النشر محفوظة.
Exit mobile version